د. علي المؤمن ||
"الأموية" عقيدة دينية سياسية، عميقة التأثير في تاريخ المسلمين وحاضرهم، ولاتزال قائمة بكل أبعادها ومفاهيمها وسلوكياتها، وهي ليست عنواناً لدولة بائدة أو حكم أسرة استولت على مقدرات المسلمين في مرحلة ماضية. مايعني أن الحديث عن العقيدة الأموية ليس حديثاً تاريخياً ولا اجتراراً لماضٍ أُسدل الستار عليه، ولا أفكاراً اندثرت، كما قد يبدو لغير المتتبعين؛ بل هو حديث متجدد عن عقيدة خطيرة كانت ولاتزال تكيد بالإسلام وتعمل بتركيز على اختطافه والسيطرة على الواقع الإسلامي، بكل أساليب الترغيب والترهيب، بدءاً بخلق البدع والمفاهيم العقدية والفقهية والسلوكية المنحرفة، وانتهاء بإغداق المال الحرام، والقصف الدعائي المركّز، والقمع والتشريد والإقصاء، وقتل الصالحين والمقابر الجماعية.
وتتشكل الايديولوجية الأموية من خليط غريب من المضامين الثيوقراطية الدينية والتطبيقات العلمانية السياسية، وقد ظهرت كنسخة عربية من الثيوقراطيات الأوربية والشرق آسيوية في العصور الوسطى؛ بل أنها تتطابق مع النموذج الثيوقراطي - السياسي الذي أسسه الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول، الذي منح نفسه لقب القديس، وأعلن بأنه الوريث الديني والزمني الحصري للسيد المسيح، وأنه تجلي الرب على الأرض. وبالتعكز على هذه العقيدة الدينية ــ السياسية؛ سحق قسطنطين جميع معارضيه السياسيين والدينيين، بمن فيهم النصارى المتمسكين بالعقيدة الأولى للسيد المسيح. وبذلك؛ أسس قسطنطين ديناً جديداً ينتسب الى السيد المسيح، لكنه في الايديولوجيا والسلوك ينتمي الى الإمبراطور قسطنطين.
وتماهياً مع النموذج القسطنطيني، خلق السلطان الأموي معاوية بن أبي سفيان عقيدة جديدة أيضاً، تنتسب اسمياً الى رسول الإسلام، لكنها في الحقيقة عقيدة سلطوية أرضية من صنعه، استند فيها الى دعامتين متداخلتين تكمل أحداهما الأخرى، وتجتمعان معاً في شخصية الملك الأموي، بوصفه الوريث الديني والزمني الحصري لرسول الله أيضاً:
الأولى: الدعامة السياسية العلمانية، التي تتمظهر في السلطة السياسية للملك الأموي، والتي تحدد للمؤسسة الدينية التنفيذية دورها وصلاحياتها في إطار حركة الدولة.
الثانية: الدعامة الدينية الثيوقراطية، وتتمظهر في السلطة الدينية للملك الاموي، وهي التي تشرعن للمؤسسة السياسية التنفيذية ايديولوجيتها وفقهها السلطاني وسلوكياتها.
ولكل من الدعامتين المذكورتين مقوماتهما الفكرية وثقافتهما ووسائل تطبيقهما وسلوكياتهما، ويستخدمهما الملك الأموي بأساليب منظمة وممنهجة وفقاً للحاجة والظرف.
وهاتان الدعامتان لاتزالان حاضرتان بقوة في واقع المسلمين الديني والسياسي، ولهما تجلياتهما الحقيقية على الأرض. وأبرز تطبيق لهما هي سلطة ملوك آل سعود الوهابيين، والتي تمثل النموذج القائم لايديولوجيا آل أمية في دعامتيها الدينية الثيوقراطية والسياسية العلمانية.
أما العقيدة البعثية؛ فإنها تمثل الدعامة العلمانية السياسية للعقيدة الأموية المعاصرة، أي اليسار السياسي الشوفيني الأموي، الذي يكمل العقيدة اليمينية الوهابية السعودية التي تمثل الدعامتين معاً، وإن كانت دعامتها الدينية السلطوية أكثر وضوحاً؛ كون العقيدة الوهابية السعودية تتبنى القواعد الثيوقراطية في شرعنة سلطتها السياسية ــ الدينية. وبذلك؛ يتفوق اليمين الوهابي السعودي على اليسار البعثي العراقي بتطرفه المذهبي التكفيري، بينما يتفوق البعث العراقي على الوهابية السعودية في عنصريته القومية.
ومن الضروري- كما ذكرنا في مقالات سابقة- عدم الخلط بين العقيدة الأموية وبين المذاهب السنية، كالحنفية والشافعية والمالكية، فهذه المذاهب السنية أسسها فقهاء حقيقيون، استطاعوا الابتعاد عن سطوة الدين الأموي وتأسيس مذاهب إسلامية تستند الى القرآن وسنة رسول الله، فضلاً عن أنها تنتمي الى العقيدتين الأشعرية والمعتزلية في الأصول، واللتين يكفرهما التيميون والوهابيون. ولايزال أتباع المذاهب السنية يتبعون سيرة فقهائهم ومتكلميهم ومحدثيهم السلف والمعاصرين، ولايقرون ما أحدثه ابن تيمية من بدع في الدين.
ولذلك؛ فإن المدرستين الأمويتين المعاصرين: الوهابية والبعثية، لا تنتميان الى المذاهب السنية عقدياً وفقهياً وسلوكياً؛ فالوهابية تنتمي الى عقيدة الشيخ أحمد بن تيمية الذي عاش حياته طريد المذاهب الإسلامية السنية، بل كفّره كثير من علمائها، وهو ما حصل أيضاً مع امتداده محمد بن عبد الوهاب، مؤسس التيمية الجديدة (الوهابية السعودية)، الذي أفتى أغلب علماء السنة في زمانه بأنه خارج على الدين والملة. وينطبق الأمر أيضاً على التنظيمات التكفيرية المتفرعة عن الوهابية الأموية، كالقاعدة ود١عش والنصرة وجيش الصحابة وأنصار السنة وغيرها؛ فهي تنظيمات عقدية أموية، وإن احتمت بالمذاهب السنية، وحاولت نسبة نفسها الى السنة؛ بهدف استثارة عواطف جمهور السنة واستقطابهم. في حين ينتمي حزب البعث الى الأموية السياسية الطائفية غير الدين
ية، وإن احتمى بالسنة وجعلهم حاضنة اجتماعية له.
وبالتالي؛ من الخطأ تحميل المذاهب السنية وأتباعها مسؤولية جرائم وأفكار الأمويين الجدد من أتباع المذهب الوهابي الثيوقراطي التكفيري، والمدرسة البعثية الطائفية العنصرية الإقصائية. كما ينبغي التنبه الى أن المذاهب الإسلامية السنية لا تنتمي الى الأموية القديمة أو المعاصرة.