د. حسين أحمد السرحان
مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
تتجه كثير من البلدان التي تعاني من عجز في موازنتها العامة الى الاقتراض ليضاف كجزء من ايرادات الموازنة وهذا ماشهدته كثير من بلدان التحول الاقتصادي في العالم العربي ودول اوروبا الشرقية خلال العقدين الاخيرين من القرن الماضي لمساعدتها في تحمل كُلف التحول الاقتصادي.
وتقوم المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد والبنك الدوليين وبعض الدول بتقديم تلك القروض كجزء من التزاماتها تجاه الوصفات الاقتصادية التي تقدمها للدول المقترضة. اذ يهتم صندوق النقد الدولي بالعمل في الامد القصير بهدف تحقيق الاستقرار النقدي، فيما يعمل البنك الدولي للإنشاء والتعمير في الامد الطويل ويهتم في التصحيح الهيكلي بعد تحقيق الاستقرار النقدي.
وشهد العراق تغييرا جذريا في فلسفتهِ الاقتصادية –مع عدم وضوحها– وأصبح يبتعد عن المركزية في التخطيط الاقتصادي ليكون أقرب الى آليات السوق بعد التغيير السياسي الذي شهده بعد نيسان 2003، وبالتحديد بعد توقيع اتفاق “خطاب النوايا” مع الصندوق في شباط 2004.
ولكن في الوقت الذي كان ينتظر ان يتم التحول الاقتصادي وان يقف المجتمع الدولي – دولا ومنظمات اقتصادية دولية – مع العراق ليتجاوز كلفة مرحلة التحول الى ان تأخذ اليات العرض والطلب طريقها الصحيح، نلاحظ ان الحكومات العراقية المتعاقبة لم تعمل على بناء اقتصاد يتضمن تنوع ايرادات الموازنة وعلى وفق اسس حديثة كما اكده الدستور الدائم لعام 2005 او ان يتم التحول الى اقتصاد السوق مع ان “نادي باريس” –تجمع الدول الدائنة– قد عمل على جدولة 80% من ديون العراق بعد تعهد الحكومة العراقية الالتزام باتفاق خطاب النوايا مع الصندوق.
هنا ظهر تأثير الاشكاليات السياسية التي تسيدت الوضع في العراق معرقلةً اي توجه لإبعاد الاقتصاد عن صيغته الريعية وتوسعه في الانفاق ومنها هدف (الاحزاب السياسية) بتوسيع قاعدة نفوذها في مساحتها الطائفية والحزبية مسخرةً بعض المال العام لذلك. ولأجل ذلك استخدمت المال السياسي لأغراض انتخابية وسياسية وزادت الانفاق العام. وهذا كان اول عصا تضعها الكتل السياسية في وجه الاصلاح الاقتصادي ساندها في ذلك الفساد وهدر المال العام الذي افضى الى ازمة سوء ادارة الموارد المالية بعد الازمة المركبة التي شهدها العراق بفعل سيطرة داعش الارهابي على مايقارب من نصف مساحة البلاد منتصف العام 2014، وانخفاض اسعار النفط نهاية العام ذاته.
اليوم وبفعل الازمة المركبة تلك اصبحت الحكومة العراقية –بعد سنوات من الفشل في تنويع ايرادات الموازنة الاتحادية– امام مرحلة استثنائية مما اضطرها الى توسيع الاقتراض لردم جزء من العجز في الموازنة بدءا من عام 2015 وحتى موازنة 2017.
ومع ان الحكومة نجحت في استدامة تلبية متطلبات الجانب الجاري في الموازنة لاسيما في جانبها التشغيلي (الرواتب والاعانات وتعويضات الموظفين) كونها المصدر للإنفاق العام في الاقتصاد مستعينة بالاحتياطي من العملة الصعبة وبالتالي حافظت على استدامة النشاط الاقتصادي نسبيا بالرغم من حالة الركود، الا ان ذلك لايعني ان نستمر بالاقتراض لزرق الموازنة بالأموال لسد العجز بل لابد من العمل على توظيف القروض لتنويع مصادر ايرادات الموازنة. وتفعيل الانفاق الاستثماري لإنشاء البنية التحتية المساعدة على تنشيط الاقتصاد وتجاوز حالة ركون النشاط الاقتصادي الى الرواتب والاعانات.
هذا الشيء مُدرك ومُؤشر من قبل كثيرين وهو مايفرضه العقل والمنطق. ولكن ماهو غير مشخص بدقة هو ما الذي يعيق الحكومة في العمل على ذلك علما ان القروض هدفها التنمية ؟؟
فالبنك الدولي ومنذ عام 2006 غير سياسته بشأن الاقراض ليكون هدفها مساعدة سياسات التنمية بدلا من دعم تصحيح الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد كما في منشور سياسات التنمية (OP/BP 8.60) (http/:www.worldbank.org/whatwedo). وأصبح البنك يمول مشاريع البنى التحتية مثل الكهرباء، الطرق والجسور، والموارد المائية وغيرها.
وكما هو ملاحظ فإن اتفاق الاستعداد الائتماني بين العراق وصندوق النقد الدولي لعام 2015 يتضمن بمجملة اشارات واضحة لدعم تنويع الاقتصاد الوطني بعد التركيز على هزيمة تنظيم داعش الارهابي لخفض الانفاق العسكري وفق مذكرة السياسات التي قدمتها الحكومة العراقية الى الصندوق والتي تضمنت التزاماتها تجاه الصندوق.
كذلك مع اتفاق الحكومة العراقية مع الجانب الاميركي على اتفاقية ضمان القرض السيادي بقيمة مليار دولار والذي دخل حيز التنفيذ في 7 كانون الثاني 2017. ذكر بيان للسفارة الاميركية أن “الحكومة العراقية وقعت اليوم على إتفاقية ضمان قرض مع الولايات المتحدة الامريكية وهذا التوقيع هو بمثابة الخطوة الأولى في العملية التي تتيح للعراق فرصة أكبر للدخول إلى أسواق رؤوس الأموال الدولية”. وأشار الى انه ” وبعد أن تم الإيفاء بالمتطلبات القانونية والأخذ بنظر الإعتبار إجراءات محددة، يمكن للعراق المضي قدماً ليصبح المستفيد من ضمان قرض سيادي من الولايات المتحدة الامريكية”. وأوضح البيان، ان “ضمان القرض يؤكد الإلتزام الدائم من الولايات المتحدة الأمريكية لشعب وحكومة العراق في معركتهما ضد داعش”، لافتا الى ان “تم تصميم ضمان القرض هذا لدعم العراق مالياً في سعيه الجاهد لاستكمال تحرير العراق من داعش ومواصلة الإصلاحات الإقتصادية المهمة من أجل إستعادة النمو والإزدهار”.
نعتقد ان الصعوبة في المستقبل لاتكمن في كيفية الايفاء بالالتزامات بل في كيفية مواجهة التحديات السياسية والتي هي بمثابة اشكاليات رافقت بناء الدولة العراقية بعد 2003. وفي مقدمتها ادارة الانفاق العام.
فالمنظمات الاقتصادية الدولية عندما تستهدف ترشيد الانفاق العام في اتفاقاتها مع البلدان المقترضة لا تبغي بذلك تخفيض الانفاق على خدمات التربية التعليم والصحة، فهذه الخدمات اساسية ولها بُعد اقتصادي مهم وهي داعمة للاقتصاد الوطني، بل تسعى الى الادارة الجيدة للإنفاق العام في جانبه التشغيلي (الرواتب والاعانات). في العراق نلاحظ تخفيض النفقات العامة على توفير الخدمات للمواطنين بشكل متزايد خلال السنوات الاخيرة في قوانين الموازنة الاتحادية. فيما بقيت الرواتب وتعويضات الموظفين في الدراجات الخاصة مرتفعة نسبياً.
وفي الوقت الذي اتخذت فيه الحكومة بعض الاجراءات باتجاه الاصلاح الا انها لم تكن في مسارها القانوني الصحيح كما في الغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية مما ادى الى عودة نواب الرئيس الى مناصبهم وحصولهم على استحقاقاتهم بالتالي لم يتغير شيء.
الاشكالية الاخرى هو الفساد وعدم اتخاذ خطوات جدية وحقيقية لمواجهته مما يعرقل اي جهود باتجاه الاصلاح الاقتصادي. ويتجلى الفساد في هدر الاموال المخصصة للجانب الاستثماري، وبعدم سيطرة الدولة بشكل كامل على منافذها الحدودية مما يؤثر سلبا على زيادة الايرادات غير النفطية. كذلك سيطرة أطراف سياسية (عبر شركات) على حركة الاستيراد والتصدير وعقود التجهيز ولذلك لا تفضل تلك الاطراف نشوء صناعة وزراعة محلية وتقف عائقا امام سياسات الحمائية التجارية وحماية المستهلك ومايترتب على ذلك من خروج للعملة الصعبة وتأثُر الاحتياطي في البنك المركزي تبعا لذلك.
كذلك شكل غياب الرؤية والفلسفة الواضحة للاقتصاد العراقي إطار جامع لكل هذه الاشكاليات. واحد اثار ذلك هو ترسخ ذهنية الدولة الريعية الابوية وتعطيل دور القطاع الخاص.
هذه الاشكاليات لاتوصد الباب امام الحكومة العراقية القريبة جدا من قضائها على الارهاب. بل تجعل الحكومة امام مسؤولية تجاوز تلك الاشكاليات والعمل بشكل جدي على تصحيح الاختلالات الهيكلية المرتبطة بالهيكل الانتاجي والسير في طريق التنمية والاستفادة من القروض في هذا المجال. كذلك لابد من الرشد في ادارة الانفاق العام مع اولوية تقديم خدمات الصحة والتربية والتعليم، وتوجيه القروض تجاه بناء البنى التحتية التي تمثل العامل المهم لتحفيز النشاط الاقتصادي، وتجاوز حالة سوء ادارة الانفاق العام لإبعاد شبح نقص السيولة الذي لايقل خطورة عن الارهاب.
فضلا عن ذلك يكمن التحدي الاخر في فرض الدولة لسيادتها على كافة اقليمها الجغرافي، وابعاد نفوذ الاحزاب المتنفذة عن المنافذ الحدودية وتخليصها من الفساد عبر اعتماد منظومات الكترونية وغيرها من الاجراءات.
https://telegram.me/buratha