دراسات

الأكاديميون في العراق ومعوقات الإبداع المعرفي..بقلم: د. خالد عليوي العرداوي/مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية

3129 08:59:00 2013-02-18

 

 

الأكاديمي في المجتمع هو ذلك الإنسان الذي أوقف حياته للتحصيل الدراسي من اجل الوصول إلى الدرجة العلمية التي تؤهله للبحث العلمي وتطوير المعرفة الإنسانية بنتاجاته المعرفية، فاختار حقل العلم كعنوان له ومصدر لرزقه ومنطلق لنشاطه واهتمامه، ففي الوقت الذي ركن غيره إلى الراحة والاستمتاع بمباهج الحياة على اختلاف أنواعها، تجد أن الأكاديمي لا يعرف طعما لهذه الراحة، إذ هو غارق أما ببحث أو مقال يكتبه أو كتاب يتصفحه وأما يتجول بين المكتبات بحثا عن المصادر الجديدة أو جالس في مختبر يجري تجاربه أو في قاعات الدرس يلقي محاضراته.. ويضيع من وقته الكثير مما كان يتمنى أن يقضيه مع أهله، وأولاده، وأقاربه، وجيرانه..

هذه حياة الأكاديمي وهي قطعا تختلف عن حياة غيره، وإذا كان لبلد ما أن ينهض علميا ويتقدم معرفيا ويرتقي حضاريا، فأجدر من يقوده في هذا السبيل من أبناءه هم الأكاديميون، حتى بات الاعتناء بهذه الفئة من المجتمع هاجسا محركا لكثير من خطط التنمية وبرامج الإصلاح، انطلاقا من حاجة الدول إليهم، وانسياقا مع برامج تنمية الموارد البشرية التي تجد أن أفضل مشاريع الاستثمار هي الاستثمار في ميدان الموارد البشرية بعد أن اكتشفت خطل المشاريع الاستثمارية التي تركز على تطوير البناء والآلة وتهمل الإنسان المشغل لها.

إن هذه المقدمة تعطينا تصورا مهما عن المركز المهم، والدور الخطير، والحياة الخاصة للأكاديميين، كما تقودنا باتجاه حقيقة أن الإبداع المعرفي إذا كان عند بعض الناس صدفة، فأنه عند الأكاديميين واجب وقفوا حياتهم له وتحملوا الكثير في سبيله ومسؤولية كبرى ألقاها المجتمع عليهم، ولكن لنجاح هذه الفئة في القيام بدورها الإبداعي الخلاق لا بد من تذليل العقبات التي تؤرقهم وتشغل بالهم من قبيل فتح آفاق الحرية الفكرية أمامهم، ومنع الاستبداد الفكري والإداري وأحيانا الجسدي الذي تمارسه بعض القوى السياسية والأنظمة السلطوية والمؤسسات الإدارية من اجل أدلجتهم أو تعليب أفكارهم في قوالب خاصة أو التجاوز على كرامتهم وحياتهم هذا من جانب.

 ومن جانب آخر لا بد من تيسير حصولهم على المعلومات الكافية في اختصاصاتهم سواء كانت المقروءة منها أو المسموعة أو المكتوبة، وتوفير البنية التحتية العلمية والمعيشية اللازمة من مؤسسات أكاديمية تنطوي على مكتبات متطورة ومتنوعة، وإنشاءات حديثة من قاعات ومختبرات وأماكن ترفيه مشيدة بعقول هندسية ذات رؤية معمارية متقدمة تفهم وسائل التعليم الحديثة وما تحتاجه من بيئة دقيقة تساعد العالم والمتعلم، وإدارات كفوءة تقود المؤسسات الأكاديمية وهي تعي خصوصيتها، فتفجر فيها عوامل الإبداع ومحفزات الارتقاء، فضلا عما يحتاجه الأكاديميون من تحرير لعقولهم من هواجس الحاجات الأساسية كالمأكل والمسكن والملبس وتكوين الأسرة وتوفير وسائل النقل المناسبة.. فيكونوا في تفرغ تام للدرس وتحصيل العلم وتطوير المعرفة.

 هذه هي باختصار الشروط الواجب توفرها لتنطلق مسيرة الإبداع عند الأكاديميين ومن ثم في المجتمع، لكن هذه الشروط على بساطتها وضرورتها نجدها استعصت على الحل في العراق اليوم، على الرغم مما يمتلكه هذا البلد من ثروات طائلة، وما يرفعه صناع القرار فيه من شعارات براقة فحواها تنمية الموارد البشرية واستقطاب الكفاءات وتحرير الفكر وتقدم الجامعات واستصلاح برامج التعليم، فبعد ثمانية سنوات من الوعود والعهود نجد أن الغالبية العظمى من الأكاديميين يسكنون بالإيجار أو مع أباءهم لعدم قدرتهم على شراء دار للسكن، في الوقت الذي حرمتهم دولتهم من حقهم في الحصول على قطعة سكنية لتشييد هذه الدار عليها، بحجة مساواتهم مع بقية موظفي الدولة وعدم تميزهم عليهم، وتقديم الأولوية في ذلك للشهداء والسجناء السياسيين والوزراء والمستشارين والنواب..

في الوقت الذي نجد أن هذه الحجة واهية، لأنه باستثناء قلة قليلة لم يحصل اغلب العراقيين على حقهم في قطعة ارض يسكنون عليها، وعند الاعتراض على هذا الإهمال الحكومي يرد بأن راتب الأستاذ الجامعي أعلى من غيره، في الوقت الذي نجد أن هذا الراتب لا يكاد يكفي إلا للحاجات الأساسية المرتبطة بالمأكل والملبس و لدى اغلب أفراد هذه الفئة..

وإذا انتقلنا من هذا الهاجس الأسري الذي اتعب أكاديمي العراق، وأعيتهم حيله مع سلطات أغلقت أبوابها في وجوههم إلى بيئة العمل التي يعيشون فيها تجد أن إدارات كثير من الجامعات غير قادرة على تثوير روح الإبداع فيها، بل تكاد تكون سبب في قتل وتشويه وطمس هذه الروح، لكونها لا تعرف نمط الإدارة الحديثة وما تتطلبه من شروط تحفيزية مادية ومعنوية، وكثير منها لا زال يتحرك بمنطق الدكتاتورية وقيمها العتيقة، لأنه في الدول التي تحررت من الحكم الطغياني كالعراق لا يكفي التحرر من الدكتاتور لبناء الديمقراطية، بل لا بد من التحرر من الدكتاتورية – أيضا – بكل ما تنطوي من قيم وقواعد وسلوكيات وهذا ما لا نجده قد تحقق لحد الآن في مؤسساتنا جميعا ومنها المؤسسة الأكاديمية، كما نجد أن اختيار بعض قيادات هذه المؤسسة تحكمه الولاءات السياسية الحزبية بدلا من الكفاءة والاستقلالية والنزاهة مما جعل بعضها يربط مصيره، وبقاءه في منصبه بمدى التزامه بهذا الولاءات واملاءاتها حتى بات ذلك ينعكس على مستوى أدائه وسلوكه داخل المؤسسة التي يقودها وخارجها، فضلا عما تقدم نجد أن وزارة التعليم العراقية لم تقم بدورها في التدوير الإداري داخل مؤسساتها التي لا زال كثير من قياداتها الإدارية كما هي منذ سقوط النظام وحتى يومنا هذا سواء على مستوى رؤساء الجامعات أو العمادات أو الأقسام، مما خلق نوع من الجمود والسلوك النمطي الواحد داخلها هذا من جهة.

ومن جهة أخرى لم تحاول طول هذه السنوات أن ترتقي بمستوى كوادرها الإدارية والتدريسية من خلال دورات تطويرية مناسبة داخل وخارج العراق، وإذا وجدت مثل هذه الدورات لم تحاول أن تصب جهود المنتمين إليها ببرامج خاصة تكفل الاستفادة القصوى منهم بحيث باتت هذه الدورات القليلة كأن لم تكن.

أما البنية التحتية للبنايات الجامعية فتفتقر هي الأخرى لكثير من الشروط اللازمة للغرض الذي من اجله أنشئت إذ كثير من تصاميمها تفتقر إلى رؤية معمارية متقدمة تدرك حاجات التعليم الحديث من حيث توزيع الرؤية البصرية، ومكان الأستاذ والطالب، ولون الجدار، وحجم الباب والشباك، فبات الكثير من قاعات الدرس عامل تشتيت لانتباه الجالسين فيها لا عامل تركيز وتشويق، كما تفتقر جامعاتنا إلى عناصر الترفيه المشجعة لتطوير التواصل الاجتماعي والتحرك الإبداعي، إذ لا توجد في كثير منها أندية ترفيهية حقيقية أو أماكن مناسبة للأنشطة الرياضية وغيرها، كما لا زالت مكتباتنا تشكو من النقص وتعاني من الإهمال، نعم لقد لمسنا تغيرا طفيفا في جامعاتنا منذ عام 2003، لكنه محدود جدا ودون مستوى الطموح كثيرا، وإزاء هكذا واقع مؤلم يعيشه معظم الأكاديميين العراقيين، نجد أن معوقات الإبداع المعرفي تكبلهم وتأسر انطلاقهم الخلاق، وأزالت هذه المعوقات تحتاج إلى تضافر جهود كثيرة ووضع برامج عمل حقيقية ومناسبة تدار من خلال كفاءات صادقة وقادرة لاسيما أن وزارة التعليم اليوم تحت إدارة جديدة نناشدها أن تنقذ التعليم العالي في هذا البلد، وتؤسس لمرحلة جديدة تثور ذخائر الإبداع المعرفي في بلد عانى كثيرا ويحتاج لعمل جميع أبنائه من اجل وضعه على طريق التقدم والازدهار.

* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

www.fcdrs.com

khalidchyad@yahoo.com

20/5/13218

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
التعليقات
خالد
2013-02-20
مع الاسف هذه هي الحقيقة المرة التي يعيشها الاستاذ الجامعي العراقي ... فانا استاذ مساعد ولدي خدمة عشرين سنة ولحد الان لم استلم او امتلك متر واحد في العراق ؟؟؟ وهذا هو حال العديد من زملائي .. وما زلت الى الان اسكن في بيت ابي ؟؟؟؟ فهل هذا منطق !!!! وهل يحصل هذا في الدول المجاورة وليست الاوربية ... المجتمعات ترتقي بعلمائها ومدى احترامهم له ... ؟؟؟؟
حسن المسعودي
2013-02-18
عاشت ايدك دكتور اتمنى من الحكومه العراقيه رصد ميزانيه مفتوحه للاكاديمين والباحثين في العراق .كل امة تحيى بعلمائها امة بلا علماء امة ميته لاحياة لها.
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك