بقلم: الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
توطئة:وفقا للتتابع العقلاني لحركة التاريخ لا يمكن إعتبار نهضة التحرر الاخيرة التي بدأت في الشمال الافريقي إلا موقفا يؤشر لواقعية التأثير الانساني في صناعة حركة التاريخ ووضع الشكل الاخير لنهاية العمر الافتراضي للدكتاتوريات العربية. (1). فعلى الرغم من اني لست من اتباع الفكر القومي غير اني اؤمن ان المجتمع العربي المعاصر يحتاج الى نهضة ثورية لاعادة تشكيل المنظومة السياسية بعيدا المنهج اللاعقلاني الذي افرزته نتائج الحربين العالميتين الاولى والثانية مما ادى الى ظهور المنظومة السلطوية التي بدأت ملامح انهيارها تتجسد.
لا شك ان اعتراف رئيس الوزراء البريطاني (ديفيد كامرون) بدعم المؤسسات الحكومية الغربية للانظمة الدكتاتورية في العالم العربي لم يقدم جديدا بقدر ما يعبر عن قلق اوربي وبريطاني بالاخص حول فشل المنظومة الاستعمارية المعاصرة التي ارادت لها بريطانيا والولايات المتحدة ان تحل محل الاشكال الكلاسيكية للاستعمار القديم، فشاه ايران وصدام والسادات وحسني مبارك ووالقذافي والملوك والامراء ما هم الا نتاج هذه الرؤية الاستعمارية التي وضعت قطع الشطرنج على رقعة الارض العربية والذين اسمتهم حكاما عرب والكثير منهم يفتقد الى الاصل العربي.
الثورة والثروة:ان اقتراب النظام اللليبي من نهايتة يطرح تساؤلا مزعجا داخل اروقة السياسة في المؤسسات السياسية الامريكية والاوربية على السواء حول مستقبل حركة تصدير النفط ومسارات نقل الثروة، فالمسافة بين الحدود الغربية لتونس والحدود الشرقية لمصر تمثل بضعة ألآف من الكيلومترات على الساحل الجنوبي للبحر الابيض المتوسط (2)، واذا تمكن الشعببين الجزائري والمغربي من الاطاحة بنظاميهما الحاكمين فهذا سيعني ان البحر الابيض المتوسط من مضيق جبل طارق وحتى قناة السويس سيصبح محكوما بمنظومة هي نتاج لفكر ثوري تحرري يبتعد كليا او جزئيا عن الهيمنة الغربية، وبالتالي فإن حركة تصدير النفط لن تكون لصالح الغرب بالتأكيد فدول الثورة ستبح عن اسواق جديدة لنقل الثروة.
من جانب آخر فان سيطرة دول الثورة على المضائق البحرية في البحرين المتوسط والاحمر وسيطرة ايران على مضيق هرمز سيجعل من شبه المستحيل على الغرب ان يحضى بفرصة لتحقيق غاياته في السيطرة على مصادر الثروة العربية.
ففي الوقت التي نصحت فيه التقارير الأقتصادية الدولية لعام (2010)، بايجاد حلول مستقبلية لصادرات نفط الخليج خوفا من حدوث اضطرابات مستقبلة تتطيح ببلدان النفط، عبر مد انابيب نفط من الخليج لتجتاز العراق الى البحر الابيض المتوسط أو تفعيل خط (العراق-حيفا) الذي يعرف بخط (H)، والذي كان ساريا خلال العهد الملكي السابق (3).
وهنا لايمكن تجاهل قضية البحرين باعتبارها الميناء الرئيسي للاسطول الخامس الامريكي الذي حل منذ التسعينات محل الاسطول السادس الشهير، فمن المهام الرئيسية للاسطول الخامس حماية الدول الخليجية المنتجة للنفط ومراقبة حركة ناقلات النفط اثناء عبورها لمضيق هرمز ، غير ان البحرية الايرانية ومنذ اواسط التسعينات تمكنت الى حد كبير من الحد من سيطرة الاسطول الخامس وهذا ما بات يقلق مراكز القرار في البنتاغون على رأي صحيفة (الواشنطن بوست).
وفي ضوء ذلك فان قيام اي تغيير في البحرين سيظيف على الولايات المتحدة عبئا جديدا في البحث عن موانيء آمنة للاسطول الخامس خاصة وان كل من الكويت وقطر والسعودية هي الاخرى مرشحة لاضطرابات سياسية محتملة وتغيير العروش او نهايتها صار اكثر امكانا في ضوء تراكم منظومة الفساد سياسيا واجتماعيا واقتصاديا.
مما لا شك فيه انه لا يمكن اخراج العامل الاقتصادي وبالذات النفط من المعادلة العربية - الدولية، ومن اجل ذلك يمكن للمؤسسات الغربية التغاضي عن الانظمة الدكتاتورية لفترة من الزمن (4)، أو على الاقل الى حين انتهاء عمرها الافتراضي او بالتحديد نهاية العمر الافتراضي للمنظومة الحاكمة في تلك الدول.
الشتاء العربي:يمكن العودة بالشتاء العربي تاريخيا الى بدايات العصر الثاني للدولة العباسية باستقدام العناصر التركية في الدولة واستعمالهم في الجيش وخاصة في عصر المعتصم العباسي (ت227هـ/841م) مما ادى الى ظهور صراع بين العناصر العربية في الجيش والعنصر التركي الذي اراده المعتصم ان يكون واجهة له في مقابل القيادات العربية في الجيش العباسي، وهذا الموقف هو الذي ادى الى ان يبني المعتصم مدينة سامراء لتكون مقرا للجيش التركي وعاصمة له في ذلك العصر (5).
منذ ذلك التاريخ وحتى نهاية الدولة العثمانية عاش العالم العربي تحت سيطرة خارجية وعندما جاء الاستعمار (البريطاني- الفرنسي- الايطالي) بعد وخلال الحربين العالميتين الاولى والثانية لم يتغير شيء إذ بقي العالم العربي محكوما من الغرب ثم تحولت هذه المستعمرات من السيطرة الاوربية الى السيطرة الامريكية منذ خمسينات وستينات القرن الماضي كما ذكرنا في دراساتنا التاريخية السابقة.
لا شك انه كان شتاء طويلا اقترب من الف عام من الصراعات السياسية والاجتماعية والمذهبية وحروبا لم يكن للمجتمع العربي (ناقة فيها ولا جمل) كما يقال في المثل، كان شتاءا طويلا شهد في بعض مراحلة انفراجات وانتفاضات هنا وهناك ودولا صغيرة تتاسس مستغلة مراحل ضعف الدول المهيمنة لكنها سرعان ما تنتهي او تختفي تحت ضغط حركة التاريخ.
الحرية كلمة!!الحرية كلمة تحتل مساحة بين الظلم والانعتاق، والحرية ليست نتيجة بقدر ما هي عملية تحقق للفعل الايجابي، غير ان للحرية زمن لا يحدده الماضي والآني والمستقبل بقدر ما تحدده ارادة الشعوب، فالامة هي من تصنع حركتها التحررية باعتبار انها لا تنفك عن تحقيق صيرورتها، وهي في حالة تفاعل لا تنتهي حتى وإن حاول بعض الطغاة العبث بحركة التاريخ.
يمكن القول ان حركة التحرر المعاصرة والتي مقدر لها ان تتطيح بكل الانظمة ستستمر بتفاعلاتها عبر عقول الشباب واجساد الشهداء المضرجة على ارض التحرر، فالذي حدث وما زال يحدث في تونس ومصر وليبيا والبحرين هو انعكاس واقعي وعقلاني لصيرورة الامة، فالتغيير سنن إلهية وتاريخية ولا يمكن للامم ان تعيش حالة ثبات وسكون الى ما لا نهاية، لقد جاءت حركة التحرر المعاصرة لتحرك بركة الصمت العربي ولتخرج العقل الانساني من ضحالة مستنقعات الجمود الفكري والتنظيري الى الفعل التأثيري، فبالتأكيد لم يتوقع زين العابدين بن علي او حسني مبارك ولا القذافي او ملك البحرين يخرج شباب مضحيا بزهرة العمر ليصنع مستقبلا قد لا يشهده هو اذا اصابت رصاصة قناص رأسه، فهؤلاء الشباب هم صناع حركة التاريخ الحقيقيون وهم فلاسفة التاريخ المعاصر، هؤلاء الشباب هم القيمة العليا للمجتمع وهم بناة الحضارة الاتية.
الحرية كلمة صادقة حد الوجع، صادقة بحجم اللوعة والدماء، بحجم الرؤية المستقبلية للحياة، وهل تبقى للحياة قيمة خارج انفاس امة سعت للتحرر؟.................1- أقرأ للباحث: (سقوط الملكيات القبلية وظهور الجمهوريات الملكية)، (نظرية الانهيار التسلسلي للانظمة الرأسمالية،الولايات المتحدة نموذجا)، وايضا (تنامي فكرة الخلاص وإنهيار جدار الخوف)، ( بدايات عصر التغيير العربي فشل الموروث الاستعماري) و(خطوات في العصر الامريكي الاخير)، فكل هذه الدراسات في فلسفة التاريخ وفلسفة نهاية التاريخ قد بشرت بنهاية الحقبة الاستعمارية المعاصرة وبالثورات الحالية في تونس ومصر وليبيا.2- يبلغ اقصى طول للبحر الابيض المتوسط من مضيق جبل طارق إلى الاسكندرونة على السواحل التركية (3540 كلم).3- راجع تقارير منظمة الطاقة وتقارير الاوبك وتقارير الاتحاد الاوربي لعام (2010م) بشأن نفط الخليج.4- عن حديث لرئيس الوزراء البريطاني ديفيد براون لمحطة البي بي سي حول اخطاء السياسة الغربية بدعم الدكتاتوريات العربية.5- عن مخطوطة كتاب (سامراء بين الاسطورة والتاريخ) وهو كتاب تحت الطبع الان للاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي.الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتيdr-albayati50@hotmail.co.ukhttp://al-muammal.blogspot.comالمملكة المتحدة - لندن26 / شباط / 2011
https://telegram.me/buratha