لقد ذكرنا أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب عاد من البصرة وحوله كوكبة من النصارى المستشرقين الإنكليز ، في صورة رقيق اشتراهم الشيخ خلال رحلته ، ولم يكن هؤلاء بطبيعة الحال إلا الجماعة المشرفة على المخطط المعد في وزارة المستعمرات البريطانية لإنشاء إسلام جديد ، يكون فيه الجهاد حياً نشيطاً ، وذلك نتيجة لتجربتهم المريرة مع المسلمين في شبه القارة الهندية الذين رفعوا راية الجهاد ضدَّ المستعمر الإنجليزي ، فرأى الإنجليز لزاماً عليهم – وهم أهل الدهاء والمكر- إن أرادوا البقاء في العالم الإسلامي فعليهم تصميم إسلام جديد يفرضونه على المسلمين فرضا ، فتم تصميم حركة جديدة صورتها صورة الإسلام داخل وزارة المستعمرات البريطانية ، وليكن تطبيقها بالقرب من أقدس أماكن المسلمين ؛ ولكن ما يميز هذه الحركة أن الجهاد هذه المرة مسلَّطٌ على رقاب المسلمين حيث أصبحوا مشركين عبدة قبور وأصنام في الشريعة الوهابية ، لا على رقاب دول الاستعمار ، كما كان حال المسلمين في العالم عموماً ، فاستحمَّ القتل في أهل شبه الجزيرة العربية ، ووصل إلى العراق وبعض بقاع بلاد الشام ، والوقوف أمام أي تحرك لجمع كلمة المسلمين.
لقد اهتم النصارى الإنجليز اهتماماً كبيراً برعاية الحركة الوهابية الناشئة ، كيف لا وفيها بارقة الأمل لا على القضاء على ذروة سنام الإسلام فحسب بل إلى شغل المسلمين بأنفسهم ، فأخذوا يرعونها بواسطة عملائهم ، منذ المستر هامفرد مروراً بشكسبير الذي قتل في معركة الجراب بين الوهابية وآل رشيد ثمَّ جون فيلبي ، وفي مقالنا هذا سنتعرض لهذه الشخصية بشيء من التعريف نتيجة لدورها في القيادة المباشرة للوهابية عسكرياً وسياسياً ردحاً طويلا من الدهر.
من هو فيلبي؟: هو الكولونيل هاري جون سانت فيلبي ولد في 3 أبريل 1885 في جزيرة سيلان (سريلانكا) ، وانتقل إلى بربطانيا سنة 1891 وأكمل دراسته في جامعة كامبردج سنة 1907 ، ثم درس التاريخ والقانون الهندي ، وتعلم اللغات الفرنسية والألمانية والهندستانية والفارسية والعربية ، وعاد إلى الشرق ضمن أفواج المخابرات البريطانية ، أمثال كتشنر ولورنس ومكماهون ، وكوكس ومس بل وكلايتون ، وغلوب وولسون. وهو والد هارولد كيم فيلبي الذي كان دبلوماسياً بريطانياً رفيع المستوى ، ومن كبار ضباط الاستخبارات البريطانية ، ولكنه في نفس الوقت كان عميلاً مزدوجاً للمخابرات الروسية (كي . جي.بي) ، ثمَّ هرب بعد إلى روسيا عام 1936م بعد افتضاح أمره ، وقد ذكر قصته (بيتر رايت) في كتابه الشهير (صائد الجواسيس) ، وهكذا كان الأب جون فيلبي حيث اشتهر بازدواجية العمالة للمخابرات الأمريكية (سي.آي.إيه.) ، مع عمله في المخابرات البريطانية. استدعي الشيخ فيلبي! للإشراف على سير الحركة الوهابية مباشرة بعد مقتل الكابتن شكسبير في معركة الجراب سنة 1915، في مواجهة آل رشيد الذين رأت فيهم بريطانيا ولاءً للسلطة العثمانية ، فاستطاع الوهابية مشاغلتهم فلم ينجدوا السلطة العثمانية ساعة احتلال القوات البريطانية للبصرة. بعد انسحاب القوات الوهابية إلى بريدة وانسحاب آل رشيد إلى القصيم ، وصل فيلبي الخبير من المخابرات البريطانية داعماً الإستراتيجية الهادفة إلى شغل المسلمين بأنفسهم ، واللعب بأذهان الأتراك خلال الحرب الكونية الأولى ، فكان أن حرَّك القوات الوهابية على محورين:
المحور الأول : قتال آل رشيد في الشمال الشرقي. المحور الثاني : قتال الشرفاء في الحجاز. فبالنسبة للمحور الأول ؛ ففي سنة 1917 أوفدت بريطانيا حسب ما ذكره ديكسون في كتابه (الكويت وجاراتها) كلاً من الكولونيل هاميلتون والكولونيل كانليف أوين ممثلي المخابرات البريطانية في العراق من البصرة إلى نجد لدفع الوهابية لاستئناف التحرشات بابن رشيد ، وذلك لدى بدء الزحف على العراق ، وقد تم الاتفاق مع الوهابية على المباشرة بمهمتهم فور وصول الإمدادات اللازمة ، وقد تعهدت بريطانيا بتقديم الأموال والأسلحة والمشورة العسكرية . وبناء على الاتفاق حملت بعثة برئاسة جون فيلبي مبالغ طائلة من الجنيهات الذهبية وريالات ماريا تريزا إلى الوهابية وكانت موضوعة في صناديق متينة ، في الوقت الذي لم تكن فيه موارد الوهابية تتجاوز المائة ألف ريال إضافة إلى المساعدات السنوية البريطانية البالغة ستين ألف ريال.(1)
وقد سلّم فيلبي إلى قائد الوهابية في حينه مائة ألف ريال على الحساب للبدء بتجنيد القبائل على أساس أن الأسلحة ستصل لاحقاً. وقد بدأت كميات الأسلحة تصل تباعاً ، وكانت دفعة منها وصلت تبلغ خمسة آلاف بندقية ومائة صندوق ذخيرة ؛ ولما نشبت المعركة كان الذي خطط لها جون فيلبي ؛ فلم يجرؤ العميل البريطاني(2) على المشاركة الفعلية خوفاً من مصير شبيه بمصير النقيب شكسبير ، بل هو اكتفى بمراقبتها من شرفة عالية في برج قريب. وخلال هذه الفترة عمد إلى تكتيك جديد وهو استخدام المال وتقديم المغريات كوسيلة لتحريك الحساسيات والعصبيات ، فساعدهم بعض آل رشيد على الاستيلاء على بعض قرى منطقة حائل عاصمة آل رشيد. وكان هذا من مسهلات معركة (الروضة) حيث احتلت قريتا (بيضاء نثيل) و (الشعبية) وقتل الوهابية المصلين عند الصباح بالمساجد في شهر رمضان على أساس أنهم من المشركين ، كما هتكت الأعراض ونهبت الأموال. ثمَّ استطاعوا بمعاونة بعض العملاء من الاستيلاء على جبل شمَّر (جبل طيء سابقاً : أجأ وسلمى) وأخذوا يمارسون الإرهاب ضدَّ أهله ، ولا سيما في قرية (عقدة) ، وبعض القرى المجاورة ، حيث قتلوا عدداً من الفلاحين الآمنين ، وهكذا انفتح الطريق أمام الوهابيين إلى حائل وكان للخيانة - كما خطط لها فيلبي - دور كبير في سقوطها ، بعد أن حشد لها الوهابية جيشاً كبيراً ، فسقطت في أيديهم في 29 صفر 1340 / 2 نوفمبر 1922. أما بالنسبة للمحور الثاني : فبعد أن رفض الشريف حسين قبول الاتفاقات التي نعرفها اليوم بين الإنجليز والفرنسيين والصهاينة بخصوص ما أسموه بمنطقة الشرق الأوسط من وعد بلفور إلى اتفاقية سايكس بيكو ، على الرغم من محاولات الرشوة والتهديد من البريطانيين ، يقول الدكتور صلاح العقاد ( والحق أن معارضته (الشريف) الوطن القومي اليهودي في فلسطين ، وما ترتب على ذلك من رفض معاهدة فرساي كان أقوى الأسباب التي باعدت بين الشريف حسين والحكومة البريطانية)(3) ورداً على الشريف هيأ الإنجليز للوهابية الهجوم على الحجاز ، ولم يكتفوا بالمشورة والإمدادات العسكرية هذه المرة ، فهم قد استطاعوا إمدادهم بالتغطية الشرعية عن طريق استصدار الفتاوى لا من أتباع محمد بن عبد الوهاب فقط بل حتى من بعض مستعمرات التاج البريطاني ، وكذلك بتخريب مقومات القوة العسكرية الشريفية ، ولا سيما الطائرات الحربية التي كانت بحوزتها ، والتي استطاع العملاء البريطانيون السريون تعطيلها. وقد كان فيلبي هو الذي استطاع خداع الشريف فطرح وساطته بينه وبين الوهابية عند زحفهم على الحجاز ، فاستطاع أن يطلع على أوضاع الجيش الشريفي ليضع للوهابية الخطط الكفيلة بالقضاء عليه . فبعد أن زار جدة أكد فيلبي لقائد الوهابية أنها ( من الناحية العسكرية عاجزة عن الصمود كما أكد له أن غالبية أهلها يريدون نهاية سريعة ) .
يقول فيلبي ( بعد أن يئسنا من من الحسين حركنا جنود الإخوان (كان هذا اسم جنود الوهابية الذين انشقوا في ما بعد) بقيادة خالد بن لؤي وفيصل الدويش وسلطان بن بجاد لسفك دماء غزيرة في الطائف لتوقع الرعب في قلوب الحجازيين : البادية والحاضرة ، ونوفر بها على بقية المدن الحجازية دماء أخرى إن أمكن الأمر ، وإلا فإن دماء غزيرة لابد من إراقتها لأن الإنجليز قرروا إسقاط حكم الشريف حسين بأي ثمن بعد أن رفض الأمر والطلبات بإعطاء فلسطين لليهود المشردين المساكين ، وبعد أن رفض الحسين ما عرضناه عليه بأن يكتفي بالحجاز وحده ، وأن يغير وجهة نظره في توحيد البلاد العربية كلها تحت حكمه)(4)
ومنذ بداية 1926 أصبح فيلبي المستشار الخاص لزعماء الوهابية فبقي ملازما لهم ردحاً طويلا من الدهر ، وقد أسهم إسهاماً كبيراً في تعميق الروابط بين الوهابية والصهاينة ، حيث قدم حاييم وايزمان الزعيم اليهودي رشوته لقادة الوهابية عن طريق فيليبي هذا ؛ ليعينوهم على إقامة دولة صهيونية في فلسطين ، وقد ذكرنا القصة بكاملها عند حديثنا عن دور الوهابية في ترسيخ الوجود الصهيوني في فلسطين. هذا بإيجاز أما الكثير من أفعاله وأقواله فستجد خبرها في مقالاتنا المختلفة في هذا الكتاب .
للتوسع يراجع:
1. د. محمد الخطيب ، صفحات من تاريخ الجزيرة العربية 2. خيري حماد ، (عبدالله فيلبي) ص 215 3. د. صلاح العقاد ، جزيرة العرب في العصر الحديث ، معهد البحوث والدراسات العربية ، القاهرة 1960 ، ص 41 4. ناصر السعيد ، تاريخ …منشورات اتحاد شعب الجزيرة العربية ، مغفل التاريخ ، ص 359 ومن المراجع التي ننصح بالجوع إليها أيضاً كتاب الفرقة الوهابية في خدمة من ؟ للسيد أبو العلى التقوي .
https://telegram.me/buratha