عادل الجبوري ||
اتخذ رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني خلال الايام القلائل الماضية جملة قرارات واجراءات للحد من ارتفاع قيمة الدولار الاميركي مقابل الدينار العراقي في الاسواق العراقية، ومنع تدهور الاوضاع الاقتصادية للبلد نتيجة ذلك، وما يمكن ان يترتب على ذلك الارتفاع من تبعات سياسية تقوض الاستقرار وتعيد مشهد الارتباك والاضطراب الذي القى بظلاله الثقيلة على الشارع العراقي في الجزء الاكبر من العام الماضي.
ومن بين القرارات والاجراءات التي اتخذها السوداني، اعفاء محافظ البنك المركزي العراقي مصطفى غالب مخيف وتعيين محافظ البنك السابق علي العلاق، واحالة مدير عام المصرف العراقي للتجارة(TBI) الذي يعد احد اكبر المصارف الحكومية، سالم الجلبي على التقاعد، وتعيين الخبير المالي بلال الحمداني بدلا عنه. الى جانب جملة اجراءات اقرها مجلس الوزراء بالاجماع، تتعلق بتسهيل وتسريع التعاملات المصرفية، وزيادة عدد منافذ بيع العملة الصعبة(الدولار) للمواطنين وبأسعار مدعومة، وتقديم التسهيلات المالية والمصرفية للتجار، لاسيما الصغار منهم، وتقليص الحلقات الادارية ذات الطابع البيروقراطي الرتيب، التي تتيح عمليات التلاعب والفساد والاحتكار. فضلاعن ذلك فأن جهاز الامن الاقتصادي في وزارة الداخية شن قبل عدة ايام حملات في بعض من اسواق بيع وتداول العملات(البورصات) في العاصمة بغداد، واعتقل عدد من المضاربين والمتلاعبين بالاسعار.
وبعدما كان الدولار قد ارتفع مقابل الدينار الى مستويات قياسية خلال فترة زمنية قصيرة جدا، ليستتبعه ارتفاع واضح في اسعار السلع والبضائع الاساسية المختلفة، وخصوصا ذات الاستهلاك اليومي، فأن القرارات والاجراءات المتخذة ساهمت بتراجعه بشكل طفيف، مع وعود وتعهدات قطعها محافظ البنك المركزي الجديد بأعادة خفض قيمة الدولار خلال وقت قصير، وبالتالي عودة الاستقرار الى السوق. ولكن هل انتهت القصة عند هذا الحد؟.. بالتأكيد ليس الامر كذلك، لان هناك اسبابا وعوامل وظروفا مختلفة ادت الى ذلك الارتباك، دون استبعاد فرضية النوايا المبيتة والاجندات المخطط لها.
ومن الطبيعي ان تتوجه بعض اصابع الاتهام الى الولايات المتحدة الاميركية، لانها ومنذ الاطاحة بنظام صدام في ربيع عام 2003، باتت تتحكم بمختلف مفاصل الدولة العراقية، وخصوصا المالية والاقتصادية منها، ولعل ابرز واوضح دليل على ذلك، هو انه منذ عشرين عاما، تودع عائدات النفط العراقي في بنك الاحتياطي الفيدرالي الاميركي ضمن حساب خاص اطلق عليه صندوق تنمية العراق (DFI)، وفقا لقرار مجلس الامن الدولي المرقم 1483 والصادر في الثاني والعشرين من ايار-مايو 2003، تدفع منه التعويضات المستحقة لدولة الكويت، وعموم التحويلات والانفاقات المالية منه تخضع لاشراف ورقابة الاحتياطي الفيدرالي.
وقبل حوالي عشرة اعوام او اكثر، ارتفعت اصوات شعبية وبرلمانية تطالب بتحرير الاموال العراقية وانهاء الهيمنة الاميركية عليها، الا ان جملة من التجاذبات والاشكاليات السياسية والفنية حالت دون ذلك، رغم اعلان الرئيس الاميركي الاسبق نيته رفع الحصانة عن صندوق تنمية العراق في ذلك الحين.
ومثلما ظل الملف الامني العراقي خاضعا ومرتهنا لحسابات واشنطن السياسية، فأن الملف المالي هو الاخر بقي كذلك، ولم تكن الاخيرة بعيدة عن الصعود المفاجيء للدولار، وهذا ما كشفه بعض البرلمانيين وخبراء المال والاقتصاد. اذ اكد النائب مصطفى سند اواخر الشهر الماضي، "ان صعود الدولار هذه الأيام هو بسبب إيقاف تحويل استحقاق العراق من الدولار من قبل الفيدرالي الأميركي لغرض الابتزاز السياسي والتفاهم". هذا في الوقت الذي اصدر البنك المركزي قرارا يقضي بمنع اربعة مصارف اهلية من التعامل بالدولار لاغراض تدقيقية، وهي مصرف الأنصاري الإسلامي للاستثمار والتمويل، ومصرف القابض الإسلامي للاستثمار والتمويل، ومصرف آسيا العراق الإسلامي للاستثمار والتمويل، ومصرف الشرق الأوسط العراقي للاستثمار.
وتذهب اوساط مطلعة الى ان القرار المذكور جاء بضغط وايعاز من الاحتياطي الفيدرالي الاميركي، والسبب الحقيقي هو وجود معلومات عن قيام المصارف الاربعة المشار اليها بتحويل مبالغ مالية الى جهات واشخاص مدرجين في القوائم الاميركية السوداء المشمولة بالعقوبات، وهذه الجهات اما ايرانية او انها مرتبطة بايران.
وفي هذا السياق، حاولت السفيرة الاميركية في العراق الينا رومانوسكي التخفيف من وقع وحدّة الانباء المتداولة عن دور حكومة بلادها في تقلبات وتذبذب الاسعار بين الدولار والدينار العراقي، قائلة في اخر تصريح لها، "ان الولايات المتحدة لا تضع ولا تحدد سعر التصريف بين الدولار والدينار، وإنها لم تفرض عقوبات جديدة على مصارف في العراق، بل تواصل آلية استغرقت عدة سنوات لتقوية القطاع المصرفي العراقي لمساعدته على الامتثال للنظام المصرفي العالمي، وضمان منع
استعمال النظام المصرفي لغسيل أموال الشعب العراقي وتهريبها إلى خارج العراق"، وتضيف رومانوسكي، "أنّ هذه الإجراءات بدأت قبل سنتين بتطبيق تدريجي من قبل المصارف العراقية، وفق اتفاق بين البنك الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي العراقي، وان تلك الاجراءات مصممة لمنع وتقييد غسيل الأموال، وان تعليقها أو تأجيلها يؤدي إلى العودة بالمنظومة إلى الوراء"، وتؤكد، "ركزنا على ملف الفساد في العراق، وما حصل كان مصادفة مع تسلم السوداني للسلطة".
ولاشك ان كلام السفيرة الاميركية واضح الى حد كبير، وهو اقرار واعتراف صريح بهيمنة وسطوة واشنطن على الملف المالي العراقي، والا ما هو الغطاء الشرعي والقانوني الذي يتيح لها التدخل وفرض السياقات والاجراءات التي تراها وتقرر ما الذي تطبقها فيه؟.
وقد كان رئيس الوزراء العراقي الاسبق وزعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي واضحا جدا، حينما اكد في تصريحات اعلامية، "أن أزمة الدولار مرتبطة بمخالفات، منها التهريب والتلاعب من قبل بعض المصارف والتجار، وأن الحل الوحيد للازمة هو التفاهم مع الجانب الاميركي.. اذ ان اميركا تستخدم الدولار كسلاح وهي تراقب الوضع في العراق".
في ذات الوقت فأن وسائل اعلام غربية نقلت عن مسؤولين اميركان تأكيدهم "إن النظام المصرفي المزمع العمل به من قبل البنك الفيدرالي الاميركي والبنك المركزي العراقي، يهدف إلى الحد من استخدام النظام المصرفي العراقي لتهريب الدولارات إلى طهران ودمشق وملاذات غسل الأموال في أنحاء الشرق الأوسط".
واذا عدنا قليلا الى الوراء، نجد ان وزارة الخزانة الاميركية فرضت قبل عدة اعوام حزمة عقوبات على مصارف اهلية عراقية تحت ذريعة تقديمها تسهيلات للحرس الثوري الايراني وحزب الله اللبناني، علما ان بعض اصحاب ومديري تلك المصارف يرتبطون بعلاقات جيدة مع الاوساط والمحافل السياسية الاميركية.
والمفارقة هنا، ان واشنطن التي تزعم انها تريد مساعدة العراق لوضع حد لعمليات التهريب والفساد عبر بناء نظام مصرفي رصين، كان لها الدور الاكبر في تبديد مليارات الدولارات من اموال العراق، حيث انها كانت تعلم جيدا الجهات التي تقف وراء ذلك، وتعلم جيدا حركة الاموال المنهوبة وطرق غسيلها، الا انها التزمت الصمت ولم تحرك ساكنا، لان ذلك لم يكن يتعارض مع حساباتها ومصالحها من جانب، ومن جانب اخر لايعود بالنفع على خصومها واعدائها في المنطقة.
وبينما لايحتمل كلام السفيرة الاميركية الكثير من التأويل والتفسير بشأن تورط واشنطن في الارتباك الكبير الذي تعرض له العراق مؤخرا جراء ارتفاع قيمة الدولار، فأن ادعائها بأن تزامن تفعيل اجراءات التدقيق والمراقبة المالية مع الفترة الاولى لتولي السوداني رئاسة الوزراء كان محض مصادفة، لايمكن له-اي الادعاء-الصمود امام قراءات ومعطيات وحقائق تذهب الى ان الادارة الاميركية غير مرتاحة لبعض لتوجهات وسياسات وقرارات السوداني، رغم الاعلان عن دعمها ومساندتها له، لذلك فهي تحاول اشغاله بملفات جانبية بهدف تشديد الضغوط الداخلية عليه، وكما اكد برلمانيون عراقيون، "ان واشنطن تحاول ابتزاز السوداني من خلال العمل على اسقاط حكومته باستخدام ازمة الدولار في حال لم يتعاون مع الأهداف الامريكية في العراق، وهي تقول له باختصار باننا سنسقط الحكومة في حال لم تعمل معنا ضد ايران". هذا في الوقت الذي يرى فيه بعض الساسة واصحاب الرأي، "ان السوداني يواجه الان تحديا كبيرا في الحفاظ على التوازن في العلاقات العراقية مع كل من واشنطن وطهران دون ان يتخذ جانبا ضد اخر، وان هذه المهمة صعبة جدا وتتطلب من السوداني ان يسير على الحبل"!.
وحتى الان يبدو ان رئيس الوزراء العراقي، يسير في الاتجاه الصحيح، وان قراراته وخطواته واجراءاته تنسجم من حيث واقعيتها واولوياتها مع طبيعة الازمة والسبل الكفيلة لحلها ومعالجتها، وقد لاتستطيع الادارة الاميركية ان تفرض وتقرر كل ما تريده وترغب فيه، لان هناك رأي عام يمكن ان يتحرك بشكل ما، وهناك ثقل سياسي كبير داعم للسوداني يتمثل بالاطار التنسيقي الشيعي، وعلى نطاق اوسع تحالف ادارة الدولة، الذي يضم قوى رئيسية من المكونين السني والكردي، التي وان كانت ترتبط بعلاقات جيدة مع واشنطن، الا انه ليس من مصلحتها ان تختلط الاوراق وتضطرب الاوضاع، خصوصا وان التقاطعات والخلافات في داخل هذه المكونات يجعل قواها تحرص على السير والتحرك باتجاه تهدئة الامور وحلحلة الازمات واحتواء التوترات، فليس هناك من يتمنى-وتحديدا المشاركين في الحكومة-العودة الى منطق التصعيد والتأزيم من جديد، سواء تعلق الامر بملفات الاقتصاد او سواها من الملفات الاخرى.
ــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha