عادل الجبوري ||
تثير التحركات والتحولات السياسية والعسكرية التركية في الاونة الاخيرة تساؤلات واستفهامات كبيرة وملحّة عن وجهة واهداف صناع القرار وراسمي الاستراتيجيات البعيدة في انقرة، لاسيما وان السمة الابرز والاوضح في مجمل التحركات والتحولات هي التناقض والازدواجية والتذبذب.
منذ بضعة اعوام، يبدو العراق ومعه سوريا، من الميادين والساحات الاقرب جغرافيا وسياسيا وامنيا بالنسبة لتركيا، مستفيدة من الظروف الاستثنائية التي شهدها البلدان. العراق بسقوط نظامه السابق في ربيع عام 2003 ودخوله-او ادخاله- في دوامة الفوضى وتقاطع الارادات وتعدد المشاريع والاجندات. وسوريا بعد محاولات اقحامها في عام 2011 بمتاهات ما سمي بثورات الربيع العربي، من اجل تغيير نظامها السياسي، في سياق المساعي الدولية والاقليمية لايجاد وصياغة معادلات جديدة تضمن امن اسرائيل وتمهد الطريق لتطبيق مشاريع التطبيع العربي معها.
ومع ان انقرة، كانت-ومازالت-تسعى الى ان تختط لها مسارا مستقلا، الا انها انساقت عن قصد او من دون قصد وراء مشاريع واجندات الاخرين، واكثر من ذلك، باتت جزءا اساسيا منها، ولعل هذا احد الاسباب والعوامل التي جعلت مجمل سياساتها ومواقفها تتسم بالتناقض والارتباك والانعطافات الحادة، وقد برز ذلك بصورة اكثر وضوحا في عهد الرئيس رجب طيب اردوغان الطامح والطامع بقوة لاستعادة امجاد الامبراطورية العثمانية بعد مائة عام من انهيارها وزوالها.
ما يخص العراق، لاحت مؤشرات عديدة على رغبة تركيا بمراجعة وتصحيح بعض مواقفها وتوجهاتها السابقة، دون ان يعني ذلك بالضرورة حصول تغيير حقيقي وجوهري في اهدافها الاستراتيجية بعيدة المدى.
وبعيدا عن مواقف انقرة قبل عشرة اعوام، تلك المواقف التي تمحورت بوضوح وصراحة حول دعم مكون سياسي واجتماعي معين في العراق على حساب مكون اخر، والعمل بشكل علني صارخ على اسناد وتمويل جماعات مسلحة خارجة عن القانون ومصنفة بانها ارهابية، من اجل اسقاط حكومة نوري المالكي "الشيعية" حينداك. بعيدا عن ذلك، فأنها قبل سبعة شهور انخرطت في جهود ترتيبات ما بعد الانتخابات البرلمانية المبكرة بنتائجها الجدلية، من بوابة المكون السني، حينما استدعت كل من رئيس البرلمان وزعيم حزب تقدم محمد الحلبوسي، وخصمه ومنافسه خميس الخنجر، ونجحت في تذويب الخلافات والتقاطعات بينهما من خلال تشكيل تحالف "السيادة"، ليكون احد اضلاع مثلث التحالف الثلاثي مع التيار الصدري والحزب الديمقراطي الكردستاني.
وقد التقى اردوغان بنفسه اواخر شهر شباط-فبراير الماضي الحلبوسي والخنجر، ورعا المصالحة بينهما، واوكل تفاصيل هذا الملف الى رئيس جهاز مخابراته هاكان فيدان.
وتمثلت اهداف انقرة من وراء تبنيها للاطراف السنية الفائزة بالانتخابات، بالحصول على مواطيء قدم سياسية اخرى اضافة الى مواطيء اقدامها في كركوك واربيل بواسطة الجبهة التركمانية والحزب الديمقراطي الكردستاني، ناهيك عن مواطيء اقدامها العسكرية في الموصل ودهوك وتخوم اربيل.
ولاشك ان حرص اردوغان على تأمين مواطيء قدم في الفضاء السني، امر مهم للغاية، بعدما فشلت مراهناته السابقة على قوى وشخصيات تيار الاخوان المسلمين، المتمثل اساسا بالحزب الاسلامي العراقي.
والهدف الاخر لانقرة، كان اضعاف وتفكيك المكون الشيعي، ليفقد ثقله وغالبيته العددية، ويتحول الى مجموعة كيانات ثانوية تابعة، وبالتالي تحجيم النفوذ والتأثير الايراني، بتهميش وتشظية القوى السياسية القريبة من طهران، المنضوية تحت عنوان الاطار التنسيقي، وهو ذات الهدف التي عملت عليه كل من واشنطن ولندن وتل ابيب، وعواصم عربية مثل الرياض وابو ظبي.
وهدف انقرة الثالث من تقوية الحلبوسي والخنجر، ودفعهما للتحالف مع الصدر والبارزاني، تمثل بتعزيز موقع الاخير بأعتباره الحليف الاستراتيجي الاكثر موثوقية ومقبولية لها-اي لانقرة-مقارنة بالاتحاد الوطني الكردستاني القريب من طهران، فضلا عن القوى الكردية الاخرى التي لاتمتلك التأثير والحضور الكافي للتعويل والمراهنة عليها.
بيد ان حسابات الحقل ليست كحسابات البيدر كما يقولون، حيث جاءت الامور بخلاف حسابات وتخطيط الساسة الاتراك. فالتحالف الثلاثي وصل الى طريق مسدود ولم يفلح بتشكيل حكومة اغلبية وطنية كما كان يؤكد ويريد زعيم التيار الصدري، الى ان انتهى به الامر الى الانسحاب وسحب نوابه الـ(73) من البرلمان ليترك حلفائه مكشوفين بلا خيارات وبدائل واضحة، ولتتحول كرة تشكيل الحكومة الى الاطار التنسيقي الذي اريد له ي باديء الامر ان يكون طرفا ثانويا.
ليس هذا فحسب، بل ان الضربات راحت تتوالى على تحالف الحلبوسي والخنجر من ذات الفضاء السني، وتصاعدت اصوات الرفض للحلبوسي من قبل العديد من الزعامات السياسية والعشائرية في الانبار والموصل وكركوك، ولم يعد خافيا الوضع الحرج والمقلق الذي يمر به. وفي نفس الوقت لم ينجح الحزب الديمقراطي الكردستاني بفرض ارادته وتمرير اهدافه على الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي بدا متماسكا وغير مستعد للتنازل عن سقف مطالبه رغم جولات الحوار الطويلة وعلى اعلى المستويات مع الديمقراطي.
كل ذلك جعل انقرة حائرة ومرتبكة في خياراتها، ومازاد الطين بلّه، حماقاتها العسكرية في داخل العراق، وكان ابرزها وليس اخرها القصف المدفعي الذي طال منتجعا سياحيا في قضاء العمادية التابعة لمحافظة دهوك في العشرين من شهر تموز-يوليو الماضي، وتسبب بمصرع واصابة عشرات السواح القادمين من مدن عراقية مختلفة، مما ولّد ردود فعل سياسية وشعبية غاضبة وصلت الى حد المطالبة بمقاطعة تركيا سياسيا واقتصاديا.
ليست هذه المعطيات والحقائق هي وحدها التي دفعت انقرة الى تعديل مسار تعاطيها مع الملف العراقي، بل ان هناك تحولات على قدر كبير من الاهمية في خارطة التحالفات والاصطفافات الاقليمية كان لها الاثر في ذلك. وهذه المرة بدلا من ان يدعو اردوغان، الحلبوسي والخنجر ليلتقي بهم في انقرة كما حصل قبل سبعة شهور، ارسل اليهم كاتم اسراره وصندوقه الاسود وذراعه الايمن، رئيس جهاز المخابرات هاكان فيدان، مثلما تصفه بعض وسائل الاعلام التركية والاجنبية..
والملفت انه بينما كانت الطائرات والمدفعية التركية تلقي حمم نيرانها على مناطق اهلة بالسكان قرب الحدود مع العراق تحت ذريعة ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني التركي المعارض ( (PKKكان فيدان قد وصل العاصمة بغداد، وشرع بعقد سلسلة اجتماعات ولقاءات مكثفة مع عدد من الساسة والمسؤولين العراقيين حول جملة ملفات تهم الطرفين. وكان من بين ابرز من التقاهم رئيس جهاز المخابرات التركي، رئيس الجمهورية برهم صالح، ورئيس حكومة تصريف الاعمال مصطفى الكاظمي، ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، ورئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، ورئيس تحالف السيادة خميس الخنجر.
ووفقا لتقارير مختلفة، كان من بين ابرز الملفات التي نوقشت هي، ملف حزب العمال (PKK) وسبل مواجهته، وملف المياه، والازمة السياسية العراقية الراهنة، ولكن مجمل المؤشرات ذهبت الى ان زيارة فيدان غير المعلنة الى العراق، تمثل الهدف الرئيسي من ورائها باعادة ترتيب الاوراق استنادا الى المتغيرات الحاصلة، وبما يضمن حضور وتأثير ومصالح انقرة في المشهد العراقي، وخلاصتها تتمثل في الدفع بتفاهمات بين الاطار التنسيقي وتحالف السيادة والحزب الديمقراطي الكردستاني، تفضي الى تشكيل الحكومة بأسرع وقت، مع مراعاة مكانة التيار الصدري السياسية والشعبية، من خلال عدم تجاوزه في كل الخطوات، بدءا من اختيار رئيس الوزراء الجديد، مرورا بالتشكيلة الوزارية، وانتهاءا بتحديد اولويات المرحلة المقبلة.
الى جانب ذلك، فأن انقرة تحرص على عدم انفراط عقد تحالف الحلبوسي-الخنجر، لذا فهي ترى انه من الخطأ ان يحتكر الاثنين حصة المكون السني، ويتجاهلون خصومهم ومنافسيهم، بل الافضل ان يتم البحث عن ترضيات وحلول وسط، وربما سنشهد في القريب العاجل زيارات لشخصيات سياسية وعشائرية سنية الى تركيا، علما ان بعض المصادر الخاصة تؤكد ان فيدان فتح قنوات اتصال مع العديد منها.
وبنفس السياق، راحت انقرة تضغط على البارزاني من اجل التنازل والقبول بمرشح توافقي لرئاسة الجمهورية، في ذات الوقت الذي كثفت فيه اتصالاتها مع الاتحاد الوطني الكردستاني-وتحديدا رئيسه بافل الطالباني-بصورة مباشرة، وبصورة غير مباشرة من خلال طهران، لخفض سقف مطاليبهم بشأن ملف رئاسة الجمهورية.
ويعتقد الساسة الاتراك ان نجاحهم في تفكيك عقد العملية السياسية العراقية في هذه المرحلة، يمكن ان يؤدي الى حلحلة الملفات والازمات العالقة مع بغداد.
وبموازاة ذلك كله، فان فيدان لم يأت الى بغداد فحسب، وانما ذهب الى دمشق عدة مرات خلال الشهور او الاسابيع القلائل المنصرمة، وعقد اجتماعات مطولة مع مدير مكتب الامن القومي السوري اللواء علي مملوك، ومسوؤلين سوريين كبار، واثمرت تلك الاجتماعات واللقاءات عن نتائج ايجابية، اخذت تتبلور على السطح، ففي الوقت الذي اخذت اوساط سياسية واعلامية مختلفة تتحدث عن رغبة الرئيس التركي بلقاء الرئيس السوري بشار الاسد، امهلت الاجهزة الامنية التركية قيادات الائتلاف السوري المعارض حتى نهاية العام الجاري لانهاء كل نشاطاته السياسية والاعلامية داخل تركيا، وتخيير من يمتلك الجنسية التركية او الاقامة الدائمة في الرحيل او البقاء شريطة عدم ممارسة أي عمل ذات طابع سياسي. وهذه الانعطافة التركية الحادة حيال الملف السوري، تكشف عن مراجعات كبيرة واعادة ترتيب كاملة للاوراق، لم تكن بأي حال من الاحوال بعيدة او منفصلة عن مسارات المصالحات الاقليمية التي دارت عجلتها بوتيرة متسارعة خلال العام الجاري بين دمشق وابو ظبي والرياض وانقرة والدوحة والقاهرة وطهران، وبالطبع فأن بغداد، كانت في بعض المحطات محورا وعنصرا فاعلا في تحريك المياه الراكدة وفتح الابواب الموصدة.
وطبيعي ان تزامن تحرك انقرة نحو بغداد ودمشق، يعني فيما يعنيه، تداخل وترابط وتشابك بعض او اغلب الملفات، والتقدم في هذا الجانب لابد ان يحدث تقدما في الجانب الاخر، بيد ان ذلك مهما كان كبيرا، لن يلغي او ينهي واقعا قائما تشكل عبر اعوام وعقود، خلال بضعة اسابيع، بواسطة حراك سياسي مرحلي املته ظروف ملحة وضاغطة على الجميع بلا استثناء.