عادل الجبوري ||
بينما كانت الطائرات والمدفعية التركية تلقي حمم نيرانها على مناطق آهلة بالسكان قرب الحدود مع العراق تحت ذريعة استهداف مقرات ومواقع حزب العمال الكردستاني التركي المعارض (PKK)، كان رئيس جهاز المخابرات التركي هاكان فيدان في العاصمة بغداد، ويواصل اجتماعاته ولقاءاته مع عدد من الساسة والمسؤولين العراقيين حول جملة ملفات تهم الطرفين، علمًا أن زيارة فيدان أحيطت بقدر من الكتمان والسرية ولم يتم الاعلان عنها رسميًا لا من الجانب التركي ولا من الجانب العراقي، إلا أنه في عالم اليوم لم يعد بالامكان إبقاء أي تحرك سياسي معيّن بعيدًا عن وسائل الاعلام ومنصات التواصل الاجتماعي وعموم أدوات ثورة المعلومات والاتصالات.
تقارير مختلفة أكدت أن فيدان التقى كلًّا من رئيس حكومة تصريف الاعمال مصطفى الكاظمي، ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، ورئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، ورئيس تحالف السيادة خميس الخنجر، وربما التقى شخصيات سياسية اخرى، لكن لم تتسرب أخبار لقاءاته بها الى وسائل الاعلام.
وتشير التقارير الى أن أبرز الملفات التي بحثها رئيس المخابرات التركي مع من التقاهم في بغداد، تمثلت بملف حزب العمال الكردستاني (PKK)، وملف المياه، والازمة السياسية الراهنة في العراق، ومدى امكانية لعب انقرة دورًا ما في حلحلتها وتطويقها.
في واقع الحال، من المعروف للاوساط السياسية والمتابعين أن ملف حزب العمال هو بعهدة وزارة الدفاع التركية بالدرجة الاساس، وبإشراف مباشر من الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، واذا كان هناك دور لجهاز المخابرات، فهو مكمل وداعم، إن لم يكن ثانويًا.
أما بالنسبة لملف المياه، الذي يعد من الملفات الخلافية الحادة بين بغداد وانقرة منذ أعوام طويلة، ومع تفاقم أزمة المياه، راحت تتصاعد وتيرة الخلافات والتشنجات بين الطرفين، فإنه وان كان ينطوي على بعد أمني، إلا أن جهاز المخابرات التركي غير معني فيه بالدرجة الاساس، باعتبار انه ذو طابع فني، ومجمل تفاصيله في جعبة الوزارات والمؤسسات المسؤولة عن ادارة الموارد المائية في كلا الطرفين.
يبقى الملف الآخر، المتمثل بالازمة السياسية الراهنة في العراق ودور تركيا في حلحلتها واحتوائها، وهذا هو الاقرب الى مهمة فيدان السرية الى العراق.
مما لا يخفى على الكثير من الدوائر والمحافل السياسية، هو ان هاكان فيدان (54 عاما)، يعد من أبرز المقربين من الرئيس اردوغان وموضع ثقته، وأكثر من ذلك يراه البعض ذراعه اليمنى وصندوقه الأسود، وتصفه وسائل اعلام تركية واجنبية بأنه "كاتم اسرار اردوغان"، وقد أوكل اليه الأخير ادارة ملفات حساسة وخطيرة ترتبط بسياسة انقرة وعلاقاتها الخارجية. وبحسب التقييمات الاجمالية العامة، نجح الرجل في انجاز مجمل ما تم تكليفه به، عبر نسجه شبكة علاقات مخابراتية ـ سياسية مع اطراف اقليمية ودولية، بعض منها على خصومة وعداء مع بلاده. والشيء الملفت والاكثر اثارة للاهتمام فيما يخص فيدان، يتمثل في ان الاخير، كان وما زال مهندس ملف العلاقات بين انقرة وتل ابيب، ذلك الملف الحافل بالكثير من التشابكات والتداخلات والتناقضات.
وفيما يخص الملف العراقي، فقد كان رئيس المخابرات التركي، ممثل الرئيس اردوغان المباشر في التعامل والتواصل مع اطراف المكون السني، وترتيب اوراق ذلك الملف، بما يضمن مصالح انقرة ونفوذها وتأثيرها وحضورها، وبأسلوب يختلف عن اساليب وسياقات التعاطي السابقة، التي كانت في جانب منها منحصرة بالمكون التركماني بحكم القواسم الثقافية والقومية المشتركة، ومع اطراف سنية ذات صبغة اسلامية، قريبة من توجهات حركة الاخوان المسلمين، دون الاهتمام الكافي بالقوى السنية ذات التوجه العلماني.
وقد كان لتركيا، وتحديدًا هاكان فيدان، دور مهم وحاسم في تذويب الخلافات وانهاء التنافس والصراع بين كل من محمد الحلبوسي وخميس الخنجر، اذ تمت استضافتهما معا في انقرة أواخر شهر شباط/ فبراير الماضي، والتقى بهما اردوغان بحضور فيدان، وأقنعهما بضرورة وضع حد لخلافاتهما والدخول بتحالف سياسي موحد، يتيح لهما تحقيق مكاسب سياسية مشتركة، وهذا ما حصل بالفعل عبر تشكيل تحالف السيادة، الذي انخرط في تحالف ثلاثي مع التيار الصدري والحزب الديمقراطي الكردستاني، من أجل تشكيل حكومة أغلبية وطنية بعيدًا عن الاطار التنسيقي، ولكن لم يكتب النجاح لهذا الخيار، وبالتالي انسحب التيار الصدري من البرلمان، وانفرط عقد التحالف الثلاثي، وعادت الكرة الى ملعب الاطار التنسيقي. وطبيعي أن تلك التفاعلات والتداعيات أربكت صناع القرار السياسي التركي، بعد ان كان القصف المدفعي من قبل الجيش التركي لمنتجع سياحي في محافظة دهوك في العشرين من شهر تموز/ يوليو الماضي، والذي أودى بحياة عدد من السياح، ولّد ردود افعال شعبية وسياسية عراقية غاضبة.
والملفت أن أصدقاء وحلفاء تركيا من القوى والشخصيات السياسية المختلفة لم يدينوا قصفها وقتلها المدنيين، مثلما لم يدينوا أيًّا من انتهاكاتها وتجاوزاتها المتواصلة طيلة أعوام لأمن وسيادة العراق.
لم يأت رئيس المخابرات التركي الى بغداد ليصلح ما خربه وأفسده القصف المتكرر لطائرات ومدفعية جيش بلاده لقرى ومدن شمال العراق، ولا ليحل مشكلة تقاسم المياه بما يرضي العراق ويحفظ له حقوقه، بل جاء ليعيد ترتيب الأوراق بما يضمن مصالح بلاده ويحفظ لها نفوذها وتأثيرها في المشهد العراقي، فبعدما انهار وتفكك التحالف الثلاثي الذي عولت عليه انقرة كثيرًا، لا بد أن يكون هناك بديل مقبول، والبديل يتمثل في تفاهم الطرفين الكردي والسني مع الاطار التنسيقي دون تجاوز التيار الصدري، وكذلك المحافظة على تحالف الحلبوسي ـ الخنجر، كممثل رئيسي للمكون السني، والعمل على تحييد أو ارضاء القوى والشخصيات السياسية والعشائرية والاجتماعية السنية التي فتحت جبهات مواجهة مع الحلبوسي وأعلنت صراحة سعيها للاطاحة به.
يا ترى هل ينجح فيدان ـ صندوق اردوغان الأسود وكاتم أسراره ـ في صياغة المعادلات السياسية المعقدة والشائكة والمضطربة والقلقة بالشكل الذي يعزز حضور ونفوذ بلاده، أو بتعبير أدق، نفوذ وطموحات رئيسه، الساعي بكل قوة الى استعادة أمجاد الامبراطورية العثمانية بعد مائة عام من تفككها وتلاشيها وانهيارها؟
يبدو أن اردوغان وفريقه، إما لم يفهموا حتى الان حقائق العراق السياسية وغير السياسية بالشكل الصحيح، أم أنهم يريدون القفز على الواقع والغوص في بحر الاحلام والتمنيات والاوهام... وكلا الافتراضين يوصل الى نفس النتائج والمعطيات، وما مخرجات اجتماعات أنقرة قبل سبعة شهور، ولقاءات بغداد قبل سبعة ايام الا دلائل دامغة على ذلك.
ــــــــــــ
https://telegram.me/buratha