عادل الجبوري ||
من الطبيعي جدًا أن تتصدر مفردة "سبايكر" حيّزًا كبيرًا من البيانات والخطب والأحاديث والكلمات والشهادات في الذكرى السنوية الثامنة لاجتياح تنظيم "داعش" الارهابي لمدينة الموصل ومدن ومناطق عراقية أخرى، لأن هذه المفردة اقترنت بواحدة من أبشع وأفظع الجرائم التي ارتكبت ربما على مدى تاريخ الانسانية، من حيث عدد ضحاياها الذي تجاوز الالف وسبعمائة شخص بريئ، ومن حيث الأسلوب الدموي الذي نفذت به تلك الجريمة، حتى ان مياه نهر دجلة قد اصطبغت في حينه باللون الاحمر نظرا للعدد الهائل من جثث الضحايا التي القيت فيه.
في جريمة سبايكر، التقت وتجمعت كل العوامل والعناصر والظروف، لترسم مشهدًا مأساويًا مروعًا، من الصعب جدًا أن يمحى من الذاكرة، لا سيما ذاكرة هؤلاء الذين حالفهم الحظ للنجاة، وذوي الضحايا الذين ما زال البعض - أو الكثير منهم - لم يعثروا على جثامين أبنائهم، ولم ينالوا حقوقهم واستحقاقاتهم المادية والمعنوية.
القصور والتقصير وسوء الادارة والفساد في منظومات ومؤسسات الدولة، لا سيما الأمنية والعسكرية منها، كان أحد أبرز العوامل التي أتاحت لـ"داعش" اجتياح البلاد، وارتكاب شتى الجرائم والموبقات ومنها جريمة سبايكر.
وتواطؤ بعض من أبناء العشائر في مدينة تكريت، حيث قاعدة سبايكر الجوية التي شهدت وقوع الجريمة، كان عاملًا آخر ساهم في ما حصل في الثاني عشر من شهر حزيران-يونيو من عام 2014، وهذا ما أكدته وأثبتته الوقائع والأحداث اللاحقة. وبحسب مصادر مختلفة، فإن السلطات القضائية العراقية أصدرت أحكام إعدام بحق 112 من المدانين بتنفيذ مجزرة سبايكر، نفذ منها 76 حتى الان.
مضافًا الى ذلك، فإن النزعة الدموية الاجرامية للتنظيمات والجماعات الارهابية التكفيرية، بدءا من تنظيم "القاعدة" وتفرعاته وعناوينه المختلفة وصولا الى "داعش"، كان لها الأثر الكبير في الاقدام على مجزرة فظيعة ومروعة بكل معنى الكلمة، كمجزرة سبايكر.
في ذات الوقت، لا يمكن بأي حال من الأحوال التغاضي عن دور العامل الدولي، متمثلًا بالدرجة الاساس بالولايات المتحدة الاميركية، التي لم تكن بعيدة عن نشوء وتمكين تنظيم "داعش"، مثلما ساهمت بتأسيس تنظيم "القاعدة" وتمكينه قبل أكثر من أربعين عامًا. فقبل اجتياح "داعش" للموصل وغيرها وبعد ذلك، لم تظهر واشنطن، التي شكلت وتزعمت تحالفا دوليا تحت يافطة محاربة الارهاب، القدر الكافي من الجدية للاضطلاع بهذه المهمة، بل على العكس من ذلك، قامت في الكثير من الاحيان بغض الطرف، أو حتى تقديم الدعم اللوجيستي بصورة غير مباشرة لعصابات التنظيم، من خلال استهداف قوات الحشد الشعبي والجيش والشرطة الاتحادية، وحينما كانت تعجز عن اخفاء ذلك، تدعي أن ما حصل بالخطأ! وبطريقة أو باخرى، أقرت واشنطن في مناسبات عديدة، بأنها لا تريد ولا تخطط للقضاء على "داعش" نهائيًا، وانما تعمل على اضعافها وتحجيمها، وبالتالي الابقاء عليها كورقة تستخدمها بالشكل الذي يناسب مصالحها وحساباتها واجنداتها.
ورغم أن عصابات "داعش" ارتكبت فيما بعد الكثير من الجرائم ضد أبناء الشعب العراقي بمختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم وأديانهم وعقائدهم، إلا أن مجزرة "سبايكر" كانت الأكثر دموية والاشد اجرامًا ووحشية، ولا يختلف اثنان في أن الآثار النفسية والمعنوية التي خلفتها تلك الجريمة المروعة، في نفوس ذوي الضحايا كانت كبيرة وعميقة جدا، ولعله من الصعب جدا أن تمحَى خلال وقت قصير، وحسنا فعلت الجهات المعنية في ذلك الحين حينما شكلت لجنة خاصة لمتابعة شؤون ذوي شهداء مجرزة "سبايكر"، فضلًا عن الخطوات والمبادرات الأخرى التي قامت بها، وكذلك تلك التي قامت بها المؤسسات الدينية، لا سيما المرجعية الدينية والحوزة العلمية، وهيئة الحشد الشعبي لتخليد تلك الفاجعة من جانب، وتكريم ضحاياها ورعاية ذويهم من جانب آخر.
ولعل الحقيقة الشاخصة والماثلة بكل وضوح، هي أن فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها المرجع الديني الكبير اية الله العظمى السيد علي السيستاني بعد ثلاثة أيام من الاجتياح الداعشي، أفضت الى قلب موازين القوى وتصحيح المسارات الخاطئة، ودرء الخطر التكفيري عن مقدسات وحرمات البلاد من شمالها وحتى أقصى الجنوب، لأنه بفضل تلك الفتوى التاريخية انخرط عشرات الالاف من الشبان، وحتى الرجال من كبار السن في تشكيلات الحشد الشعبي، لمواجهة عصابات "داعش".
"داعش" و"سبايكر" وفتوى الحشد: معادلات الهزيمة والانتصار
وارتباطًا بطبيعة ومستوى المخاطر والتحديات التي استدعت تأسيس الحشد الشعبي، من خلال فتوى الجهاد الكفائي، فإنه لا يخفى على المراقب، وعموم الرأي العام، أن هناك ثلاثة عوامل ساهمت في أن يضطلع الحشد بدور مهم وفاعل، وأن يتنامى حضوره الميداني من خلال انجازات وانتصارات عسكرية مشرفة، الى جانب دوره في الجوانب الانسانية والخدمية المتنوعة، وهذه العوامل الثلاثة تمثلت بفتوى المرجعية الدينية، والدعم المطلق للجمهورية الاسلامية الايرانية، والتفاعل الجماهيري الواسع من مختلف فئات وشرائح المجتمع العراقي، دون اقتصارها على عنوان ديني أو مذهبي أو قومي أو مناطقي واحد.
ولعل الاطار المرجعي "فتوى الجهاد الكفائي" الذي تأسس الحشد على ضوئه، هو ذاته الذي حدد طبيعة سلوك ودور ومكانة وموقع الحشد بعد التخلص من عصابات "داعش"، مع الأخذ بعين الاعتبار أن اقرار قانون الحشد الشعبي من قبل مجلس النواب العراقي في السادس والعشرين من شهر تشرين الثاني-نوفمبر 2016، وضع النقاط على الحروف، وأجاب عن تساؤلات واستفهامات عديدة، وبدّد قدرًا غير قليل من المخاوف والهواجس المثارة من هنا وهناك، فضلًا عن القرارات والخطوات والاجراءات الحكومية والبرلمانية اللاحقة التي ساهمت في مأسسة الحشد وقطع الطريق على كل محاولات تهميشه وتغييبه وحله.
وفي واقع الأمر، ثنائية "داعش" وسبايكر وبما حملته وانطوت عليه من صفحات اجرامية دموية مؤلمة، قابلتها وتغلبت عليها ثنائية الفتوى والحشد، بما حملته وانطوت عليه من بطولات وتضحيات مشرّفة ما كان لها أن تتحقق لولا حكمة المرجعية وارادة الشعب، ومؤازرة الاصدقاء.
ـــــــــ
https://telegram.me/buratha