عادل الجبوري ||
كان موقع اغتيال كل من قائد فيلق القدس الايراني الجنرال قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي ابو مهدي المهندس قرب مطار بغداد الدولي قبل اكثر من عامين، المحطة الاولى للسفير الايراني الجديد في العراق محمد كاظم ال صادق، الذي باشر مهامه الرسمية في العاشر من شهر ايار-مايو الجاري، خلفا للسفير السابق ايرج مسجدي. ولعل رمزية المكان ورمزية الشخوص تعكس رسائل مهمة وبليغة وعميقة ترتبط بدلالات الخطوة الاولى لمشوار السفير ال صادق في العراق، ابرز وأهم تلك الرسائل هي التمسك بالثوابت والخطوط والمسارات التي عمل وتحرك واستشهد لاجلها وفيها سليماني والمهندس، في اطار محاربة الارهاب بشتى اشكاله ومظاهره وصوره، والتي تجلت بدرجة اكبر خلال الاعوام التي اجتاح فيها تنظيم داعش التكفيري مساحات واسعة من العراق وسوريا وهدد دولا عديدة في المنطقة. والرسالة الاخرى التي لاتقل اهمية عن الرسالة الاولى، تتمثل في ان الثأر والانتقام لجريمة اغتيال القائدين من قبل الولايات المتحدة الاميركية، ستبقى تشكل اولوية، بعيدا عن اي مساومات وصفقات سياسية، والرسالة الثالثة، هي التأكيد والتشديد على ضرورة حفظ وصيانة الارث الجهادي ليس للقادة الشهداء-سليماني والمهندس-فحسب، بل لمجمل مسيرة التضحيات في هذا الطريق، سواء في العراق او سوريا او لبنان او ايران او اليمن او في اي مكان اخر.
ولعل المواقف التي اشر اليها ال صادق بعد وصوله الى بغداد، تاتي تأكيدا وتعضيدا للمواقف التي عمل على تكريسها وترسيخها سلفه مسجدي. وواضح ان القيادة الايرانية كانت دقيقة في اختيارها للسفير الجديد في العراق، في سياق رؤيتها للمحافظة على زخم العلاقات الايجابية مع العراق، والسعي الجاد لتعزيزها وتقويتها في كافة الجوانب والمجالات، وبلا شك فأن طبيعة شخصية السفير وخلفيته الاجتماعية والثقافية تلعب دورا كبيرا في ذلك، وفيما يتعلق بالسفير الايراني الجديد، فأنه ولد في مدينة النجف الاشرف في ستينيات القرن الماضي من اسرة علمية حوزوية، ويجيد اللغة العربية وحتى اللهجة الشعبية العراقية الدارجة بطلاقة، وله المام كبير جدا بمنظومة القيم والتقاليد الاجتماعية العراقية، فضلا عن شبكة علاقاته الواسعة بمختلف الاوساط والمحافل والسياسية والاجتماعية والثقافية العراقية، بحكم عمله نائبا للسفير لعدة اعوام، ومسؤولا عن جملة من الملفات الحيوية المهمة، ومن بين ما قاله ال صادق بعيّد مجيئه الى بغداد سفيرا لبلاده فيها، "اشعر بأنني في بلدي الثاني العراق".
يعد محمد كاظم ال صادق رابع سفير ايراني لدى العراق منذ سقوط نظام صدام في ربيع عام 2003، حيث سبقه في هذا المنصب كل من السفير حسن كاظمي قمي، والسفير حسن دانائي فر، والسفير ايرج مسجدي، وفضلا عن السفارة في بغداد، هناك خمس قنصليات ايرانية في كل من البصرة والنجف وكربلاء واربيل والسليمانية، في ذات الوقت الذي يمتلك العراق قنصليتان في مدينتي مشهد وخوزستان الايرانيتين، ويعكس هذا الوجود الدبلوماسي الكبير، الاهمية الكبرى التي توليها قيادتا البلدين لتعميق وتعزيز الروابط بين الجانبين، تلك الاهمية التي تجلت من خلال الحراك الايجابي المتواصل على كل الصعد والمجالات والمستويات طيلة الاعوام التسعة عشر المنصرمة، رغم حقبة حرب الثمانية اعوام العبثية (1980-1988)، وما سبقها من مقدمات وما تبعها من تداعيات وارهاصات.
ولايختلف اثنان في ان ايران كانت-ومازالت-احد ابرز الاطراف الداعمة والمساندة للعراق سياسيا وامنيا واقتصاديا، والاكثر حرصا على استعادته حضوره ودوره الايجابي الفاعل في شتى الميادين والمحافل الدولية، لما لذلك من انعكاس ايجابي عليها وعلى عموم دول المنطقة.
ومع وجود الثوابت في سياسات طهران ومواقفها في علاقاتها مع العراق ومع محيطها الاقليمي-العربي، وعموم المجتمع الدولي، ومع وجود المصالح السياسية والامنية والاقتصادية المتشابكة بين بغداد وطهران بحكم عوامل جغرافية وتاريخية وثقافية واجتماعية مختلفة، فأن مواكبة المتغيرات والتحولات، والتعاطي معها بأيجابية يعد امرا لابد منه، وخصوصا في سياق الاتجاه الداعم والمؤدي الى تطويق المشاكل والازمات، وتقليص مساحات الخلاف والاختلاف.
ربما تختلف ظروف ومتطلبات وضرورات مواجهة تنظيم داعش في المنطقة عن ظروف ومتطلبات وضرورات ما يمكن تسميته بـ "المصالحات بين الخصوم والفرقاء"، وهذا الاختلاف قد يستدعي اليات عمل واولويات اخرى جديدة، ووجود سفير جديد لطهران في بغداد، ربما ينسجم ويتساوق مع طبيعة وجوهر المتغيرات والتحولات المطلوبة والحاصلة.
ولان الملفات متداخلة، والقضايا متشابكة، والمصالح متبادلة، والتحديات متشابهة في الاعم الاغلب، فمن الطبيعي جدا ان يكون لكل خطوة او مبادرة من طرف ما انعكاسات على الطرف او الاطراف الاخرى، اما سلبيا او ايجابيا، تبعا لطبيعة تلك الخطوة او المبادرة، فعلى سبيل الافتراض، لم تكن العلاقات على مدى اعوام طويلة، طيبة وعلى ما يرام بين العراق من جهة وبعض الاطراف الاقليمية والعربية من جهة اخرى، مثل المملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة، بسبب علاقات العراق الايجابية مع ايران، والسلبية بين الاخيرة والاطراف المشار اليها، وهذا يصدق على طبيعة واتجاه المواقف حيال ازمات ومشاكل المنطقة في لبنان وسوريا واليمن وما سواها.
ولاشك ان الحسابات والتقديرات الخاطئة، وتضرر المصالح، والرغبة في التخلص من اعباء وتبعات افتعال الحروب واثارة الازمات بالنسبة لبعض الاطراف، جعلها تبحث عن منافذ وابواب تخرجها من المازق التي وجدت نفسها فيها، وتجنبها المزيد من الانتكاسات والخسائر، وذلك افضى الى حصول حلحلة كبيرة جدا في مختلف المسارات، كالملف النووي الايراني، والملف السوري، والملف اليمني، والحلحلة في كل تلك المسارات وما يرتبط بها من مسميات وعناوين بدت وكأنها تتحرك بأيقاع واحد.
وبوادر وملامح الانفراج النسبي في العلاقات المتأزمة بين طهران والرياض، والدور المحوري لبغداد في ذلك، لاشك انه مثل احد ابرز معطيات حلحلة ملفات المنطقة الخلافية، فجولات الحوار التي استضافتها ورعتها بغداد خلال العامين الماضيين، وما افرزته من نتائج ايجابية، سوف تكون لها انعكاسات مستقبلية مهمة، نظرا لما تتمتع به كل من ايران والسعودية من اهمية وثقل وتأثير، ولما خلفته مراحل التقاطع والتأزم والاحتراب من اشكاليات وسلبيات كثيرة وكبيرة، القت بظلالها الثقيلة على المنطقة عموما والعراق على وجه الخصوص.
ومثلما كان للعراق دور ايجابي في تقريب وجهات النظر وتجسير الهوة بين الجارين الشرقي والغربي، فان ادواتهما وعناصرهما الدبلوماسية في بغداد اكملتا ذلك الدور الايجابي، ولعل السفير ال صادق كان احد العناصر الفاعلة الى جانب سلفه السفير مسجدي، اذ انه لم يكن بأمكان الماكنة الدبلوماسية العراقية ان تتحرك بفاعلية دون ان يكون هناك حراكا دبلوماسيا متزامنا مع حراكها من قبل طهران والرياض، علما ان عواصم اخرى مثل مسقط كانت تعزز المواقف والادوار وتدفع بأتجاه المزيد من الانفراج، دون اهمال حقيقة انه كانت هناك مسارات اخرى للانفراج غير مسار بغداد-طهران-الرياض، كمسار ابو ظبي-دمشق-طهران، ومسار انقرة-ابو ظبي-القاهرة، ومسار انقرة-الدوحة، وقبلها مسار الدوحة-الرياض-ابو ظبي، وفي كل المسارات كانت بغداد والممثليات الدبلوماسية المعنية فيها حاضرة بشكل او باخر، فضلا عن ان طبيعة وحجم تعقيدات الازمة السياسية العراقية، خصوصا ما بعد انتخابات العاشر من تشرين الاول-اكتوبر 2021، تحتاج لاحتوائها ومعالجتها والتغلب عليها الى انفراجات في المسارات الاقليمية المتعثرة والموصدة.
وقد يقفز الى الاذهان تساؤلا جوهريا، الا وهو.. هل تعني الحلحلة بين طهران وخصومها الاقليميين الذين انخرطوا في مشاريع التطبيع مع اسرائيل، انها-اي طهران-ستنخرط هي الاخرى ايضا، او بأدنى تقدير تتنازل عن جزء من ثوابتها لصالح جزء من مصالحها؟.
لاتبدو الامور هكذا، لان طهران تعمل على استثمار نقاط الالتقاء مع الاخرين، والعكس صحيح، مع محافظتها على الثوابت في مواقفها من الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل، ومشاريع التطبيع، وتبني خيارات المقاومة، والدفاع عن قضية الشعب الفلسطيني، وابلغ دليل على ذلك هو ان حلفائها واصدقائها لايشعرون بأي قلق ازاء تحركاتها وحراكها الاقليمي والدولي، ورسائلها المتواصلة من كل مكان تؤكد وتثبت ذلك، ولعل اخرها وليس اخيرها، رسائل سفيرها الجديد في بغداد، حيث سالت واختلطت دماء سليماني والمهندس على ارض العراق.
https://telegram.me/buratha