عادل الجبوري ||
في الثاني عشر من شهر ايار-مايو من عام 2003، وبالتحديد بعد ثلاثة وثلاثين يوما من الاطاحة بنظام صدام من قبل الولايات المتحدة الاميركية، تولى الدبلوماسي الاميركي بول بريمر ادارة شؤون العراق، بصفته الحاكم المدني او رئيس سلطة الائتلاف المؤقتة، وفقا لامر رئاسي اصدره الرئيس الاسبق جورج دبليو بوش، خلفا للجنرال المتقاعد جاي غارنر، الذي تولى المهمة لمدة شهر واحد، وكانت المهمة الاساسية لبريمر تتمثل بأعادة اعمار العراق بعد الدمار والخراب الذي تعرض له جراء الحروب والعقوبات والحصار، وكان اخرها حرب اسقاط صدام.
فقبل تسعة عشر عاما، وفي مثل هذه الايام وصل بريمر الى بغداد، في ظل توقف شبه تام لمختلف مظاهر الحياة في عموم البلاد، ليتخذ من احد قصور صدام في داخل المنطقة الخضراء مقرا له، ويشرع بأجراءات سريعة وعاجلة، عبر سلسلة قرارات بدت ارتجالية وغير مدروسة، انعكست اثارها وتداعياتها السلبية بعد وقت قصير من اتخاذها والعمل بها، من قبيل حل الجيش والمؤسسات الامنية المختلفة وكذلك المؤسسات الاعلامية، وتعطيل القطاعات الصناعية والزراعية الحيوية، ليقر ويعترف بخطأ تلك القرارات هو بنفسه في مذكراته التي كتبها فيما بعد تحت عنوان (عام قضيته في العراق: النضال لبناءِ غدٍ مرجو-My year in Iraq)، وفي احاديث حوارية مع وسائل اعلام مختلفة، وفي شهادات استماع امام لجان مختصة في الكونجرس.
ومن بين ما قاله بهذا الشأن، هو انه "ارتكبت أخطاء إستراتيجية كبيرة في العراق، مما أدى إلى تقويض جهوده لاحتواء المسلحين العراقيين، وأودى بأرواح الكثير منهم إلى جانب قوات التحالف، وان عقلية ما بعد فيتنام التي كانت سائدة بين جنرالات الجيش الأميركي، أدت إلى حرب غير فعالة مع المسلحين، فما إن تقضي على العدو في مكان ما، حتى يظهر بغتة في مكان آخر".
وقال ايضا، "ان الإدارة الأميركية كانت تأمل أن يساعد القبض على صدام حسين في إقناع السنة المعتدلين بالاندماج في العملية السياسية وترسيخ قناعة نهاية البعث لديهم ولدى غيرهم أيضا، وكنا نتوقع أن يساعد أيضا في لجم عمليات اجتثاث البعث". فضلا عن ذلك فانه أقر في عام 2007 أمام جلسة مساءلة في داخل الكونجرس بأنه "ارتكب أخطاء، وانه لو عاد به الزمن إلى الوراء لكان عالج عدة قضايا بطريقة مغايرة"!. وقبل ذلك، فأن تقريرا اعدته الادارة الاميركية عام 2005، اي بعد مغادرة بريمر العراق ببضعة شهور، اكد إساءة إدارة الأموال في العراق واختفاء نحو تسعة مليارات دولار كانت مخصصة لإعادة الإعمار".
ويشير بريمر في احد المواضع الى انه "كان من الضروري التعلم من دروس الماضي، تحديدا تجربتي البوسنة والهرسك والصومال، اللتين تؤكدان أن العدد الكافي من القوات على الأرض سيؤدي لحماية السكان، وكان من الأفضل أن يأخذ القادة الأميركيون بنصيحة مؤسسة بحثية أوصت بإرسال أربعمائة ألف جندي إلى العراق، بدلا من مجرد 180 ألفا"!.
وفضلا عن اعترافات بريمر بأخطائه الكارثية، فأن مسؤولين اميركان كبار اكدوا ذلك بوضوح، فذاك السفير زلماي خليل زاد، الذي انيطت به مسؤولية الملف العراقي في مرحلة المعارضة في الفترة الاخيرة التي سبقت الاطاحة بنظام صدام، يقول "ان إعلان حل الجيش العراقي من قبل الحاكم المدني بول بريمر تم في بغداد، ولم يخضع لنقاش متأن بواشنطن من قبل الرئيس جورج دبليو بوش والقيادة العسكرية"، بيد ان بريمر فنّد مزاعم زميله خليل زاد، بالقول ، "إن الأمر تم بعد موافقة من الرئيس السابق جورج دبليو بوش خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي يوم 13 مايو/أيار 2003".
لاشك ان بريمر، بحكم صلاحياته الواسعة جدا، وعدد القوانين والقرارات والتشريعات التي اصدرها خلال فترة الثلاثة عشر شهرا (ايار 2003-حزيران 2004)، وبلغت حوالي مائتي قانون وتشريع، يتحمل مسؤولية الجزء الاكبر لما حصل فيما بعد من ماسي وكوارث وويلات في العراق، جراء المعادلات السياسية القلقة والمضطربة التي فرضها، والفراغ الامني الذي تسبب به حل المؤسسات الامنية والعسكرية مرة واحدة، والفوضى الاجتماعية العارمة في ظل غياب سلطة الدولة والقوانين الرادعة، ناهيك عن تفشي مختلف مظاهر الفساد في كل مفاصل الدولة.
ان ما لايختلف عليه معظم-ان لم يكن جميع-الزعماء والقادة السياسيين في العراق رغم اختلافهم وتقاطعهم حول الكثير من القضايا والملفات، هو "ان حقبة الحاكم المدني الأميركي للعراق بول بريمر، التي دامت أكثر من عام، شهدت سلسلة تحولات مصيرية تركت آثارها الواضحة على حاضر البلاد ومستقبلها"، او بعبارة اخرى، يقول البعض بكل وضوح وصراحة، "أن الولايات المتحدة ومندوبها وضعا أسس الفساد وإشاعة الفوضى وتحطيم مؤسسات الدولة".
وبعد مرور تسعة عشر عاما على الاطاحة بنظام صدام وخضوع العراق للاحتلال الاميركي، ومجيء بريمر للتصدي لمهمة اعادة الاعمار، تبدو الصورة قاتمة الى حد كبير، وبصمات تلك المرحلة المفصلية، مازالت ماثلة على الارض، بل واكثر من ذلك، افضت البناءات الخاطئة الى تراكم السلبيات والانحرافات في شتى الصعد والمستويات والجوانب والمجالات، دون ان يعني ذلك عدم تحمل القوى والكيانات والشخصيات العراقية التي شاركت في ادارة الدولة خلال العقدين الماضيين مسؤولية بعضا مما حصل.
واذا كانت السياسات والمواقف الأميركية والغربية، وكذلك العربية، هي من أوجدت مجمل الكوارث والويلات التي حلت بالعراق بسبب نظام صدامطيلةة عقدين او اكثر من الزمن، فهي ذاتها تقريبًا التي كرست مظاهر الفوضى والاضطراب وغياب الاستقرار في العراق بعد التاسع من نيسان-ابريل 2003، فالولايات المتحدة الأميركية التي احتلت العراق وفرضت حاكما أميركيا عليه يتصرف كيفما يشاء، هي التي حلت معظم مؤسساته الحكومية، العسكرية والأمنية والسياسية والإعلامية، وهي التي أباحت عمليات النهب والسلب لأموال وممتلكات الدولة، وأوجدت ثقافة "الحواسم"، وهي التي وضعت معادلات سياسية قلقة استندت على اعتبارات ومعايير طائفية وقومية، لم تكن سوى قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أية لحظة، وهي التي هيأت ومهدت الأرضيات المناسبة للتنظيمات والجماعات الإرهابية المسلحة لتصول وتجول في طول البلاد وعرضها، وهي التي شرعنت ثقافة الفساد الاداري والمالي، لتتعطل الزراعة والصناعة وتتراجع الخدمات الأساسية ويتدهور التعليم، وتنعدم فرص النهوض وتتلاشى آفاق التقدم والازدهار.
ولم يكن ملايين العراقيين الذين فرحوا واستبشروا كثيرًا بزوال نظام صدام، بحاجة الى وقت طويل ليدركوا ويستوعبوا أن الولايات المتحدة التي جعلت نظام صدام يجثم على صدورهم لسنين طوال، لن تتركهم يواصلوان فرحتهم، لأنها فتحت صفحة مأساوية جديدة، بعناوين ومسميات وأشكال ومظاهر أخرى.
ولعله بعد أعوام قلائل من الغزو والإحتلال، بات هناك إدراك في الشارع العراقي ولدى مختلف النخب والشرائح، بأن الكثير من المشاكل والأزمات التي حصلت، كان من الممكن أن لا تحصل لولا سياسات واشنطن الخاطئة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أكدت العضو السابق في مجلس النواب الاميركي لين وولسي، في تصريحات صحفية لها قبل بضعة أعوام، أنه "لا يمكن للرأي العام العراقي أن ينظر الى مثل هذا العدد الضخم من القوات الاميركية، إلا على أنه قوة احتلال مستمر، وأنه ما دام ينظر الى الولايات المتحدة على أنها طرف محتل، لن يستطيع العراقيون تحقيق الوحدة المطلوبة والمصالحة وبذل مزيد من جهود التحول الديمقراطي اللازمة كي يحققوا استقرارًا طويل الأمد في البلاد".
ورغم أن القوات الأميركية انسحبت من العراق بصورة كاملة في نهاية عام 2011، وفق الاتفاقية الأمنية المبرمة بين الطرفين في عام 2008، إلا أن المعطيات والحقائق على الأرض لم تتبدل كثيرًا، لا سيما بعد اجتياح تنظيم "داعش" الارهابي لعدد من المدن العراقية في صيف عام 2014، وبالتالي تواصلت واتسعت حالة الشد والجذب، لأن واشنطن أصرت على استمرار تواجدها العسكري في العراق، وبغداد أصرت على انهائه، لزوال مبررات وحجج ذلك التواجد، ولما تسبب به من مشاكل وازمات.
وفي دراسة لها بموقع "ديفينس وان"، تؤكد الباحثة الاميركية جوليا جريدهيل، "ان المغامرات العسكرية الاميركية المستمرة ادت الى تزايد حدة المشاعر المعادية للولايات المتحدة، وتنامي جهود التعبئة لدى المجموعات الارهابية، التي تزايدت اعدادها اليوم بمقدار اربعة اضعاف عما كانت عليه في عام 2001". وتقول "ان المقاربة الباهظة التكاليف خلال العقدين الأخيرين أسهمت فقط في تضخيم وتوسيع حجم المنظمات الارهابية بدلًا من اقتلاعها".
وليست وحدها الآثار والخسائر البشرية والمادية التي خلفتها حروب أميركا في العراق والدول الأخرى، بقيت شاخصة حتى اليوم، وسوف تبقى كذلك لأمد غير منظور، بل إن مشاعر الرفض والعداء لأميركا اتسعت وتنامت الى مستويات عالية جدا، بحيث انها لم تقتصر على شعوب ومجتمعات الدول التي تعرضت للحروب، وانما امتدت الى شعوب اوروبا، والشعب الاميركي كذلك.
ولأن واشنطن عملت على تأسيس معادلات سياسية قلقة في العراق تحديدا، ارتكزت على معايير طائفية وقومية ومذهبية، ساهمت في ايجاد مناخات سياسية متأزمة ومتشنجة على الدوام، سادتها الصراعات الحادة على مواقع السلطة والهيمنة والنفوذ، وأريد لها أن تكون بشكل أو بآخر بمثابة أرضيات لتمرير أجندات ومشاريع التفتيت والتقسيم، فأنه كان من الطبيعي جدا ان تتسع مساحات الرفض والاستياء الشعبي والنخبوي لها، ومن الطبيعي جدا ان تقترن صورة بريمر بكل ما هو سلبي وخاطيء ومشوه، وسيبقى ذلك الاقتران قائما حتى بعد رحيله، ليس من العراق فحسب، وانما من العالم بأسره!.