عادل الجبوري ||
لعل واحدة من ابرز واهم الموضوعات التي شغلت حيزا واسعا في مختلف النقاشات والسجالات والجدالات داخل اروقة النخب السياسية والاقتصادية والثقافية العراقية، وعموم الرأي العام العراقي خلال الاعوام القلائل الماضية، هي كيفية استثمار وتوظيف القدرات والامكانيات الصينية المالية والتقنية الضخمة في اصلاح وتطوير ودعم وتعزيز الواقع الاقتصادي والخدمي والحياتي في بلد انهكته واستنزفته الحروب والصراعات والعقوبات العبثية على مدى اكثرمن اربعة عقود من الزمن.
مفردتان شكلتا الاطار العام لمجمل تلك النقاشات والسجالات والجدالات، وهما الاتفاقية الاستراتيجية العراقية-الصينية، ومشروع طريق الحرير، ولاشك ان هناك ترابطا وتداخلا بين المفردتين، وان بدا للبعض من خبراء المال والاقتصاد، ان كلتيهما تسيران بأتجاهين متوازيين.
في عهد رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، تم ابرام الاتفاقية الاستراتجية مع الصين، خلال زيارته اليها في اواخر شهر ايلول-سبتمبر 2019، على رأس وفد حكومي رفيع المستوى ضم عددا كبيرا من الوزراء والمحافظين والخبراء والمستشارين والمدراء العامين بتخصصات ومواقع مختلفة.
خلاصة الاتفاقية، تتمثل في ان الصين تقوم بأستيراد مليون برميل من النفط العراقي يوميا، مقابل ايداع عوائد مائة الف برميل منها في حساب مصرفي خاص، لتتبنى الصين تخصيص قروض بقيمة عشرة مليارات دولار، تمنح للعراق بصيغة مشاريع للبنى التحتية، كالموانئ وخطوط السكك الحديدية والمطارات والاسكان وطرق النقل والمدارس والمستشفيات والمشاريع الصناعية والزراعية المختلفة، وكلما ازدادت الايداعيات المالية في الصندوق الخاص، بادرت بكين الى رفع قيمة القروض، وبالتالي توسيع نطاق عملية البناء والاعمار في شتى القطاعات والمجالات، وقد لخص البعض الاتفاقية بعبارة "النفط مقابل الاعمار".
النقاط والعناصر الايجابية في الاتفاقية الاستراتيجية مع الصين، تتمحور بحسب العديد من المختصين، في انها خالية من الشروط القاسية التي يمكن ان تكون مرتبطة بحسابات ومصالح سياسية وامنية، كما هو متعارف عليه، حينما تقوم اغلب البلدان الغنية والمؤسسات المالية الدولية، كصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، بمنح قروض للبلدان الفقيرة او التي تعاني ظروفا اقتصادية ضاغطة، تكون مقرونة بالكثير من الاشتراطات والاملاءات التي من شأنها المساس بأستقلالية وسيادة وامن البلدان الحاصلة على القروض والمنح والمساعدات. والنقطة الايجابية الاخرى، هي انها-اي الاتفاقية-تختزل الى حد كبير الحلقات البيروقراطية المتعددة، التي تتيح تشكيل منظومات الفساد، وسوء الادارة، وضعف الكيفية والاداء، وهذه باتت ظواهر واضحة جدا للعيان في عموم المشهد العراقي العام خلال العقدين الماضيين، بحيث انها تسببت بهدر اموال طائلة، الى جانب ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وتراجع وتدني الخدمات الاساسية، وتلكوء وتعثر كل مشاريع وخطط التنمية.
وفي هذا السياق يشير الاكاديمي الاقتصادي الدكتور نبيل المرسومي الى "ان الاتفاقية من الممكن ان تكون نافذة لتطوير البلد اقتصاديا فيما لو أحسن استثمارها في مشاريع معينة تساهم في التغلب على قيد التمويل، وتوفر للعراق التمويل لإنشاء عدد من المشاريع الإستراتيجية المتفق عليها في الاتفاقية، وكذلك الاستفادة من الحزم التكنولوجية للإدارة الصينية وتنوع علاقات العراق اقتصاديا، وان ما أعلن عنها وما تتضمنه من مشاريع سيجعل العراق في مصاف الدول المتقدمة اقتصاديا، حيث تضمنت إنشاء عشرات المستشفيات وشبكات طرق وجسور متكاملة وملايين الوحدات السكنية، وكذلك موانئ ومطارات".
وكان الرئيس الصيني شي جين بينغ قد صرح خلال زيارة عبد المهدي المشار اليها، "إن الصين مهتمة جدا بالعلاقات مع العراق، ونحن صديق موثوق وقوة سلمية بناءة، ونعد العراق شريكا استراتيجيا وأساسيا في الشرق الأوسط".
وقد تمحور جانب كبير من مباحثات العراق مع الصين في حينه على قضية انشاء ميناء الفاو الكبير، بأعتباره مشروعا استراتيجيا يمكن ان يحدث قفزة نوعية في الاقتصاد العراقي، ويفتح افاقا رحبة لتحريك وتنشيط مختلف القطاعات، على المديين المتوسط والبعيد.
بيد ان اسبابا وعوامل وظروفا داخلية وخارجية، عرقلت تنفيذ الاتفاقية الاستراتيجية، لعل من بينها استقالة حكومة عبد المهدي تحت ضغط التظاهرات الاحتجاجية المطالبة بالاصلاح والتغيير، وتشابك وتداخل وتقاطع المصالح والحسابات الخاصة بين القوى المؤثرة والفاعلة في المشهد السياسي العراقي، والبيروقراطية المقيتة، وغياب مركزية القرار والحسم. الى جانب الدور الاميركي في عرقلة اي انفتاح عراقي على العالم الخارجي اذا لم يكن ضمن مقاسات وحسابات ومصالح واشنطن، كما هو حاصل في اختلاق العراقيل والمعوقات امام شركة "سيمنز" الالمانية المتخصصة في مجال الطاقة الكهربائية للعمل في العراق، حتى تكون خيوط ذلك الملف الحيوي بيد شركة "جنرال اليكتريك" الاميركية فقط دون منافس.
ولاشك ان الاسباب والعوامل والظروف المشار اليها، وربما اسباب وعوامل فنية وتقنية غيرها، افضت الى ان يؤول مشروع بناء ميناء الفاو الكبير لشركة "دايو" الكورية على حساب الشركة الصينية الهندسية للانشاءات (CMEC)، وفق ما اعلن وزير النقل العراقي ناصر الشبلي في السادس من شهر تشرين الاول-اكتوبر 2020، لتختلط الاوراق وترتبك الامور على وقع انتحار المدير التنفيذي للشركة "بارك تشول هوبا"، بعد ثلاثة ايام من ابرام الشركة عقد ميناء الفاو مع وزارة النقل العراقية، في ظل ظروف وملابسات غامضة، وهو ما اشر الى جانب من ملامح الصراع والتنافس السياسي والحزبي على المغانم والمكاسب الاقتصادية والمالية. ورغم ان "دايو"، شرعت بالعمل بعد فترة من الزمن، الا ان البدايات كانت-وربما مازالت-متعثرة ورتيبة، بفعل الاسقاطات السياسية المختلفة.
وقد يكون لذلك التعثر والتلكوء والتباطوء، انعكاسا على انخراط العراق في مشروع طريق الحرير الاستراتيجي، لان الاخير يتطلب توافر الظروف والادوات التي من شأنها اخراجه من الاطر النظرية والتنظيرية وترجمته عمليا على ارض الواقع.
واذا كان مشروع طريق الحرير سوف يعزز النفوذ الصيني على الصعيد العالمي، ويعزز اقتصاد بكين المتسارع النمو بوتيرة متصاعدة منذ اكثر من عشرين عاما، وربما يتيح لها ازاحة الولايات المتحدة الاميركية عن صدارة المشهد العالمي بعد عدة اعوام، فأن الدول المنخرطة فيه، وعددها مائة وستة وعشرين دولة الى جانب تسعة وعشرين مؤسسة دولية، يفرض حقائق ومعطيات جديدة، يمكن ان ترسم وتصيغ خرائط وتوازنات وتحالفات ومعادلات واصطفافات عالمية تختلف عن تلك القائمة حاليا، لاسيما مع حقيقة ان الاقتصاد بات العامل المحرك والحاسم والمحدد لاحجام الدول والمجتمعات، اكثر من تعداد جيوشها وترساناتها العسكرية، وثرواتها الطبيعية.
ومنذ بضعة اعوام، شرعت الصين في احياء مشروع-طريق-يعود تأريخه الى ما قبل اكثرمن الفي عام، يربط بين قارات العالم القديم(اسيا واوربا وافريقيا)، اطلقت عليه (الحزام والطريق)، وكما اوضحه الرئيس الصيني "شي جين بينغ" في خطابه بقمة "طرق الحرير الجديدة"، الذي استضافته بكين في شهر نيسان-ابريل 2019، بمشاركة اكثر من مائة وخمسين دولة، بأنه، مبادرة صينية قامت على أنقاض طريق الحرير القديم، ويهدف إلى ربط الصين بالعالم عبر استثمار مليارات الدولارات في البنى التحتية على طول طريق الحرير الذي يربطها بالقارة الأوروبية، ليكون أكبر مشروع بنية تحتية في تأريخ البشرية، ويشمل ذلك بناء مرافئ وطرقات وسككا حديدية ومناطق صناعية.
وبالفعل، انطلقت الصين، ومنذ عام 2013 بأبرام الاتفاقيات، وضخ المليارات على مشاريع شق الطرق البرية وانشاء السكك الحديدية والمرافيء في عدة دول، من بينها باكستان وكينيا وتنزانيا، فضلا عن اندفاع وحماس دول غربية وشرقية متقدمة اقتصاديا، مثل ايطاليا وبريطانيا وايران وتركيا في ذلك المشروع الاستراتيجي الحيوي. ووفقا لتقارير ودراسات احصائية، انفقت الصين منذ الانطلاقة الاولى للمشروع قبل ثمانية اعوام، مايقارب ثمانين مليار دولار في مشاريع متعددة، وقدمت مصارفها قروضا لجهات حكومية وغير حكومية مختلفة، تراوحت اقيامها بين 175 و 265 مليار دولار.
وهذا الاتجاه يؤشر بوضوح الى ان الصين مستعدة لالقاء كل ثقلها، حيثما تجد الارضيات مناسبة والمناخات مؤاتية، لانجاح وتوسيع مشروعها. وفي العراق لايبدو ان الارضيات المناسبة والمناخات المؤاتية قد توفرت وتهيأت بالشكل والمستوى المطلوب، وسط ارباكات سياسية وامنية مزمنة، وتخبط وتردد في اتخاذ القرارات الصحيحة والسير في الاتجاهات السليمة.
ورغم ان وزير النقل العراقي صرح في اواخر عام 2020، بان بلاده ستكون المحطة الرئيسية في مشروع طريق الحرير بالمنطقة، بيد انه طيلة اكثر من عام على ذلك التصريح، لم تتحقق خطوات عملية يعتد بها، وحتى العروض الكثيرة من قبل الشركات الصينية للاستثمار في العراق، كانت تصطدم بالعديد من العراقيل والمعوقات، ناهيك عن ان الغموض في معالم المشهد السياسي في المرحلة المقبلة، يمكن ان يعطل اي خطوة حقيقية نحو الامام.
ربما لو كان مشروع ميناء الفاو الكبير، قد اوكل تنفيذه الى الصين، ولو ان الاتفاقية الاستراتيجية وجدت طريقها الى التطبيق العملي، لكانت الصورة اليوم مختلفة نوعا ما عما هي عليه الان. وحتى مشاريع الربط السككي بين العراق وبعض الدول المجاورة، لن تر النور ما لم يتم تذليل العقبات القائمة، وحل ومعالجة المشاكل والقضايا الجانبية العالقة، هذا في الوقت الذي يحتدم الجدل حول مشاريع تلفها الشكوك ويحيطها الغموض، لارتباطها بأجندات سياسية قد لاتخدم العراق، ولاتتوافق مع توجهاته واولوياته وثوابته السياسية والامنية، كما هو الحال مع مشروع مد انابيب لنقل النفط من محافظة البصرة المطلة على الخليج، عبر الاردن الى ميناء العقبة على البحر الاحمر قبالة ميناء ايلات التابع للكيان الصهيوني في الاراضي الفلسطينية المحتلة، وبهذا الشأن يرى مختصون في الشؤون الاقتصادية، "ان مد أنبوب العقبة من البصرة إلى الأردن ومصر ثم الكيان الصهيوني، جاء تلبية لضغوط أميركية وإقليمية وعربية، وأن العراق يعد الخاسر الأكبر منه". .
مازال الحديث والبحث في اهمية وضرورة وجدوى مشروع طريق الحرير داخل الاوساط والمحافل السياسية والاقتصادية العراقية، مقتصرا في مجمله على الامنيات والطموحات والتصورات الاجمالية العامة، بصورة سطحية عابرة، ولم يصل البحث والنقاش الى العمق، ليبلور رؤى استراتيجية تحدد الملامح والافاق التنموية الحقيقية للغد وما بعده، بعيدا عن تجاذبات وصراعات الكراسي والاموال والمواقع والامتيازات، ومتاهات وغياهب الفساد والافساد!.