عادل الجبوري ||
من الصعب جدا، بل من غير الممكن، قراءة وتحليل مسيرة الثورة الاسلامية الايرانية بعد ثلاثة واربعين عاما من انتصارها التأريخي الكبير بزعامة الامام الراحل اية الله العظمى روح الله الموسوي الخميني من زاوية واحدة، او انطلاقا من عنوان واحد، واهمال الزوايا والعناوين والجوانب الاخرى، لان مثل تلك القراءة، لاشك انها لن تكون موضوعية ولا شاملة، ولا مستوعبة لكمّ كبير من التحديات المختلفة الاشكال والمظاهر والمضامين، على مدى اكثر من اربعة عقود من الزمن.
في الاطار العام، يمكن التأشير الى جملة حقائق، شكلت بمجملها صورة الثورة-الدولة الايرانية اليوم، وتتمثل هذه الحقائق في:
اولا: انها استطاعت مواجهة وتجاوز تحديات كبيرة وخطيرة طيلة اعوامها الثلاثة والاربعين، ونجحت في البقاء والصمود، واكثر من ذلك نجحت في بناء دولة لها ثقلها وحضورها وعمقها وتأثيرها في محيطها الاقليمي، وعموم الفضاء الدولي، بعبارة اخرى نجحت في تحويل الكثير الكثير من التهديدات والتحديات الى فرص وانجازات.
ثانيا: تمكنت من بناء نظام سياسي متميز يختلف في العديد من خصوصياته وميزاته عن اغلب الانظمة السياسية القائمة في عالم اليوم، من خلال المزاوجة بين اليات ومناهج وسياقات المفاهيم السياسية المعاصرة، كالديمقراطية والتعددية وتداول السلطة وحرية التعبير والعمل السياسي، وبين قيم ومباديء الدين الاسلامي التي شكلت هويتها الاساسية.
ثالثا: استطاعت التوفيق بين الثوابت الوطنية والدينية ومصداقية الشعارات التي رفعتها من جهة، وبين المصالح والاعتبارات السياسية والامنية والاقتصادية التي ينبغي الاهتمام بها وعدم اهمالها في ظل واقع اقليمي ودولي لايحتمل انعزال وانكفاء أيا من مكوناته، من جهة اخرى.
رابعا: افردت حيزا كبيرا جدا من الاهتمام بقضايا الشعوب والامم والمجتمعات المستضعفة والمضطهدة، ليس في نطاق العالم الاسلامي فحسب، وانما خارجه ايضا، رغم ان ذلك الاهتمام كلفها الكثير الاستحقاقات والتبعات، التي تبلورت وتجلت بصورة حروب وعقوبات وحصار ومؤامرات واغتيالات وتصفيات، ومنذ اليوم الاول لانتصار الثورة الايرانية في العاشر من شباط-فبراير 1979 وحتى هذه اللحظة لم تتوقف اي من مظاهر واشكال الاستهداف المشار اليها، ولايبدو انها ستتوقف وتختفي وفقا للوقائع الماثلة على الارض.
ورغم ان هناك عواملا وظروفا واسبابا عديدة مختلفة، ساهمت في ارساء وترسيخ اسس ومباديء وثوابت الثورة الايرانية بهويتها الاسلامية والانسانية والعقائدية، الا ان الدور الاكبر كان لزعيمها وقائدها ومفجرها الامام الخميني (1902-1989)، الذي اطلق شرارة الثورة من المدرسة الفيضية بمدينة قم المقدسة في عام 1963 بخطاب مجلجل ضد نظام الشاه محمد رضا بهلوي، الذي كان في ذلك الحين يتمتع بأوج قوته وسطوته بفضل الدعم الاميركي والبريطاني الكبير له.
ولاشك أن مفجر الثورة الإيرانية وقائدها الامام الخميني، يعد واحدا من أبرز الشخصيات في التأريخ المعاصر، التي أسهمت في إيجاد نهضة إنسانية عالمية، عبر حركة جهادية بعناوين ومظاهر متعددة امتدت لما يقارب الستة أو السبعة عقود من الزمن. ولم يكن الامام مجرد زعيم سياسي هدفه الوصول إلى السلطة والحكم بقدر ما كان مصلحا عالميا كبيرا، قاد مشروعا شاملا للتغيير والاصلاح.
ومن الطبيعي ان تحليل ماهية مفردات ومفاهيم الثورة الايرانية، واجراء مقاربات بينها وبين مفردات ومفاهيم منظومات ثقافية وفكرية اخرى، يمكن له ان يساهم في اجلاء الجانب الآخر من صورتها، والذي لم يكن واضحا بما فيه الكفاية للذين كانوا يراقبون تفاعلات الوقائع والاحداث من بعيد، ولم تتاح لهم الفرصة للاقتراب من مسرحها.
ففكر وشخصية مفجر الثورة، ساهما الى حد كبير في استجلاء صورة الواقع بدقة ووضوح، حيث لايمكن للمتابع او الباحث الوقوف على حقائق الثورة الايرانية ويشخصها بدقة ما لم يتوقف عند الخطاب المتعدد الابعاد والجوانب الذي تبناه الامام الخميني منذ الانطلاقة الحقيقية لحركته الشاملة في عام 1963 وحتى رحيله في عام 1989، بل وحتى بعد رحيله، ذلك الخطاب الذي شكل ثوابت ومباديء النظام السياسي الاسلامي في ايران، والاطار العام لمنهج محور المقاومة.
ولعل شمولية وعالمية الثورة الايرانية، ارتبطت بشمولية وعالمية شخصية الامام الخميني، التي جعلته دائم التأثير والحضور في المشهد العالمي، بأبعاده السياسية والفكرية والثقافية والانسانية، وملهما للكثيرين، حتى من اتباع الديانات الاخرى غير الاسلامية، واصحاب الافكار والنظريات والاراء البعيدة عن الفكر الاسلامي.
ويصف القس المسيحي الماروني يوحنا عقيقي، الامام الخميني بأنه "كان عنصراً فاعلاً ومؤثراً للغاية، وشخصية بارزة صانعة للتاريخ، وقد استطاع أن يغير مخططات الجغرافيا السياسية المهيمنة على منطقة الشرق الاوسط .. وهو -اي الامام الخميني- لم يحيي البعد الروحي فقط، بل والبعد الانساني ايضا، وليس للشعب الايراني وحده، وإنما للانسانية بأسرها أينما وجدت".
وهذا وزير الخارجية الاميركي الاسبق هنري كيسنجر، وهو الذي يعد من بين ابرز الشخصيات المؤثرة في المنظومة السياسية والفكرية المعادية للثورة الايرانية وزعيمها، يقول "لقد جعل آية الله الخميني الغرب يواجه أزمة حقيقية في التخطيط، لقد كانت قراراته مدوّيةً كالرعد بحيث لا تدع مجالاً للساسة والمنظرين السياسيين لاتخاذ أي فكر أو تخطيط. لم يستطع أحد التكهن بقراراته بشكل مسبق. كان يتحدث ويعمل وفقاً لمعايير أخرى، تختلف عن المعايير المعروفة في العالم، كأنه يستوحي الإلهام من مكانٍ آخر، إن معاداته للغرب نابعة من تعاليمه الإلهية، ولقد كان خالص النية في معاداته أيضا".
ولان الامام الخميني اقام في العراق، وتحديدا في مدينة النجف الاشرف، ما يربو على الثلاثة عشر عاما من مسيرة رحلته القسرية في المهجر، اي منذ عام 1965 وحتى عام 1978، ولان هناك الكثير من القواسم الدينية والثقافية والاجتماعية والتأريخية والجغرافية المشتركة، فضلا عن افرازات الثورة الايرانية واندلاع الحرب بين العراق وايران، بعد حوالي عام ونصف من انتصارها، لذا فأن صدى الثورة وانعكاساتها وصلت الى العراق سريعا، ان لم تكن بعضا من مقدماتها قد تبلورت ونضجت بالاساس من هناك.
وقد كان معبرا وعميقا جدا وصف المفكر الاسلامي الكبير اية الله العظمى الشهيد السيد محمد باقر الصدر لانتصار الثورة الايرانية، بقوله: "ان الامام الخميني حقق حلم الانبياء"، الى جانب ذلك، فأن الدستور الايراني بعد انتصار الثورة، استوحى مجمل مضامينه وافكاره من كتاب الشهيد الصدر الموسوم (لمحة فقهية عن مشروع دستور الجمهورية الاسلامية)، الذي انجزه قبل فترة زمنية قصيرة من انتصار الثورة، وتمت ترجمته الى اللغة الفارسية، وانتشر على نطاق واسع بين الاوساط الحوزوية، وحظي بأهتمام كبير من النخب السياسية والعلمائية والاكاديمية الايرانية، تجلى من خلال الصياغة النهائية للدستور الايراني، ولاشك ان التأييد المعلن والصريح من قبل الشهيد الصدر للثورة الايرانية وقائدها الامام الخميني، دفع نظام حزب البعث في العراق حينذاك الى الاسراع بأنهاء وجوده، وهذا ما حصل بالفعل، حينما تم تنفيذ حكم الاعدام به مع شقيقته السيدة امنة الصدر(بنت الهدي) في الثامن من نيسان-ابريل 1980.
ومع استمرار دعم واسناد الجمهورية الاسلامية الايرانية للمعارضة العراقية في نضالها ضد نظام الحكم في بغداد، ازدادت الوشائج والروابط، وتنامى تعاطف العراقيين مع الثورة والدولة في ايران، رغم ما افرزته وخلفته حرب الثمانية اعوام(1980-1988) من مشاكل وازمات عميقة بين البلدين. وبرزت نتائج ومعطيات وثمار تلك الوشائج والروابط بعد الاطاحة بنظام صدام في ربيع عام 2003، اذ كانت ايران في مقدمة الدول التي اندفعت وسارعت الى الانفتاح على العراق، وتقديم الدعم له في شتى المجالات، والسعي الجاد الى حل ومعالجة القضايا والملفات العالقة معه.
وكان هذا التوجه جزءا من سياسة ايران الخارجية التي تبنت مبدأ الانفتاح والتواصل مع مختلف الاطراف، بما يساهم في تعزيز الامن والاستقرار الاقليمي، ويكرس المصالح المتبادلة، ويعالج الازمات المتشابكة. ومما لايختلف عليه اثنان هو ان الجهورية الاسلامية الايرانية نجحت الى حد كبير جدا في بناء علاقات متوازنة مع محيطها الاقليمي رغم اجواء ومناخات الحروب والصراعات الدموية، وكذلك نجحت في بناء علاقات متوازنة مع مختلف اطراف المجتمع الدولي، سيما المهمة منها، كألاتحاد الاوربي واليابان وروسيا والصين، واضطلعت بأدوار ايجابية في معالجة ازمات ومشكلات غير قليلة، وافلحت في احباط كثير من المؤامرات والمخططات الهادفة الى زعزعة استقرارها الداخلي، واقحامها في دوامة صراعات مع هذا الطرف او ذاك من اجل اضعاف قدراتها وامكانياتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وبالتالي فهي باتت تمثل لاعبا فاعلا ومؤثرا ليس على الصعيد الاقليمي فحسب، وانما على الصعيد الدولي، وباتت تشكل رقما صعبا في المعادلات السياسية لايمكن بأي حال من الاحوال تجاوزه او تجاهله او القفز عليه.
وذلك النجاح، هو في الواقع جزء من النجاح في التوفيق والمزاوجة بين ثوابت ومباديء الثورة، وبناءات وسياسات الدولة، وتلك مهمة لم تكن سهلة ويسيرة في خضم بحر متلاطم من المصاعب والتحديات والمؤامرات، بيد ان المقدمات والاسس الصحيحة، افضت الى نتائج ومخرجات سليمة.
وفي مقدمة مذكرات قائد الثورة الاسلامية الايرانية اية الله السيد علي الخامنئي الصادرة باللغة العربية تحت عنوان (ان مع الصبر نصرا)، نجد صورة اجمالية للثورة وقائدها بالقول "لقد جمع هذا الرجل الكبير-في اشارة الى الامام الخميني-كل ما يحقق النصر لمشروع الثورة.. اصالة ومعاصرة، ودعوة الى العزة والى العدالة ونصرة المستضعفين ومقارعة المستكبرين، والاعتماد على الجماهير والثقة بها، ورفض كل عمليات الاذلال والاستضعاف والهيمنة الاجنبية، وكل ما يؤدي الى الهزيمة النفسية وتزلزل الثقة بالنفس... من هنا كان لانتصار هذه الثورة ولايزال صدى عميق في نفوس الشعوب التواقة لحياة افضل، فقد ايقظت جماهير اريد لها ان تغط في سبات عميق، واحيت نفوسا كاد يغلب عليها اليأس من عودة الاسلام الى الحياة".
ـــــــــ
https://telegram.me/buratha