عادل الجبوري ||
في مذكراته الصادرة باللغة العربية تحت عنوان (ان مع الصبر نصرا)، يستعرض آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي مختلف محطات حياته الاجتماعية والعلمية والجهادية والسياسية الحافلة بالكثير من الآلام والمعاناة والمآثر والتضحيات، منذ الأعوام الأولى من عمره، وصولًا الى انتصار الثورة الإسلاميّة
مذكرات الإمام الخامنئي، هي في واقع الحال، تدوين وتوثيق لحقبة مهمة من تاريخ العالم الاسلامي-وليس تأريخ ايران فحسب- أكثر منها استحضارًا واستذكارًا لمسيرة شخصية، حتى وان بدت كذلك لمن يطالعها. وتلك الحقبة التاريخية المهمة، تتمثل بالثورة الاسلامية الايرانية بزعامة الامام الراحل اية الله العظمى روح الله الموسوي الخميني(قده)، التي تصادف هذه الأيام حلول الذكرى السنوية الثالثة والأربعين لانتصارها المدوّي.
وهناك أكثر من نقطة لافتة للانتباه في مذكرات الإمام الخامنئي، ومنها:
- صدورها باللغة العربية تحديدًا، واهداؤها الى الشباب العربي، كما ورد في المقدمة التي خطها صاحب المذكرات بيده، بالقول: "اني أحب أن أهدي الكتاب الى شباب العرب الذين يعيشون في نفس سن صاحب المذكرات حينما كانت تمر عليه تلك الأحداث..".
"ان مع الصبر نصرا".. الثورة في مذكرات القائد
ولا شك أن مذكرات شخصية مهمة ومحورية، كان لها دور فاعل ومؤثر في صنع الوقائع والأحداث وتوجيه مساراتها على امتداد ستة عقود من الزمن أو أكثر، يمكن أن تساهم في تصحيح الصورة النمطية السلبية عن ايران الثورة والدولة ورجالاتها، وحقيقة مواقفها وسياساتها، لدى أعداد لا يستهان بها من الناس في العالم العربي، تلك الصورة التي ساهمت الماكينات الاعلامية الغربية والعربية، وأجهزة المخابرات ومراكز التفكير والتثقيف على مدى أكثر من أربعين عامًا بايجادها وترسيخها في العقول والأذهان.
ويسلط الإمام الخامنئي(قده) الضوء على حجم وطبيعة الأساليب القمعية الدموية لنظام الشاه الاستبدادي، في ادارة الدولة، والتعامل مع المعارضين لنظام حكمه، لا سيما رجال الدين من اساتذة وطلبة الحوزات العلمية وغيرهم من فئات وشرائح المجتمع الداعية والساعية الى التغيير والاصلاح، وبالتالي فإن صاحب المذكرات، يوضح مدى التضحيات الجسام التي قدمت خلال فترة زمنية طويلة حتى تحقق الانتصار التاريخي الكبير، الذي فرض نوعًا آخر من التهديدات والمخاطر والتحديات.
- النقطة الاخرى، ترتبط بعنوان المذكرات، ودلالات المفردات المستخدمة فيه، ألا وهي الصبر والنصر، وكذلك البصيرة، باعتبارها مفردات مستوحاة - شكلا ومضمونا - من القرآن الكريم. ففي كتاب الله الكريم، نجد في الكثير من المواضع تلازمًا بين الصبر والنصر والبصيرة.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
(وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْر، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر)
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).
ولعل مسيرة الآلام والمعاناة، الممزوجة بالقلق والخوف والحماس والشجاعة والاندفاع والنفي والتغرب والتهجير، والمقرونة ببصيرة ثاقبة صوب الهدف والمبدأ، سواء على الصعيد الشخصي بالنسبة لصاحب المذكرات، أو على الصعيد المجتمعي العام، أثمرت في نهاية المطاف نصرًا تاريخيًا كبيرًا مشرّفًا على كل مظاهر الظلم والطغيان والاستبداد، والانطلاق بمرحلة جديدة لم تكن منفصلة عن سابقتها، وبتحديات أخطر وأعظم، ارتبطت في جانب كبير منها بأهمية وضرورة الحفاظ على الانتصار والانجاز وعدم التفريط به، وهذا ما حصل، وأكثر منه، بناء دولة قوية ومقتدرة داخليًا وخارجيًا، وكان الإمام الخامنئي أحد أبرز المساهمين في وضع لبناتها وأسسها وركائزها، وترسيخ جذورها في عمق الأرض.
- النقطة الثالثة، ثمة حقيقة شاخصة، لا يمكن التغاضي عنها أو تجاهلها، الا وهي انه لولا طبيعة شخصية مفجر الثورة وقائدها الامام الراحل روح الله الخميني، وروحه الثورية وايمانه الراسخ ما كان للثورة ان تنطلق وتتواصل في ظل مصاعب ومعوقات جمة، ومن ثم تحقق الانتصار بإسقاط اقوى واقسى نظام سياسي حاكم في المنطقة حينذاك، ناهيك عن كونه كان مدعوما ومسنودا من قبل مختلف القوى الدولية الكبرى، باعتباره واحدا من اهم ادواتها، حتى انه كان يطلق عليه "شرطي المنطقة"!.
وفي مقدمة (ان مع الصبر نصرا)، هناك حيز غير قليل في الحديث عن محورية الامام الخميني(قده) في صنع ملحمة الثورة والدولة، وكذلك في مختلف فصول المذكرات، بالقول ".. اما قيادتها فهي التي لفتت أنظار العالم أكثر من غيرها، لأنها تمثلت في عالم دين اريد له أن يقصى عن الحياة، وفي خطاب أصيل كاد أن يختفي وسط ضجيج المادية وعمليات التشويه والتزوير، انه الامام الخميني رضوان الله عليه، وما صدر عنه من خطاب احيائي للامة الاسلامية ومن دعوة الى استعادة عزة الامة وكرامتها وهويتها وأصالتها.. لقد جمع هذا الرجل الكبير كل ما يحقق النصر لمشروع الثورة.. أصالة ومعاصرة، ودعوة الى العزة والى العدالة ونصرة المستضعفين ومقارعة المستكبرين، والاعتماد على الجماهير والثقة بها، ورفض كل عمليات الاذلال والاستضعاف والهيمنة الأجنبية، وكل ما يؤدي الى الهزيمة النفسية وتزلزل الثقة بالنفس... من هنا كان لانتصار هذه الثورة ولا يزال صدى عميق في نفوس الشعوب التواقة لحياة أفضل، فقد أيقظت جماهير أريد لها أن تغط في سبات عميق، وأحيت نفوسًا كاد يغلب عليها اليأس من عودة الاسلام الى الحياة".
إن مذكرات الإمام الخامنئي، هذه الوثيقة التاريخية المهمة، ربما لا تمثل إلا بعضًا يسيرًا من مسيرة حياة حافلة، ولا تعكس إلا بعضًا من جوانب صورة الثورة لمرحلتي ما قبل الانتصار وما بعده، ولا تتعدى كونها إضاءات على بعض من زوايا وجنبات مشهد واسع من حيث الزمان والمكان، قد لا تستوعبه عشرات الكتب والمجلدات.