عادل الجبوري ||
التظاهرات الأخيرة في مدينة السليمانية، وجزء منها في أربيل، نظمها المئات أو الآلاف من طلبة الجامعات والمعاهد.
إنها ليست المرة الأولى التي تشهد فيها بعض مدن إقليم كردستان في شمال العراق تظاهرات جماهيرية حاشدة، تتخلّلها أعمال عنف وسفك للدماء وإزهاق للأرواح؛ فخلال العقود الثلاثة المنصرمة، كان الشارع الكردي في محطات ومنعطفات عديدة، إما مسرحاً لصراعات سياسية وعسكرية داخلية بين الفرقاء والخصوم، وإما مسرحاً لجموعٍ من أبناء الشعب، تخرج رافضة ومعترضة على الواقع الذي تعيشه وترزح تحت وطأته، ومطالبة بالإصلاح والتغيير ووضع حد لمظاهر الفساد والاستئثار والتسلط الحزبي.
التظاهرات الأخيرة في مدينة السليمانية، وجزء منها في أربيل، نظمها المئات أو الآلاف من طلبة الجامعات والمعاهد، تنديداً بإيقاف صرف المخصصات الشهرية لهم، والتي تم إيقافها منذ العام 2014 وإلى الآن، تحت ذريعة التقشف المالي بسبب تراجع موارد الإقليم، جراء انخفاض أسعار النفط، والحرب على تنظيم "داعش"، وموجات النزوح إلى الإقليم من داخل العراق وخارجه، وجائحة كورونا، بيد أنّ التعمّق في خلفيات الأزمات والمشاكل السياسية والأمنية والاقتصادية وجذورها في إقليم كردستان وطبيعة تداخلاتها وتشابكاتها، تؤشر لأوّل وهلة إلى حقيقة أنَّ البعد السياسي في التظاهرات الطلابية الأخيرة كان حاضراً منذ البداية، وإن لم يكن كذلك، فإنه دخل على الخطّ بعد وقت قصير.
ولعلّ تداعيات الأيام الأولى للتظاهرات كانت مؤشراً على ذلك الأمر، وعكسته بوضوح كبير، فقد شهدت إقدام بعض المتظاهرين على إحراق مقار تابعة لجهات حزبية ومؤسسات حكومية مختلفة، وتصفيات لعناصر أمنية محسوبة على شخصيات وزعامات سياسية، مثل الرئيس المشترك السابق لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني لاهور شيخ جنكي، الَّذي تمّ إقصاؤه قبل شهور قلائل، واستفراد بافيل الطالباني، النجل الأكبر لزعيم الحزب الراحل جلال الطالباني، بمقاليد الأمور، ناهيك بالمعارك الإعلاميّة الكلاميّة عبر وسائل الإعلام المرئيّة ومنصّات التواصل الاجتماعي.
ومما لا يختلف عليه اثنان، هو أنَّ تظاهرات طلاب الجامعات في كردستان العراق، جاءت في سياق تراكم الأزمات الاقتصادية الخانقة، كسبب أو نتيجة؛ تلك الأزمات التي كان من أبرز مظاهرها وتجلياتها انقطاع رواتب الموظفين الحكوميين لأشهر طويلة خلال الأعوام الماضية، إلى جانب قيام حكومة الإقليم بتطبيق سياسة الادخار الإجباري، ناهيك باستقطاع نسب من رواتب الموظفين.
كلّ ذلك في إطار التدابير والإجراءات المتخذة للتغلب على الصعوبات الناجمة عن الظروف المشار إليها آنفاً، حتى باتت حكومة الإقليم مدينة بمبالغ طائلة للناس، كرواتب غير مدفوعة أو مبالغ مستقطعة من الرواتب، علماً أن المواطن الكردي العادي أصبح على قناعة تامة بأنَّه لن يحصل على شيء من مستحقاته من الحكومة، في الوقت الذي لا يحصل على راتبه الشهري في موعده المحدد.
ولا شكّ في أنَّ تراجع الأوضاع الاقتصادية الحياتية لطبقة الموظفين الحكوميين الذين قد يتجاوز عددهم مليون شخص من مجموع سكان الإقليم، البالغ أكثر من 6 ملايين نسمة، بحسب هيئة الإحصاء التابعة لوزارة التخطيط بحكومة الإقليم، انعكس سلباً على واقع الفئات والشرائح الاجتماعية الأخرى في قطاعات النشاط الخاص، كالأسواق والمطاعم والفنادق والنقل والسياحة، التي تعتمد في استمرارية عملها ونشاطها وتأمين مواردها على مقدار السيولة المالية التي يضخّها العاملون في القطاع الحكومي العام.
ومع الإقرار بتأثير الحرب في "داعش"، والانخفاض الحاد في أسعار النفط قبل عدة أعوام، وموجات النزوح إلى مدن الإقليم، وظهور جائحة كورونا، إلا أن الانطباع العام لدى معظم سكان الإقليم، يتمثّل بأن العامل الرئيسي للأزمات والمشاكل الاقتصادية التي يعانونها يتمثل باستئثار المنظومات الحزبية بجزء كبير من الموارد المالية، لتحقيق الثراء، وبناء المؤسسات السياسية والإعلامية والتجارية الخاصة، وانعدام الشفافية في عمليات الإنفاق، ناهيك بالصراعات المحتدمة في العلن والخفاء بين تلك المنظومات، وفي ما بين الأجنحة المتصارعة داخلها.
ويتعزز ذلك الانطباع من خلال التأكيد المستمر أن الطبقة السياسية والحزبية في الخط الأول، وكذلك الخط الثاني، لم تتأثر بالمشاكل والأزمات الاقتصادية، وإن تأثرت، فليس بالمقدار الذي لحق بالمواطن العادي.
وترى نخب سياسية وثقافية واجتماعية كردية أن موجات هروب أعداد كبيرة من الشباب والنساء والعوائل من إقليم كردستان نحو المجهول، وتعرضهم لشتى المخاطر، خير شاهد ودليل على عمق ما يعنيه الناس هناك وفداحته ووطأته، كما حصل مؤخراً على الحدود بين كل بولندا وليتوانيا من جهة، وبيلاروسيا من جهة أخرى، وكما حصل في غرق عشرات الأشخاص - وأغلبهم كرد - في بحر المانش، خلال رحلة هربهم من فرنسا إلى بريطانيا بحثاً عن اللجوء، علماً أن الحوادث المأساوية الأخيرة لم تكن الأولى، وأغلب الظن أنها لن تكون الأخيرة من نوعها.
البعد الآخر للتظاهرات الطلابية الأخيرة، وحتى التظاهرات السابقة لها في أواخر العام الماضي وما قبلها، يتمثل في واقع الأمر بالبعد السياسي الَّذي كان، وما زال، وسيبقى يلقي بظلاله الثقيلة على كل تفاصيل المشهد الكردي العام وزواياه.
وبعيداً عن الأزمات والمشاكل الاقتصادية - الحياتية التي تعدّ وجهاً من الوجوه المتعددة للأزمات والمشاكل السياسية، فإنه منذ تسعينيات القرن الماضي، وبعد فرض المنطقة الآمنة في شمال العراق فوق خط العرض 36، بترتيب أميركي بريطاني، في سياق الجهود والتحركات الدولية لمحاصرة نظام صدام وإضعافه، بعد غزوه دولة الكويت في صيف العام 1990 وهزيمته في ما بعد. منذ ذلك الحين، راحت الصراعات بين الأحزاب والقوى الكردية الرئيسية، ولا سيما الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الراحل جلال الطالباني، تربك الأوضاع الأمنية والاقتصادية إلى حد كبير، وتستنزف قدراً غير قليل من إمكانيات الإقليم وموارده.
وبعد إبرام اتفاقية واشنطن بين الطرفين في العام 1998، وإطاحة نظام صدام في العام 2003، وإن وضعت المواجهات والمعارك العسكرية أوزارها بينهما، إلا أن التنافس على مواقع السلطة والنفوذ أخذ أشكالاً ومظاهر أخرى، وأفضى إلى المزيد من التشظي والتفكك والانقسام واهتزاز الثقة، حتى بين قيادات الحزب الواحد وكوادره، لتظهر المزيد من العناوين والمسميات، وتتعدد الولاءات والاصطفافات الداخلية والخارجية، وخصوصاً مع غياب بعض القادة المخضرمين بفعل الموت أو ضعف التأثير وفقدانه، وكذلك الاندفاع والسعي المحموم لدى أبنائهم للاستحواذ على ميراث الآباء السياسي والمالي والاجتماعي.
وقد بدا ذلك أكثر وضوحاً لدى حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، إذ لاحت بوادره الأولى في حياة الطالباني، لتزداد نوعاً ما حين كان طريح الفراش لعدة أعوام، ومن ثم لتتفجر بعد رحيله في خريف العام 2017، على عكس الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي بقيت خلافات أجنحته الداخلية وصراعاتهم محصورة في نطاق محدّد، بحكم وجود زعيمه مسعود البارزاني ونجاحه في الإمساك بكلّ الخيوط، رغم تقدمه في السن واتساع نفوذ أبنائه وأبناء أشقائه، ولا سيّما نجله مسرور ونجل شقيقه وصهره نيجرفان البارزاني.
التظاهرات الطلابية الأخيرة كانت في جانب منها، إما بدفع من شخصيات أو أجنحة وقوى سياسية، وإما أن الأخيرة سارعت إلى الدخول فيها لاستغلالها في صراعاتها وتصفية حساباتها مع الخصوم. وهنا، من المهم الإشارة إلى أنَّ هذه التظاهرات جاءت بعد فترة قصيرة من إقصاء لاهور شيخي جنكي (46 عاماً)، وهو ابن شقيق جلال الطالباني، وكان يشغل في السابق منصب رئيس وكالة الأمن والمعلومات في الإقليم، قبل أن يصبح رئيساً مشتركاً مع بافيل الطالباني لحزب الاتحاد مطلع العام الماضي. وجاءت التّظاهرات أيضاً بعد بضعة أسابيع من محاولة اغتيال فاشلة تعرَّض لها القيادي المخضرم في الاتحاد ملا بختيار من خلال السمّ.
واللافت أنّ ضابطاً أمنياً كبيراً يُدعى العقيد مراد كاني كوردي يعدّ من المقربين جداً إلى شيخ جنكي، تم اغتياله في خضم أجواء التظاهرات الأخيرة، الأمر الذي دفع الأخير إلى التهديد بفتح أبواب جهنم على خصومه في قيادة الاتحاد، متهماً إياهم باستهداف العناصر المحسوبة عليه وتصفيتهم.
ولعلَّ ما ظهر على السطح حتى الآن يمثّل الجزء الصغير من جبل الخلافات والصراعات والمؤامرات الغاطس تحت السطح، وكما يقول الكاتب والصحافي الكردي جمال بيرة في وقت سابق: "فيما تتفاقم الأوضاع السياسية والاقتصادية في إقليم كردستان يوماً بعد آخر، وتسير الأوضاع فيه من سيئ إلى أسوأ، وتعصف بالإقليم أزمة مالية خانقة أدت إلى عدم قدرة حكومته على دفع رواتب الموظفين لأشهر، ومع تراكم المشاكل مع الحكومة الاتحادية في بغداد وبقائها من دون حل، وتدهورها بين فترة وأخرى، وبينما يتوغل الجيش التركي في الإقليم، وتتعمق الصراعات والمشاكل في المنطقة، وتتزايد احتمالات نشوب نزاعات مسلحة، يشتد الصراع بين الأحزاب الكردية النافذة؛ الصراع الذي شهد مؤخراً تغيراً في مساراته وأدواته، ما أثار قلق المواطنين، وخصوصاً بعد أن حوَّلت الأحزاب النافذة وسائل التواصل الاجتماعي إلى مساحات للفتنة والاستقطاب وساحات للتصفية السياسية ووسيلة للسبّ والشتم والقذف وأداة للتهديد بين أنصار الأحزاب المتصارعة".
قد تلجأ سلطات الإقليم إلى الانحناء أمام عاصفة التظاهرات الطلابية، من أجل الحفاظ على وجودها ونفوذها، من خلال الاستجابة لمطالب الطلاب بإعادة صرف مخصصاتهم الشهرية، وهو ما أعلنته الحكومة المحلية بشخص رئيسها مسرور البارزاني، بيد أنَّ الأزمة، كما يبدو، لن تنتهي عند هذا الحد، لأنها لم تعد مرتبطة بالمخصصات حصراً، وكذلك لأنَّ الثقة باتت مفقودة تقريباً بين الحكام والمحكومين في الإقليم، ناهيك بفقدانها بين الحكام وأصحاب السلطة والنفوذ أنفسهم... كل ذلك يعني أنَّ الأمور، وإن هدأت لبعض الوقت، ولكنه سيكون الهدوء الذي يسبق العاصفة، مثلما قال سياسي كردي مستقل، وما أكثر العواصف والزلازل والهزات في كردستان!
https://telegram.me/buratha