عادل الجبوري ||
في مسيرة حياة حافلة امتدت لأكثر من ثمانية عقود من الزمن، من اليسير جدًا أن يتلمس ويكتشف الباحث والمتابع والمراقب، أبعادًا وجوانب متعددة في شخصية المرجع الراحل آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم (1936-2021)، مع خصوصية وتميز في ظل الكثير من الظروف الصعبة والتحديات الكبيرة، والمحطات الحرجة.
منذ فترة مبكرة من حياته، برز نبوغ المرجع الحكيم في العلوم الدينية، وبشهادة كبار أساتذته، وأبرزهم والده آية الله السيد محمد علي الحكيم، وزعيم الطائفة الإمام السيد محسن الحكيم، والعلامة الشيخ حسين الحلي، وآية الله العظمى السيد ابو القاسم الخوئي. ولعل المؤلفات العديدة له، والتي شغلت حيزًا مهمًا في المكتبة الإسلامية، وفي أوساط الحوزات العلمية، مثلت مؤشرًا ومعيارًا واضحًا على نبوغه وتميزه وتألقه الفكري، ومن بين تلك المؤلفات، المحكم في أصول الفقه (ستة مجلدات)، ومصباح المنهاج، والكافي في أصول الفقه، وحاشية موسعة على رسائل الشيخ الأنصاري، وحاشية موسعة على كفاية الأصول، وحاشية موسعة على المكاسب، وفاجعة الطف، وخاتم النبيين، فضلًا عن عشرات البحوث والرسائل والتقريرات التي تناولت قضايا فكرية ودينية وسياسية واجتماعية مختلفة.
الى جانب ذلك، فإن أعدادًا كبيرة جدًا من طلبة الحوزة العلمية تتلمذوا على يد المرجع الراحل، وقسم لا يستهان به منهم بلغوا مراحل متقدمة، وأصبحوا أساتذة للبحث الخارج يشار اليهم بالبنان في الحوزة العلمية، ومن بينهم أربعة من أنجاله، وهم كل من السيد رياض الحكيم، والسيد محمد حسين الحكيم، والسيد عز الدين الحكيم، والسيد علاء الحكيم، فضلًا عن عدد آخر من أبناء أسرة آل الحكيم ومن خارجها.
ولم يسلم المرجع الراحل من بطش ودموية وإجرام نظام صدام، فقد زج به الأخير في عام 1983 مع العشرات من أقربائه في غياهب السجون، اذ بقي فيها حوالي تسعة أعوام، وبدلًا من أن يركن ويضعف ويتنازل، رغم الكثير من الترهيب والتعذيب والترغيب، فإنه كان أنموذجًا يحتذى به في الصبر والتحدي والإباء والثبات على الموقف الحق ومواجهة الظلم، حتى أنه حول ذلك السجن بظروفه الشاقة وضغوطاته النفسية والمعنوية والتعذيب الجسدي الى مدرسة لكل ما هو نافع ومفيد، ومن كانوا معه من السجناء، ينقلون صورًا مشرقة ومشرفة للمرجع السيد محمد سعيد الحكيم، فرغم كل تلك الظروف إلا أنه حرص على احياء الشعائر الحسينية بالقدر الممكن، وكذلك تدريس العلوم الدينية، فضلًا عن التثقيف السياسي بحقيقة مجريات الأمور.
وبعد خروجه من السجن في عام 1991، كان بإمكانه مغادرة العراق والخلاص من سطوة النظام الحاكم، إلا أنه آثر البقاء، معتبرًا أن مسؤوليته الشرعية والأخلاقية والوطنية تحتم عليه أن يكون مع العراقيين في محنتهم، وبالفعل فقد كان لوجوده أثر كبير في الحفاظ على الحوزة العلمية وبناء جيل واع ومسؤول وقادر على حمل الأمانة. وفيما بعد، فإن سقوط نظام صدام، في ربيع عام 2003، فتح آفاقًا رحبة من الحرية -رغم مظاهر الفوضى والاضطراب التي أوجدها الاحتلال الاميركي- حرص المرجع الحكيم على استثمارها على أفضل وجه، الى جانب التصدي للقضايا الكبرى، في إطار مؤسسة المرجعية الدينية، من خلال المراجع العظام في النجف الأشرف، اذ ان المرجع الديني الكبير اية الله العظمى السيد علي السيستاني، كان يعده سندًا قويًا له، وهو الذي أطلق عليه وصف (فقيه أهل البيت عليهم السلام) بعد وفاته، علمًا أن المرجع الراحل كان -بحسب المقربين منه- بحكم تواضعه وبساطته الشديدة، لا يحبذ الالقاب والتسميات المميزة، من قبيل (آية الله العظمى)، وكان يكتفي بكتابة اسمه فقط على مؤلفاته دون أي لقب أو مسمى آخر، وكان يعتبر التصدي لمواقع المسؤولية العامة تكليفًا وخدمة، ويشدد على أن من يريد التصدي يفترض أن يكون هدفه ومنطلقه الأساس تقديم الخدمة، لا الاستئثار بالمكاسب والامتيازات الخاصة من خلال المنصب.
ومن زاوية أخرى، فإن المرجع الحكيم، أولى الجانب أو البعد الاجتماعي الانساني حيزًا كبيرًا من اهتماماته، لذا بادر منذ وقت مبكر بعد زوال نظام صدام، وتحديدًا في عام 2007 الى انشاء مؤسسة اليتيم الخيرية، التي تعنى بالايتام والارامل، بمختلف مدن ومحافظات العراق. وتشير الاحصائيات الأخيرة الى أن هذه المؤسسة، رعت حتى الآن حوالي مائة وأحد عشر الف يتيم، وأربعة وأربعين ألف أرملة، عبر تخصيص رواتب وإعانات شهرية، وتأمين العلاج والرعاية الصحية، والجوانب التعليمية.
مضافًا الى ذلك، فإنه كان شديد الحرص على تنمية وتعزيز وترسيخ الروح والثقافة الحسينية في نفوس الناس، فهو كان رغم كبر سنه وظروفه الصحية الصعبة، يصر على مشاركة ملايين الزوار في مسيرة الاربعين، وعلى اقامة مجالس العزاء، بالشكل الذي يساهم في ابقاء الثورة الحسينية حية ومتجددة في نفوس وقلوب المؤمنين، بل وفي نفوس وقلوب البشرية جمعاء.
https://telegram.me/buratha