عادل الجبوري||
كبار الساسة والمسؤولين في اقليم كردستان العراق وليس المواطنين العاديين، يؤكدون ان الاقليم يعيش اوضاعا صعبة وحرجة للغاية بشكل غير مسبوق، ويدعون مواطنيهم الى المزيد من الصبر والتحمل دون طرح اي حلول ومعالجات ملموسة يمكن ان تساهم في احتواء وتطويق ولو جزء صغير من المشاكل والازمات الاقتصادية والسياسية والمجتمعية القائمة، والتي هي في واقع الامر نتاج تراكمات اعوام طويلة، ممتدة من مرحلة ما قبل سقوط نظام صدام وحتى الان، مع ارتفاع متواصل لخطها البياني، رافقته فترات قصيرة وقليلة متفرقة من الهدوء النسبي.
تنقسم مشاكل وازمات الاقليم الى شقين، احدهما يعد جزءا من عموم مشاكل وازمات العراق، والشق الثاني، ينحصر في حدود الاقليم، وان كان هناك تشابكا في بعض ملفاته مع الحكومة الاتحادية في بغداد، وتفاعلات الفضاء الاقليمي.
وفيما يتعلق بالشق الاول، فأن الانخفاض الحاد بأسعار النفط، وظهور جائحة كورونا وما ترتب عليها من توقف الجزء الاكبر من الانشطة السياحية والتجارية والاقتصادية والثقافية، القى بظلاله الثقيلة على الاقليم، وعمق ازماته، بحيث باتت الحكومة المحلية عاجزة عن تأمين رواتب الموظفين، الذين يقدر عددهم بأكثر من مليون موظف ومتقاعد، ومنذ بداية العام الجاري، قامت حكومة الاقليم بدفع راتب شهر واحد مع استقطاعات بنسب مختلفة بحسب مقدار الراتب، وبدلا من ان تطلق وعودا وتعهدات بدفع الرواتب المتأخرة، كما هو الحال في الاعوام القلائل الماضية، فأنها اطلقت اشارات محبطة مفادها، انها لا تتعهد بأي شيء يتعلق بأستحقاقات الموظفين السابقة.
وطبيعي ان عدم توفر السيولة المالية لدى اعداد لايستهان بها من الموظفين والمتقاعدين، يعني بصورة او بأخرى شل مجمل الحركة التجارية، وانحسار فرص اصحاب المهن الحرة والدخل اليومي المحدود، اذ انه الى جانب الخلافات الحادة بين حكومة الاقليم والمركز، فأن عوائد تصدير النفط من الاقليم من قبل الحكومة المحلية، تراجعت بشكل كبير، مضافا الى ذلك تسببت جائحة كورونا بتوقف شبه كامل للنشاط التجاري والحركة السياحية بين الاقليم من جهة والدول المجاورة ومحافظات البلاد الاخرى من جهة ثانية.
قبل بضعة ايام، اكد رئيس حكومة الاقليم مسرور البارزاني خلال استقباله لوزير الداخلية في الحكومة الاتحادية عثمان الغانمي، "استعداد الاكراد للتوصل الى حل جذري للمشاكل العالقة والقضايا الخلافية مع بغداد"، وبصرف النظر عن جدية مثل ذلك الموقف او عدم جديته، فأنه لاتوجد مؤشرات حقيقية في الافق على ان الامور تسير بأتجاه الحلحلة والحل بين بغداد واربيل، لا بسبب عدم توفر الارادات لذلك، بل ان الظروف معقدة وحرجة للغاية، وبالتالي لاتتيح بلورة الحلول المناسبة في ظل عجز او عدم استعداد كل طرف القبول بسقف مطاليب واشتراطات الطرف الاخر.
فبغداد تريد من اربيل، تسليم كل عائدات مبيعات النفط من الاقليم، وكذلك تسليم عائدات المنافذ الحدودية والجمارك، بل واكثر من ذلك راحت الدعوات والضغوطات على رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي تتصاعد بقوة، لاجل احكام السيطرة على المنافذ المنافذ الحدودية الرسمية الواقعة ضن حدود الاقليم مع الدول الاخرى، فضلا عن المطالبة بأغلاق المنافذ غير الرسمية، وهذا ما ترفضه حكومة الاقليم، او انها في حال اعربت عن موافقتها وقبولها به تربطه بمطاليب اخرى قد تبدو تعجيزية بنظر الكثيرين، من قبيل التزام بغداد بتسديد الديون المترتبة على الاقليم لشركات النفط الاجنبية وغيرها، اضافة الى دفع الرواتب المتأخرة لموظفي الاقليم عن الاعوام السابقة، وهي مبالغ تقدر بأكثر من عشرين مليار دولار، بل ان بعض التقارير الاحصائية الصادرة من جهات رسمية في حكومة الاقليم تقدرها بحوالي ثمانين مليار دولار!.
واذا افترضنا جدلا ان هناك رغبة واستعداد لدى الحكومة الاتحادية للتجاوب والاستجابة للمطالب الكردية، فأن ذلك سوف يكون ممكنا في الظروف العادية، لا في ظل الظروف الاستثنائية الراهنة التي تواجه الحكومة بسببها تحديات ومصاعب كبرى في تأمين الحد الادنى من الموارد المالية لتسيير الامور، علما انها اتجهت مؤخرا الى الاقتراض الداخلي والخارجي لتأمين رواتب اكثر من اربعة ملايين موظف ومتقاعد ومعهم المشمولين بشبكة الحماية الاجتماعية.
ورغم ان كبار الشخصيات السياسية المسؤولة في الاقليم تؤكد الرغبة الجادة بالتوصل الى حلول جذرية للمشاكل والقضايا الخلافية مع بغداد، الا ان مجمل التوجهات والمواقف والخطوات العملية تؤشر الى خلاف ذلك تماما، وملف المنافذ الحدودية يعد اوضح مثال ومصداق، فقد استبقت الاوساط الكردية في حكومة الاقليم وفي الحزب الديمقراطي الكردستاني اية خطوة من حكومة الكاظمي، مثل تلك التي اتخذها بشأن بعض المنافذ الحدودية مؤخرا، لتصرح بأن "حكومة الاقليم ترفض رفضا قاطعا تسليم اي منفذ حدودي في الاقليم الى الجيش او الشرطة الاتحادية، بأعتبار ان تلك المنافذ ممسوكة من قبل حكومة اقليم كردستان وليست الميلشيات"، وهذا ما يشير اليه ويؤكده القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني عماد باجلان.
ومايمكن ان يؤشر الى عمق الهوة بين بغداد واربيل، هو انه رغم الوفود الكثيرة التي جاءت وذهبت خلال الشهور القلائل الماضية، ورغم الساعات الطويلة من الحوارات والنقاشات، الا ان كل ذلك كان ومايزال اشبه بعملية الدوران في حلقة مفرغة لاجدوى منها.
وفيما يتعلق بالشق الثاني من مشاكل وازمات الاقليم، المحصورة في نطاق حدوده الجغرافية ووضعه السياسي، فأن هناك رؤية تتبناها شخصيات وقوى سياسية ونخب ثقافية كردية، مفادها ان العقدة الحقيقة بالنسبة للاكراد لاتكمن اساسا في خلافاتهم مع الحكومة الاتحادية، وانما تتمثل بخلافاتهم الداخلية، وسوء الادارة والتخطيط، والفساد المستشري بمختلف المفاصل، وتقاطع الاجندات والارتباطات والولاءات الخارجية، وهذه كلها نتاج تراكمات طويلة ممتدة لعدة عقود من الزمن، ومع تفاقم الازمات والضغوطات الاقتصادية والحياتية، تطفو الخلافات السياسية بصورة اكبر بين الفرقاء، ولعل هذا ما هو حاصل حاليا.
وفي ذلك يشير الكاتب والصحفي الكردي جمال بيره في مقال له تحت عنوان (إقليم كردستان.. بين الصراع والإفلاس السياسي)، الى انه "فيما تتفاقم الأوضاع السياسية والاقتصادية في اقليم كردستان يوماً بعد آخر، وتسير الأوضاع فيه من سيء إلى أسوأ، وتعصف بالإقليم أزمة مالية خانقة، أدت الى عدم قدرة حكومته على دفع رواتب الموظفين لأشهر، ومع تراكم المشاكل مع الحكومة الاتحادية في بغداد وبقائها دون حل، بل وتدهورها بين فترة واخرى، وبينما يتوغل الجيش التركي في الإقليم وتتعمق الصراعات والمشاكل في المنطقة وتتزايد احتمالات نشوب نزاعات مسلحة، يشتد الصراع بين الأحزاب الكردية المتنفذة، ذلك الصراع الذي شهد مؤخرا تغيرا في مساراته وأدواته، ما أثار قلق المواطنين، خاصة بعد أن حولت الأحزاب المتنفذة وسائل التواصل الاجتماعي إلى مساحات للفتنة والاستقطاب وساحات للتصفية السياسية ووسيلة للسب والشتم والقذف وأداة للتهديد بين أنصار الأحزاب المتصارعة".
ان الخلافات والصراعات الحزبية الكردية الداخلية، هي في الواقع قديمة-جديدة، ومع مرور الزمن، وفي ظل رحيل او انحسار دور وتأثير زعامات سياسية كبيرة مثل الامين العام السابق للاتحاد الوطني الكردستاني الراحل جلال الطالباني، والامين العام السابق لحركة التغيير الراحل نوشيروان مصطفى، ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني، فأن مظاهر وملامح ومؤشرات التفكك والانقسام والتشضي والخلاف راحت تدب حتى في داخل الكيان الحزبي الواحد، وبعضها اتسع وتوسع ولم يعد خافيا على احد، فيما بعضها الاخر مازال كالنار تحت الرماد.
ومع استمرار التداعيات الخطيرة وغياب افق الحلول العملية الواقعية، وتقاطع المواقف والتوجهات حول اليات التعاطي مع الحكومة الاتحادية، وتوزيع الموارد المالية وادارتها، والاجتياحات والاعتداءات التركية المتواصلة، اخذت الاصوات الشعبية في الشارع الكردي تتعالى اكثر من اي وقت مضى، مطالبة بأن تتولى الحكومة الاتحادية توزيع رواتب موظفي الاقليم مباشرة بعد التدقيق واستبعاد الاسماء الوهمية وما يسمى بالفضائيين، في حين ارتفعت اصوات اخرى تدعو الى انشاء ادارة كردية مستقلة في محافظة السليمانية وتوابعها، وبالتالي تكون هناك ادارتين للاقليم كما كان عليه الحال في تسعينيات القرن الماضي.
وتعكس طبيعة اللقاء الذي جرى مؤخرا بين رئيس حكومة الاقليم مسرور البارزاني والرئيس المشترك لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بافل الطالباني، وما ترشح عن ذلك اللقاء من كلام، عمق وتعقيدات الازمة الكردية ودور الحزبين الرئيسيين فيها.
وبينما نقلت وسائل الاعلام عن الطالباني قوله "إن الخلافات بين الجهات السياسية يجب أن لا تنعكس على عمل المؤسسات الحكومية، ويتعين على الأطراف جميعاً أن تكون عاملاً مساعداً وأن تتعاون فيما بينها بصدر رحب، وأن تحل خلافاتها عبر الحوار"، اكد البارزاني-بحسب بيان لحكومة الاقليم-، "أن مواطني الإقليم، وعلى الرغم من تحملهم للصعاب، قلقون من التوترات الداخلية وينتظرون من الأطراف كافة ظروفا سياسية ملائمة، وإن حكومة الإقليم هي حكومة إقليم كردستان قاطبة، ولا بد للأطراف المؤتلفة في التشكيلة الوزارية التاسعة أن تدعم برنامج عمل الحكومة، لكونه برنامجاً مشتركاً لجميع المشاركين في تشكيلتها".
ومثل هذه التصريحات، لاسيما وانها صادرة عن شخصيات نافذة ومؤثرة، تعكس المستوى الخطير للازمات من جانب، وتعمق القلق في الشارع الكردي من جانب اخر.. بعبارة اخرى، ان تلك التصريحات تختصر وتختزل حقيقة الازمة الشاملة بمختلف ابعادها ومستوياتها، والافاق القاتمة لحلها او حتى حلحلتها.
ــــــــ
https://telegram.me/buratha