عادل الجبوري
لم تكن الجريمة المروعة التي ارتكبها "برينتون تارانت"، واودت بحياة مايقارب الخمسين مواطنا مسلما، كانوا يؤدون الصلاة في احد مساجد نيوزلندا، الاولى من نوعها، فهناك على مر التأريخ الحديث والمعاصر سلسلة طويلة من الاعتداءات والاستهدافات المختلفة للمسلمين ومقدساتهم ورموزهم من قبل جماعات وتنظيمات وشخصيات متطرفة ومتشددة.
وقد يكون من المفيد الاشارة سريعا وبصورة مقتضبة الى نتف وعينات من تلك الاعتداءات والاستهدافات، حتى لايتصور البعض خطأ ان ما حصل في مدينة "كرايست تشيرش" النيوزلندية ظهر الجمعة الماضي، يعد حدثا غير مسبوق.
ففي الثاني والعشرين من شهر تموز-يوليو من عام 2011، اقدم متطرف نرويجي يدعى "أندرس بيرينغ بريفيك"، على تنفيذ مجزرتين، قتل في الأولى، سبعة أشخاص وأصاب تسعة آخرون من خلال تفجير استهدف مبنى حكوميا في أوسلو، ثم توجه بسيارته إلى معسكر شبابي لحزب العمال الحاكم في جزيرة أوتويا شمال غرب أوسلو، على بعد اربعين كيلومترا من موقع الهجوم الأول، ليفتح النار من سلاح رشاش ويقتل سبعين شابا، لانهم كانوا يؤيديون الفلسطينيين ويعادون الصهاينة.
وفي الثاني عشر من شهر اذار-مارس من عام 2012، تعرض مسجد في منطقة انرلخت العاصمة البلجيكية بروكسل لهجوم بعبوات المولوتوف، ما أدى لاشتعال النيران والحاق دمار كبير في المسجد، ومقتل إمامه، واصابة عدد من المصلين.
وفي السادس عشر من اذار-مارس من عام 2017، تعرض المركز الإسلامي في مدينة توكسون بولاية أريزونا الأميركية لعملية تخريب، حينما اقتحم متطرفون المسجد وقاموا بتمزيق المصاحف ورميها على الأرض.
وفي التاسع والعشرين من شهر كانون الثاني-يناير من نفس العام، تسبب اطلاق نار نفذه يهودي متطرف على المركز الثقافي الاسلامي بمقاطعة كيبك الكندية بمقتل وجرح عشرات المصلين.
ولعل القائمة تطول اذا اردنا احصاء كل -او اغلب-عمليات الاستهدافات العنصرية من قبل المتطرفين للمساجد والمراكز الاسلامية في مختلف الدول الغربية، خلال العشرة اعوام الماضية، الى جانب الاساءات المتكررة ضد الرسول الاكرم محمد صلى الله عليه واله وسلم في عدد من وسائل الاعلام، وحملات حرق وتمزيق المصاحف، وحملات التصفية والابادة الشاملة بحق بعض الطوائف الاسلامية، كما حصل في يوغسلافيا السابقة وفي بورما وغيرهما، ناهيك عن عموم الخطاب التحريضي الممنهج ضد الاسلام والمسلمين عبر المنابر السياسية والدينية والفكرية والاكاديمية والاعلامية المختلفة، هذا في الوقت الذي تذهب بعض وسائل الاعلام الاجنبية، مثل صحيفة واشنطن بوست الاميركية الواسعة الانتشار الى ان خطاب الكراهية الذي تبناه الرئيس الاميركي دونالد ترامب، يعد السبب غير المباشر للجريمة البشعة التي وقعت في نيوزلندا مؤخرا.
وسواء تعاملنا مع تلك الاستهدافات والاعتداءات بأعتبارها افعال، او ردود افعال على ما يطلق عليه بـ"التطرف الاسلامي"، فأنها في كل الاحوال تنطوي على نزعات خطيرة للغاية من شأنها ان تأتي على الكثير من مظاهر الاستقرار والتعايش التي عرفت بها المجتمعات الغربية خلال العقود القلائل الماضية.
هذا من جانب، ومن جانب اخر، من الصعب بمكان، تبسيط الامور الى حد كبير، والنظر الى الجريمة الاخيرة، وعشرات-ان لم يكن مئات-الجرائم المماثلة والشبيهة لها، وكأنها ممارسات وسلوكيات فردية، لاشخاص غالبا، مايتم ربط ما يرتكبونه من جرائم بحق المسلمين بمشاكل واضطرابات نفسية يعانون منها، بينما واقع الحال يؤكد ان عمليات الشحن والتحريض والتعبئة الفكرية والثقافية ضد الاسلام والمسلمين في الكثير من المحافل والاوساط الغربية، تلعب الدور الاكبر في تهيئة الاجواء والارضيات والمناخات لبروز واستفحال مثل تلك النزعات الاجرامية، ناهيك عن غياب العقوبات الرادعة بحق المجرمين، فهذا الذي قتل حوالي خمسين شخصا، لن يكون مصيره الاعدام، لان نيوزيلندا الغت الاخير منذ خمسة عقود، اذ ان اخر عملية اعدام نفذت بحق سجين استرالي في عام 1967 بتهمة قتل حارس خلال محاولة هروب.
وليست نيوزلندا وحدها التي الغت عقوبة الاعدام، وانما هناك العديد من الدول الاوربية وغير الاوربية الغربية، سبقتها او تبعتها بذلك الاجراء، وهو ما جعل عتاة المجرمين والارهابيين في مأمن من العقوبات والاحكام القاسية التي تتناسب مع حجم وطبيعة جرائمهم، في ذات الوقت الذي كانوا ومازالوا يجدون من يشجعهم ويدفعهم ويحفزهم بصورة مباشرة او غير مباشرة.
ومن يفتش ويدقق ويتحرى في خلفيات ودوافع وتفاصيل جرائم استهداف المسلمين في الدول الغربية، سيجد البصمات الصهيونية-اليهودية واضحة، مثلما هي موجودة في الكثير من الجرائم البشعة التي ترتكبها مجموعات وتنظيمات ارهابية مسلحة تحت غطاء الاسلام، بحق المسلمين وغير المسلمين، كما هو الحال بالنسبة لتنظيم القاعدة وتنظيم داعش، وما ينظوي تحت هذين المسمين من عناوين ومسميات تتفق وتلتقي في استراتيجياتها وممارساتها واساليبها، وان اختلفت في بعض الاحيان ببعض التفاصيل والجزئيات.
في واقع الامر، لايختلف "برينتون تارانت"، كثيرا في تفكيره وسلوكه الاجرامي ونزعته الدموية، وهو يقتل العشرات بدم بارد، عن هؤلاء الذين يقتلون الناس بواسطة الاحزمة الناسفة والسيارات المفخخة في بلدان ومدن المسلمين، وهم يحملون عقائد وتصورات منحرفة، ليس اقلها، "انهم يريدون تناول الغداء او العشاء مع رسول الله(ص)"!، او حتى حينما يقتلون الابرياء من ديانات وعقائد اخرى في الغرب.
من يضمن الا تبادر جماعات ارهابية الى استهداف وقتل اناس مسيحيين او يهود، بحجة الثأر والانتقام للضحايا المسلمين في نيوزلندا؟.. ومن يضمن الا يفضي ذلك الى توسيع دائرة العنف والارهاب الدموي؟.. من يضمن ذلك، والصور والشواهد والمشاهد الماثلة امامنا كثيرة وكبيرة ومفجعة.
لن تختلف النتائج والاثار والتبعات الكارثية المأساوية كثيرا، عند استهداف وقتل المسلمين وهو يؤدون طقوسهم العبادية في مساجدهم وحسينياتهم، عن استهداف وقتل المسيحيين او سواهم من ابناء الديانات الاخرى وهم يفعلون نفس الشيء في اديرتهم وكنائسهم ومعابدهم.
وربما يكفينا لادراك حقيقة ابعاد ودوافع جريمة مسجد النور، معرفة ان مرتكبها-كما يرى الكثيرون-لم يكن شخصا جاهلا غير مثقفٍ، بل هو واع ومدرك ومطلع، كان يقرأ ويحفظ ويستذكر ويراجع ويربط الأحداث ببعضها، إذ أنه عندما عزم على ارتكاب جريمته جهز رسالةً طويلة، ضمنها اعترافه بعمليته ومسؤوليته عنها، وفيها استرشد بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، وأشاد بسياسته، كما ذكَّرَ بأمجاد أمته الأوروبية وانتصاراتها على تركيا التي كانت عاصمة دولة الخلافة الإسلامية، وسجل على البنادق الآلية التي استخدمها، وعلى مخازن الطلقات بعض العبارات التي تدعو للانتقام من المسلمين، على خلفية معارك وانتصارات أوروبية قديمة على دولة الخلافة العثمانية!.