عادل الجبوري
مرت العلاقات العراقية التركية خلال الاعوام السبعة المنصرمة، بمراحل شد وجذب، مد وجزر، تهدئة وتأزيم، وتداخلت فيها معظم الاحيان الملفات الداخلية مع الملفات الخارجية، واثرت عليها الاصطفافات والتحالفات الاقليمية، والمشاكل والازمات الناتجة عنها او المسببة لها.
وفي وقت من الاوقات، وتحديدا في عام 2012، تصرفت انقرة وكأنها لاعبا سياسيا عراقيا، معني بالدرجة الاساس بكل التجاذبات السياسية المحكومة بحسابات واجندات طائفية مذهبية، وتصرفت بغداد-في سياق ردود الافعال-بقدر غير قليل من الانفعال والتشنج، في وقت كانت المغذيات الداخلية والخارجية تفعل فعلها في تصعيد وتأزيم المواقف بين الطرفين، وكأن هناك رغبة جامحة لاشعال فتيل حرب اخرى في منطقة لم تغادرها الحروب والصراعات الدموية العبثية في اي وقت من الاوقات.
ولان التصعيد الحاد، في عام 2012 والاعوام القلائل التي تبعته، انعكس بصورة سلبية الى حد كبير على تركيا، فأنها في وقت لاحق، راحت تنتهج سياسة الاحتواء بدلا من التصعيد، لاسيما وان خارطة التحالفات والاصطفافات الاقليمية قد تبدلت، ناهيك عن تجلي بعضا من حقائق الواقع، من قبيل عدم سقوط النظام السوري كما كان متوقعا ومأمولا، وفشل الاجندات الاميركية-السعودية في المنطقة، ونجاح ايران في مواجهة ضغوط واشنطن وحلفائها، والحاق الهزيمة بتنظيم داعش في العراق.
ولعل العامين الماضيين، شهدا اشارات وخطوات ايجابية ملموسة من بغداد وانقرة على السواء، رغم عدم التوصل الى حلول جذرية ونهائية للقضايا الخلافية بين الطرفين، نظرا لحجم التعقيد والتشابك الكبيرين في تلك القضايا.
ويفترض ان تكون القضايا العالقة والملفات الخلافية، على طاولة مباحثات الرئيس العراقي برهم صالح، الذي بدأ يوم الخميس، الثالث من شهر كانون الثاني-يناير الجاري، زيارة رسمية الى تركيا، مع نظيره التركي رجب طيب اردوغان، وهذا ما اكده المكتب الاعلامي لصالح، واكدته الرئاسة التركية في بيانات رسمية صدرت عشية موعد الزيارة.
تتمثل القضايا العالقة والملفات الخلافية بين بغداد وانقرة بالتالي:
-تواجد حزب العمال الكردستاني(PKK) على الاراضي العراقية، وبالتحديد في منطقة جبال قنديل الوعرة، ومن ثم في قضاء سنجار شمال غرب محافظة نينوى.
-الوجود العسكري التركي في قضاء بعشيقة، الى جانب الحملات المتتابعة لسلاح الجو التركي في عمق الاراضي العراقي لضرب قواعد ومقرات الـ(PKK)، وكان اخرها قبل زيارة صالح لانقرة بأيام قلائل.
-ملف المياه، واليات توزيعها بطريقة لاتحلق الضرر والاذى بأي طرف.
وهناك قضايا وملفات اخرى، تهم الطرفين، من قبيل الملف السوري وتطورات الاوضاع في هذا البلد، لاسيما بعد قرار واشنطن سحب قواتها من هناك، وكذلك ملف العقوبات الاقتصادية ضد ايران، فضلا عن امكانية تعزيز العلاقات الاقتصادية بين الجانبين.
وبصرف النظر عن اية مباحثات ونقاشات بين بغداد وانقرة، وايا كان مستواها، فأن هناك حقائق وامور، لايمكن بأي حال من الاحوال التغاضي عنها او تجاهلها، من بينها، ان العراق مثلما لايستطيع من الناحية الواقعية والعملية ان ينهي تواجد حزب العمال لكردستاني التركي المعارض على اراضيه، فأنه في ذات الوقت لايمكنه ارغام تركيا على سحب قواتها وانهاء تواجدها العسكري، ومن بين تلك الحقائق، هي ان هناك جوانب فنية بحتة في بعض الملفات الخلافية بين الجانبين، مثل ملف المياه، بيد انها في اغلب الاحيان تخضع للاجندات والحسابات السياسية مما يجعل امر حلها ومعالجتها صعبا وقلقا وغير نهائي، والحقيقة الاخرى، هي ان الضخ الاعلامي السلبي، يبدو هو المهيمن والموجه لمسارات الحراك السياسي بين بغداد وانقرة، مثلما هو قد يكون مهيمنا وموجها لمسارات العلاقات بين غيرهما.
مع ذلك، فأن الاجواء والمناخات السياسية في هذه المرحلة تبدو مهيئة اكثر من اي وقت مضى لحوار مثمر ومجدي يبحث عنه العراق وكذلك تركيا.
فالعراق، رغم عدم استقرار الاوضاع السياسية بالمستوى المطلوب، بعد القضاء على تنظيم داعش الارهابي، واستمرار الاحتقانات والتشنجات بين الفرقاء، الا ان هناك مساحات وافاق جيدة ومشجعة للتواصل مع المحيط الاقليمي والفضاء الدولي، تعززها توجهات ملحة وجادة لتحقيق ازدهار اقتصادي، ومعالجة الاشكاليات التي تقف امام هذا السبيل.
في مقابل ذلك، فأن تركيا، التي دخلت في اوقات سابقة بمواجهات ومعارك سياسية واعلامية محتدمة مع ايران وروسيا والعراق وسوريا ودول اخرى، ناهيك عن المشاكل والتحديات الداخلية، التي بلغت ذروتها بمحاولة الانقلاب العسكري في الخامس عشر شهر تموز-يوليو 2016، والذي كاد ان يطيح بحكم اردوغان، وجدت نفسها-اي تركيا-انها قد خسرت كثيرا، لذلك راحت تعيد ترتيب اورقها، وتراجع تحالفاتها، وتصحح نهجها، وهذا ما يتبدى واضحا اليوم في علاقاتها مع كل من طهران وموسكو وبغداد، وهو ما يعني ان فرص الحوار البناء مواتية اكثر منها خلال مراحل سابقة.
واذا كانت موضوعات وسياقات الحوار بين بغداد وانقرة، معقدة الى حد كبير، بسبب التراكمات السلبية المتواصلة، والظروف السياسية والامنية في كلا الجانبين، والمؤثرات الداخلية والخارجية، فأن الخيار الواقعي والعملي، يتمثل بالتركيز على نقاط التوافق والالتقاء، والابتعاد عن نقاط التقاطع والافتراق قدر الامكان، والذهاب الى ما هو ممكن ومتاح، وترك ما هو شائك وعسير الان، وهكذا هو حال العلاقات بين مختلف الامم والشعوب، ولعلنا لانذهب بعيدا اذا توقفنا قليلا عند طبيعة العلاقات بين طهران وانقرة، التي لاتخلو من نقاط خلافية كثيرة، بيد انها تتوفر على مساحات واسعة من التعاون والتواصل بين الجانبين بما يعود بالنفع والفائدة على كل من تركيا وايران معا، ولاشك ان الزيارة الاخيرة للرئيس الايراني حسن روحاني الى انقرة، قبل حوالي اسبوعين، تؤشر الى ذلك المسار العقلاني، الذي يمكن ان يرسم ملامحه ومعالمه الايجابية، حجم التبادل التجاري السنوي بين البلدين، البالغ، بحسب مصادر رسمية، اكثر من عشرة مليارات دولار، مع وجود مساعي جادة لرفع هذا الرقم الى مستويات اعلى بكثير، وذلك غير مستبعد البته.
ومساحة المصالح الاقتصادية بين العراق وتركيا، ليست هامشية وغير ذي اهمية-حيث ان حجم المبادلات التجارية ناهزت في عام 2017، وفق ما صرح اردوغان، في نيسان-ابريل الماضي، احد عشر مليار دولار- والانطلاق منها في الحوار، من شأنه ان يفتح افاقا رحبة ويبلور مواقف مرنة ومنسجمة، في اليات التعاطي مع ملفات مكافحة الارهاب، وتقاسم المياه، وضبط الحدود واحترام السيادة، وسبل انهاء الوجود العسكري الاجنبي على الاراضي العراقية، وكيفية التعاطي مع الازمات والقضايا الاقليمية المختلفة.
لايتوقع احد ان توجد زيارة برهم صالح لانقرة، حلولا سحرية سريعة لمشاكل وازمات عمر بعضها قد يتعدى العقدين من الزمن، لكنها من الممكن ان تحدد وتشخص المسارات الصحيحة والصائبة، والخطوات اللاحقة التي ينبغي على الطرفين اتخاذها، في حال صدقت النوايا، حتى لانعود لقرع طبول الحرب في خضم غياب العقل!.