التقارير

الإرهاب التكفيري وغياب الأنموذج التفسيري

1786 12:02:55 2015-10-08

صقر أبو فخر  نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2015-09-30 على الصفحة رقم 15 – قضايا وآراء

معظم الأفكار والآراء التي تصدّت لتفسير ظاهرة الإرهاب لدى الجماعات التفكيرية الإسلامية، وانتشارها المفاجئ، وتوسّع نطاق سيطرتها في سوريا والعراق، فشلت إلى حد بعيد في الإحاطة بهذه الظاهرة وأسبابها. فبعض الآراء حصر هذه الظاهرة في أنها مؤامرة استخبارية. وغامر البعض الآخر في الاستنتاج ليقول إن الدين الإسلامي نفسه إلغائي في الأساس، وإقصائي حين يتحوّل إلى سلطة سياسية أو إلى قوة سياسية عضوية وفاعلة. وأعادت آراء أخرى منشأ هذه الظاهرة إلى أسباب اجتماعية أو سياسية كالاستبداد والفقر والبطالة والتهميش. والواضح أن أي أنموذج تفسيري علمي وشامل لظاهرة إرهاب الجماعات الإسلامية التي تلمع خناجرها وأنصال سيوفها في سماء العالم العربي اليوم لم يظهر بعد في رؤوس المفكرين والباحثين. فتفسير الإرهاب بأنه مؤامرة استخبارية مضحك حتى الاستلقاء على القفا، مع أن «الإخوان المسلمين» تمرسوا في اللعب بين الاستخبارات منذ أن احتلوا مكانتهم السياسية بوصفهم تياراً يمكنه الوقوف ضد القومية العربية وضد الشيوعية في آن. وإعادة هذه الظاهرة إلى الإسلام نفسه، كسبب وحيد، لا يتفق مع التاريخ والوقائع الصحيحة والتفكير السليم. كذلك تفسير هذا الإرهاب كظاهرة اجتماعية وسياسية طبيعية ليس صحيحاً على الإطلاق. ومن تهافت الكلام الذي يهرُّ في كل يوم من أفواه كثير من الصحافيين والكتّاب، القول إن الإرهاب إنما هو النتيجة البسيطة للكراهية للآخر وللعدوانية الفردية والجماعية الموجودة في الدين الإسلامي الذي ما برح مغذّياً، بالمرويّات والأحاديث العجيبة، جميع الغرائز الهمجية والمتوحّشة والمتخلّفة عن عصرها بقرون زمنية.
وقصارى القول في هذا الميدان إن أيّ تحليل لإرهاب الجماعات الإسلامية ينطلق من أنه ظاهرة ذات أسباب خطية وحيدة لن تتقدّم معرفياً خطوة واحدة إلى الأمام، لأن التفسير الواحدي عاجز دائماً عن اكتشاف التعدّد والتشابك في أي ظاهرة معقدة مثل الإرهاب التكفيري الإسلامي. وعلى غرار ذلك، فشل التفسير التآمري في التقاط الأسباب الجوهرية لهذه الظاهرة العالمية، ولم يتمكّن من تفسير الوقائع المتناقضة والمتعاكسة التي تسخّف هذا التفسير في كل يوم، كالقول إن أميركا هي التي أسست «القاعدة» ثم «داعش»، أو إن إسرائيل هي التي تحرّك خيوط ذلك الإرهاب. أما الربط التلقائي بين الإرهاب التكفيري والأفكار التكفيرية، على صحته جزئياً، فلا يكفي وحده على الإطلاق، لأن جميع الحركات السلفية، وحتى غير السلفية، تنهل من المعين الفكري والايديولوجي نفسه: من السيرة النبوية والأحاديث المختلف عليها والمرويات الدينية وقصص الأنبياء وكتب المغازي والتفاسير القديمة والجديدة صعوداً إلى ابن حنبل وابن تيمية والغزالي ومحمد بن عبد الوهاب وحسن البنا وأبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي وسيد قطب، لكن بعضها يختلف عن بعضها الآخر في درجة النزوع إلى العنف، وفي مستوى انخراطه في إلغاء المخالفين له، وفي مدى انغماسه في تطبيق الحدود ولا سيما حدود الارتداد أو الكفر أو الشرك أو الزنى أو السرقة... الخ.
بيئة العنف
إن تفسير إرهاب الجماعات الإسلامية بأنه ردّ على ظلم السلطات العربية للمسلمين، ولا سيما السنّة، يدحضه، على الفور، ظاهرة تقاطر آلاف المقاتلين من أوروبا وأميركا وروسيا وأفغانستان والصين وغيرها من الدول ممن لم يتعرض هؤلاء، على الإطلاق، لظلم السلطات العربية. وهؤلاء إنما يتجمّعون كتجمع الذباب في صحن العسل، لأن ثمة ما يغري في هذا الاجتماع، وهو إقامة دولة تطبق عقائدهم، ويعيدون فيها الوحدة إلى هويتهم المشطورة، وتزيّن لهم الحياة فيها حيث المتعة والشهوة تتقد في أي لحظة مع الجواري الناهدات والسبايا الكاعبات، أو الموت في سبيلها حيث الحور العين العذاروات ينتظرن في الجنان صعود المقاتلين الفحول إليهن.
على الغرار نفسه يعجز التفسير الاجتماعي وحده عن الإحاطة بهذه الظاهرة المعقّدة، فليس في إمكان الفقر أو البطالة أو التهميش، خصوصاً في ضواحي المدن العربية وفي أحياء المسلمين المهاجرين إلى المدن الأوروبية، أن يقدّم تفسيراً قاطعاً في منشأ هذه الظاهرة. فأسامة بن لادن كان ثرياً، ومن عائلة ثرية جداً. وأيمن الظواهري طبيب متحدّر من عائلة ارستقراطية. والرواد الأوائل للمقاتلين في أفغانستان كانوا، في معظمهم، من الفئة العليا من الطبقة الوسطى العربية. وهذا لا ينطبق على المقاتلين الذين هم، في الأغلب، من فقراء المدن أو من معدَمي الأرياف الماحلة والبوادي القاحلة. وبرغم أن الإرهاب الإسلامي هو، في نهاية المطاف، ظاهرة اجتماعية وسياسية وتاريخية وفكرية مركبة، فإن ما تفتقر إليه معظم الدراسات والبحوث التي تصدّت لهذه الظاهرة هو الالتفات إلى البيئة الحاضنة للإرهاب، لا بالمعنى الدارج المبتذَل، أي بيئة «أهل السُنة»، بل بالمعنى التاريخي والاجتماعي الذي يمكنه أن يساعد في تقديم أنموذج تفسيري لاتساع النطاق الآمن لهذه الظاهرة العجيبة، وجاذبيتها لدى كثيرين، وقوتها وفاعليتها وقدرتها على الاستمرار ومواجهة جميع خطط القضاء عليها. والمقصود إلى عبارة البيئة الحاضنة والآمنة هي العناصر التشكيلية لهذه البيئة كالقبائل الممتدّة في أرياف العالم الإسلامي، وبالتحديد في أفغانستان واليمن والعراق وسوريا وغزة، وبيئة أبناء المهاجرين المهمّشين في مدن الغرب المسيحي، علاوة على استيقاظ بعض الأعراق والاثنيات في البلدان الإسلامية وغير الإسلامية كالصين وروسيا، والتي اتخذت يقظتها مسلك التطرف والتكفير والإرهاب.
لا ريب في أن أحدَ مداخل التفسير لظاهرة الإرهاب هو بيئة أبناء المهاجرين إلى دول الغرب، حيث تنتشر العنصرية، ويتفاقم التهميش والإقصاء والبطالة والفقر، ويزداد الغضب والعنف وتجليات الذكورة المحبطة. غير أن البيئة الحاضنة لهذا العنف هي، أولاً وقبل أي بيئة أخرى، ضواحي المدن الكبيرة في العالم الإسلامي التي تعجّ بالوافدين من الأرياف التاعسة، الهاربين من البطالة، والذين غادروا أريافهم الأليفة نحو المدينة لأن الأمل كان يحدوهم إلى العثور على حياة أفضل. ولما لم يجد معظم هؤلاء فرص عمل، خاب رجاؤهم، وواجهوا قسوة المدينة بالنقمة، وبدأوا رحلة الغضب والانتقام بالانضمام إلى الجماعات الإرهابية كطريقة في الاحتجاج على السلطات، ولأن الجماعات الإرهابية نفسها جذبت هؤلاء جراء الرعاية المالية، ثم الفكرية، التي غمرت كثيرين من الشبان، وأطلقت في نفوسهم المضطربة أحلاماً ووعوداً خارقة. وعلاوة على ذلك كله، ثمة انشداد موضوعي لدى الجماعات السلفية المقاتلة (الإرهابية) إلى القيم القبلية. وهناك كثير من المقاتلين من أبناء القبائل في سيناء وليبيا والأردن ومالي ونيجيريا واليمن والجزائر والصومال يعيشون في أمان عميم في نطاق القبيلة التي تغدق عليهم حمايتها. وحتى في أفغانستان وباكستان، فإن قبائل
«البشتون»، على طرفَي الحدود، تحتضن الجماعات الإرهابية باعتبارهم ضيوفاً. وميثاق الشرف لدى «البشتون» (بشتون والي)، يمنع خيانة الضيوف، ويعتبر ذلك عاراً لا يمحوه إلا القتل.
تفكيك وتركيب
إن إرهاب الجماعات الإسلامية ظاهرة مركبة تنطوي في سياقها على ظواهر كثيرة غير متماثلة كالثقافة والهوية والأعراق والإثنيات والقبائل والاقتصاد العابر للحدود والسياسات الإقليمية والدولية، علاوة على التهميش والفقر والمكوّنات النفسيّة للأفراد المهمشين كالعدوانية والتمرد وعدم القدرة على الاندماج الاجتماعي. والأنموذج التفسيري المركّب هو الذي يستطيع أن يكتشف التداخل والتشابك بين العناصر المتعددة لهذه الظاهرة، ويفككها ثم يدرجها في سياقها التحليلي، بما في ذلك الطوائف والأفكار والبنى الاجتماعية ما قبل الدولة، علاوة على الصراعات السياسية المحتدمة في منطقتنا، والتي يستخدم فيها كل لاعب جميع الأوراق حتى القذرة مثل ورقة توظيف الجماعات الدموية الإرهابية استخبارياً أو في سياق مصالحه. لكن إعادة تركيب هذه العناصر المتنافرة أحياناً مهمة ما فتئت تنتظر اكتمالها النظري، وهي مهمة إبداعية شائكة بعدما عصفت العولمة بكل شيء، وغيّرت الحياة والقيم والأفكار والمناهج والموروث الاجتماعي، وجعلت الثقافة أو الهوية، على سبيل المثال، أضحوكة، وأعلنت موت التفكير وانتصار الغوغاء والتكفير، فما عاد الوطن لدى القوميين مثلاً (أو الطبقة لدى الماركسيين) هو الذي يحدد الهوية الفردية للإنسان، بل تحوّلت هذه الهوية نحو الدين أو القبيلة. وجرى هذا التحول بسرعة، وفي سياق ضعف الدولة الحديثة وفشلها التنموي والديموقراطي، الأمر الذي أنتج اضطرابات سياسية واقتصادية غمرت كل شيء. وفكرة الوطن تكاد تكون غير موجودة لدى الإسلاميين منذ الأساس، وهذا ما نكتشفه بالتدريج لدى الجماعات التفكيرية حتى في فلسطين. وللأسف، فقد كنّا منهمكين في قضايا الهوية العربية، فإذا بنا نصبح غارقين في الهاوية العربية. فهل كان الحراك العربي صحوة أم كبوة أم سقوطاً؟ ومهما يكن الجواب الذي ما برح ينتظر اكتماله النظري والسياسي، سأجازف بالاستنتاج أن ذلك الحراك الذي كان من المؤمَّل أن يدشن عصراً جديداً للعالم العربي، وتوهمنا أنه نبي الخلاص بشعوبنا اللاهثة خلف لقمة عيشها، وبعدما شاهدنا مآثره ولمسنا عقابيله، أقول: ليته لم يحدث على الإطلاق.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك