بغداد ـ عادل الجبوري
لم يختر رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، ايران لتكون باكورة تحركه الخارجي بعد تسلمه المنصب التنفيذي الاول في الثامن من شهر ايلول/سبتمبر الماضي، اعتباطا، فقد كان بإمكانه أن يتوجه أولا الى أي بلد من تلك التي وجهت حكوماتها له دعوات رسمية لزيارتها، بدلا من إيران.
وبما ان القاعدة تقول "لا توجد في السياسة مصادفات، ولا خطوات عفوية غير محسوبة ومدروسة مقدما"، فإن ذهاب العبادي الى طهران قبل غيرها ولقاء كبار قادتها ومسؤوليها هناك يطلق عدة رسائل واشارات، من غير الممكن للمتتبع والمراقب السياسي ان يمر عليها مرور الكرام، او ان يتعاطى معها بصورة سطحية من دون التعمق في دلالاتها ومعانيها.
وطبيعة الاختيار بقدر ما هي مرتبطة بحقائق الحاضر، فإنها من دون شك غير منفصلة عن وقائع الماضي، وكذلك غير بعيدة عن افاق المستقبل.
وقائع الماضيوبالنسبة لوقائع الماضي، فإن ايران، ورغم الحرب الطاحنة التي خاضتها مع العراق طيلة ثمانية اعوام (1980-1988) بسبب سياسات نظام صدام العدوانية، الا انها سارعت بعد سقوط ذلك النظام في عام 2003 الى تشييد جسور الثقة مع العراق بواقعه الجديد، مع ما كان لديها من ملاحظات وتحفظات ومؤاخذات على الوضع السياسي العام في ذلك الوقت. فقد كانت من اوائل الدول التي فعّلت وعززت علاقاتها الدبلوماسية مع جارها الغربي، الى جانب تعزيز العلاقات الاقتصادية-التجارية، والثقافية.
فالتمثيل الدبلوماسي لها-اي لايران- في العراق، ارتقى الى مستوى سفير منذ وقت مبكر، والحراك الاقتصادي سار بوتائر متسارعة، حتى وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين الى اكثر من خمسة عشر مليار دولار خلال الاعوام القلائل الماضية، والسياحة الدينية انتعشت الى حد كبير، وكل ذلك كان مقترنا بحراك سياسي ودبلوماسي على اعلى المستويات، فكبار الساسة والمسؤولين العراقيين زاروا ايران، مثل رئيس الجمهورية السابق جلال الطالباني، ورئيسي الوزراء السابقين ابراهيم الجعفري ونوري المالكي، ورؤساء مجلس النواب السابقين محمود المشهداني واياد السامرائي واسامة النجيفي، فضلا عن زعامات سياسية عراقية مهمة كرئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني، ورئيس حكومة الاقليم نيجرفان البارزاني، ورئيس المجلس الاعلى الراحل السيد عبد العزيز الحكيم، ومن ثم رئيس المجلس الاعلى الحالي السيد عمار الحكيم، فضلا عن عدد كبير من الوزراء والمسؤولين الكبار.
في مقابل ذلك فإن الرئيس الايراني السابق محمود احمدي نجاد زار العراق عدة مرات، وزارها ايضا وزير الخارجية الاسبق منوجهر متقي، والوزير السابق علي اكبر صالحي، والحالي محمد جواد ظيف، وزارها كذلك رئيس مجلس الشورى السابق غلام علي حداد عادل، والرئيس الحالي علي لاريجاني، ومستشار آية الله العظمى للشؤون الدولية علي اكبر ولايتي، ووزير الدفاع حسين دهقان، والامين العام السابق لمجلس الامن القومي سعيد جليلي، والحالي علي شمخاني، الى جانب وزراء ومسؤولين كبار اخرين وزعماء دينيين وقادة عسكريين.
وهذا الحراك في مجمله ساهم بتذويب الكثير من الخلافات والاختلافات، وازالة سوء الفهم، والاتفاق على صيغ واليات لحل ومعالجة المسائل العالقة بين البلدين، وبالتالي النهوض بواقع العلاقات بين البلدين بإطارها العام والشامل الى مستويات عالية عبر حزمة من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم واوراق العمل المشتركة في عدة جوانب ومجالات.
وطيلة الاعوام العشرة او الاحد عشر الماضية، لم تواجه بغداد مع طهران مشكلة او ازمة معقدة، كما حصل مع دول اخرى مثل السعودية وتركيا والاردن وسوريا والكويت.
حقائق الحاضروكان من الطبيعي جدا ان تؤسس تلك المسيرة المتنامية من العلاقات بين البلدين ارضيات للتفاهم على اوسع نطاق لا بخصوص القضايا الثنائية فحسب، وانما حول قضايا وملفات اقليمية حساسة وخطيرة.
فبغداد وطهران تبنتا نفس الرؤية بشأن الازمة السورية رغم الكم الهائل من الضغوطات التي تعرضتا لها من قبل قوى غربية واقليمية، ونفس الشيء بالنسبة للازمة البحرينية وكذلك الازمة اليمنية، بل ومجمل الحراك الذي جاءت به وافرزته احداث مايسمى بالربيع العربي في عدد من البلدان العربية، وايضا فيما يتعلق بالملف النووي الايراني.
وفيما بعد جاء ملف تنظيم داعش الارهابي ليؤكد توافق-ان لم يكن تطابق-الرؤى بين بغداد وطهرن في اليات التعاطي مع هذا الملف الخطير، علما انه رغم الدور الايجابي الايراني في محاربة الارهاب، الا ان الولايات المتحدة الاميركية ودولا غربية واقليمية عملت على استبعاد ايران من التحالف الدولي الذي تشكل قبل فترة وجيزة لمواجهة خطر تنظيم داعش في العراق وسوريا وعموم المنطقة والعالم، وكان واضحا ان ذلك الاستبعاد، الذي رفضته بغداد، كان منطلقا من حسابات واجندات سياسية معينة، لا من منطلقات موضوعية.
وبينما حاولت وسعت اطراف اقليمية معينة الى تأزيم الوضع العراقي من خلال اثارة الفتن بين المكونات العراقية المختلفة، ودعم الجماعات الارهابية المسلحة، وعرقلة مساعي عودة العراق الى الساحات العربية والاقليمية والدولية، لابقائه مكبلا ومنشغلا بمشاكله وازماته، عملت طهران على بناء منظومة علاقات ايجابية معه وفق قاعدة المصالح المتبادلة والقواسم المشتركة، اتاحت وتتيح له التخلص من بعض مشاكله وازماته.
ولعل الحقيقة التي ينطلق منها كل من العراق وايران في علاقاتهما، تتمثل في ان الاستقرار الحقيقي لبلدان المنطقة، لا ينبع من خارجها، وانما لا بد ان يـتأسس ويترسخ بواسطة الاطراف المعنية، لا سيما الفاعلة والمؤثرة فيها، ولم يترك مسؤولو كلا البلدين مناسبة الا واكدوا وشددوا فيها على تلك الحقيقة.
فالازدهار الاقتصادي، ومحاربة الارهاب، وحل ومعالجة المشاكل والازمات، واعادة بناء الثقة، كلها ملفات وقضايا لا يمكن التعاطي معها والتقدم فيها من خلال ادوات خارجية طارئة، والتجارب السابقة، من قبيل طريقة اسقاط نظام صدام، والازمة السورية، والازمة البحرينية، وغيرها تثبت ذلك، اذ ان التبعات والاثار السلبية التي ترتبت عليها ما كان لها ان تظهر لولا التدخلات السلبية الخارجية للقوى الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الاميركية.
واليوم ليس غريبا ان تتبنى طهران ذات الموقف الذي تصر عليه بغداد القاضي برفض استقدام قوات اجنبية برية للعراق تحت ذريعة محاربة تنظيم داعش.
افاق المستقبلولا شك ان رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي ذهب الى طهران حاملا معه رؤية تبدو واضحة ومعقولة ومنطقية الى حد كبير، تقوم على اساس ان حل المشكلات يبدأ من الداخل اولا، ليتحرك في الفضاء الاقليمي ومن ثم في الفضاء الدولي، وان اي تدخل خارجي خارج السياقات والاطر القانونية من شأنه ان يزيد الامور تفاقما ويقلص فرص الحل.
قد لا تكتمل معالم وملامح الصورة بالنسبة للكثيرين، قبل ان يذهب العبادي الى عواصم اخرى مثل انقرة والرياض وعمان والدوحة وابو ظبي وعواصم اخرى، ليشاهدوا ويسمعوا ويراقبوا مجريات الامور.
ولا تكتمل الصورة كذلك، الا بتحرك وحراك شخصيات سياسية عراقية اخرى، مثل رئيس الجمهورية فؤاد معصوم الذي من المؤمل ان يزور انقرة قريبا، ورئيس مجلس النواب سليم الجبوري الذي بدأ زيارة لدولة الكويت تزامنت مع زيارة العبادي لطهران.
وبالتأكيد ثمة اجواء ومناخات مشجعة جدا في هذه المرحلة لاستثمار الزخم المحلي والاقليمي والدولي في دعم الحكومة العراقية الجديدة لتصحيح المسارات الخاطئة، والتغلب على المشاكل القائمة، وكذلك لاستثمار ذلك الزخم لمحاربة تنظيم داعش.
قد لا تكون طهران المفتاح الوحيد، بيد انها من دون شك واحد من اهم المفاتيح، وهذا باختصار ما جعلها المحطة الخارجية الاولى للعبادي دون غيرها.
17/5/141024
https://telegram.me/buratha