بغداد ـ عادل الجبوري
- واحدة من القضايا التي باتت تشغل مختلف الاوساط السياسية والشارع العراقي في هذه المرحلة، هي الاطروحات الاميركية لمحاربة الارهاب في العراق، وما يرتبط بها من اشارات وتلميحات لامكانية عودة الولايات المتحدة الاميركية عسكريا الى العراق تحت غطاء "محاربة تنظيم داعش".
ولاول وهلة يمكن ان يتعاطي المتلقي-في العراق ودول اخرى-مع الاشارات والتلميحات الاميركية بصورة ايجابية، لا سيما ان خطر تنظيم داعش استفحل وبات يهدد كيانات ومجتمعات وهويات عديدة، وهذا التعاطي الايجابي، متأتّ من حالة الخوف والفزع والقلق، والرغبة الملحة في تفادي ذلك الخطر الكبير.
وربما كان ذلك امرا طبيعيا، يرتبط بالنزعة الغريزية لتفادي اي خطر والبحث عن مصدات وحواجز وموانع تدفعه بعيدا، بصرف النظر عن جوهر وحقيقة تلك المصدات والحواجز والموانع.
بيد ان التعمق والتدقيق، والعودة قليلا الى الوراء، والتوقف طويلا عند مجريات الوقائع والاحداث، والتأمل في مساراتها ومآلاتها، يمكن ان يبلور صورة اخرى تختلف الى حد كبير عن الصورة النمطية الاولية المتشكلة من خلال مشاعر الخوف والفزع والقلق، والرغبة الملحة لتفادي الخطر.
وحتى تكون الرؤية موضوعية حيال الموقف والتحرك الاميركي المفاجئ ضد تنظيم داعش، والذي راح يعبئ الاخرين بطريقة تذكرنا بمشهد الاحداث بعد غزو نظام صدام لدولة الكويت في صيف عام 1990، وبمشهد اجواء الحرب لاسقاط ذلك النظام ربيع عام 2003، فإنه لا بد من الاشارة الى جملة من الحقائق والوقائع، التي بمجملها ترتسم صورة المواقف والتوجهات الحقيقية التي تصاغ ومن داخل مراكز صناعة القرار، وغرف الفكر وكواليس المخابرات، لا تلك التي يتم تسويقها من على منابر السياسة وعبر وسائل الاعلام.
-انطلقت حملة تنظيم "داعش" المفاجئة في العراق في العاشر من شهر حزيران/يونيو، ليشهد العراقيون، وخصوصا ابناء محافظة نينوى والمدن والمناطق التي سيطر عليها التنظيم شتى المظاهر والسلوكات الاجرامية الدموية، وقبل تلك الحملة كانت سوريا قد شهدت الكثير من بشاعات تنظيم داعش، ولم تحرك الولايات المتحدة الاميركية ساكنا، وفي سوريا كان هدفها الاساس يتمثل بإسقاط الحكومة السورية برئاسة بشار الاسد، وفي العراق، اطلقت اشارات واضحة الى حد ما مفادها ان الدعم الاميركي للعراق في محاربة الارهاب الداعشي مشروط بتشكيل حكومة وطنية مقبولة من كل المكونات.
في بادئ الامر لم تحرك الولايات المتحدة الاميركية ساكنا، واكتفت بارسال اشارات ضمنية، ورسائل لاطراف متعددة، مفادها ان الدعم الاميركي لمساعدة العراق في محاربة تنظيم داعش مشروط بتشكيل حكومة وطنية تحظى بقبول الجميع، بمعنى اخر تنحي او تنحية المالكي من منصب رئيس الوزراء واختيار شخص اخر لتولي المنصب.
وما جعل واشنطن تكسر صمتها وترقبها السلبي، امران، الاول، هو وصول خطر تنظيم داعش الى اقليم كردستان، بعد سيطرته على قضاء سنجار ومناطق من قضاء ربيعة وناحية زمار، وتهجيره اعدادا كبيرة من المسيحيين والايزيديين، والامر الثاني، قيام عناصر التنظيم بذبح الصحفي الاميركي المحتجز لديه جيمس فولي.
هنا استنهضت واشنطن حميتها، وسارعت الى تحريك قطعات من اسطولها الجوي لتوجيه ضربات لاوكار التنظيم في المناطق المتاخمة لاقليم كردستان، علما ان ما تعرضت له مدن تلعفر وامرلي ذات الاغلبية الشيعية وغيرهما، لم يكن اقل وطأة واجراما ودموية مما تعرضت له مدن سنجار وزمار، هذا الى جانب التحرك السياسي-الدبلوماسي على اعلى المستويات لحشد المجتمع الدولي من اجل تبني موقف حازم وحاسم للوقوف بوجه داعش، موقف يتجاوز الاطار النظري الى التطبيق العملي، ولعل اجتماع جدة المنعقد في العاشر من شهر ايلول/سبتمبر الجاري، ومن ثم مؤتمر باريس في الخامس عشر منه، وقبلهما مؤتمر الناتو في ويلز، جاءت كلها في هذا السياق، فضلا عن مجمل التحركات المكوكية الاخرى لوزير الخارجية الاميركي جون كيري، وساسة غربيين، لا سيما الفرنسيين، وفي مقدمتهم الرئيس فرانسو هولاند.
تقدم عسكري
-التحرك العسكري الاميركي ومعه التحرك السياسي-الدبلوماسي، جاء متزامنا مع مكاسب وانجازات وانتصارات مهمة حققتها تشكيلات الحشد الشعبي في عدة مدن ومناطق، بحيث بات زمام المبادرة بأيديها، وبرز على ارض الميدان قادة ميدانيون نجحوا في ادارة وتوجيه المعارك بالاتجاه الصحيح، لتعطي نتائج طيبة، كسرت شوكة تنظيم داعش وخفظت المنحنى البياني لمعنوياته.
ويبدو واضحا ان واشنطن ارادت افراغ الحشد الشعبي من محتواه، لاستشعارها –او شعورها-بأنه يتقاطع مع مصالحها ومع رؤاها وتصوراتها، والا لماذا التزمت الصمت في البداية، ومن ثم قررت التحرك فجأة على اكثر من صعيد واتجاه؟.
-الاعلان الصريح والواضح بالاستفادة من اراضي اقليم كردستان-وتحديدا اربيل-كقواعد عسكرية للتحرك وشن عمليات عسكرية ضد داعش، وفي وقت لاحق اطلاق اشارات بإنشاء قواعد عسكرية في محافظة صلاح الدين لنفس الغرض، بيد ان واقع الحال يشير الى ان الهدف الحقيقي لانشاء تلك القواعد لا يتمثل بمحاربة داعش، وانما يتمثل بفرض وجود عسكري لا يختلف عن الوجود العسكري الاميركي لما قبل عام 2012، والتلمحيات والاشارات التي اطلقها رئيس هيئة اركان الجيش الاميركي الجنرال مارتن ديمبس ومسؤولون اخرون في واشنطن، عن امكانية ارسال قوات برية الى العراق في حال فشلت الجهود الحالية للقضاء على تنظيم داعش، لا تترك المجال لكثير من الشك حول حقيقة الاهداف والمخططات الاميركية. ومن يتمعن بمفردات استراتيجية اوباما لمحاربة الارهاب، التي طرحها مؤخرا، يجد بين طياتها وثناياها تلك الاهداف والمخططات.
فتلك الاستراتيجية احتوت الغاما موقوتة، يمكن ان توسع نطاق المشاكل والازمات بدلا من حلحلتها واحتوائها وحلها. اضف الى ذلك فإن واشنطن راحت تتدخل بطريقة فجة-مثلما يقول احد السياسيين-بقضية اختيار وزيري الدفاع والداخلية، وتضغط بهذا الاتجاه او ذاك، من اجل ابعاد الاسم الفلاني والدفع باسم اخر غيره.
الى جانب ذلك، فإنها قررت استبعاد ايران من التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش، ومنعت مشاركتها في مؤتمر باريس، مع العلم انها-اي ايران-تعد طرفا فاعلا ومؤثرا في محاربة الارهاب، فضلا عن اشتراكها بحدود طويلة مع العراق تمتد الى اكثر من الف وثلاثمائة كيلومتر.
أميركا لا تشعر بالقلق من داعش بقدر قلقها على مصالحها ومصالح اتباعها وحلفائها -والمفارقة اللافتة، تمثلت بحرص الولايات المتحدة الاميركية على اشراك الدول التي لعبت دورا كبيرا في دعم الارهاب بالعراق ودول اخرى، في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش. وهذه ازدواجية غريبة من الصعب العثور على تفسير مقنع لها، وخصوصا ان تغييرات حقيقية في المواقف والتوجهات لم تتبلور على ارض الواقع.
والحقيقة التي ينبغي التأكيد عليها، هي ان الولايات المتحدة لا تشعر بالقلق من تنظيم داعش بقدر قلقها على مصالحها ومصالح اتباعها وحلفائها، وبقدر قلقها من نجاح العراقيين في الامساك بزمام المبادرة دون الحاجة الى املاءاتها واجنداتها الخاصة.
1/5/140924
https://telegram.me/buratha