علي عوباني
ثلاث سنوات ونصف مرت وقفت فيها واشنطن في سوريا في صف الجماعات الارهابية، صامّة أذنيها عما يحدث من قتل وإرهاب وإبادة للشعب السوري. كل ذلك لم يحرك الوجدان الاميركي، الذي بقي واقفاً ولا يزال الى جانب "اكلة لحوم البشر". لكن ما الذي تغير، حتى بدا الموقف الاميركي وكأنه تحول بقدرة قادر من داعم للارهاب في سوريا الى محارب له في شمال العراق، يستصدر قرارات دولية بشأنه؟ وما سبب التدخل الأمريكي السريع بعد أن وصلت "داعش" الى مشارف اربيل وعلى مسافة 50 كيلومتراً من حدود إقليم كردستان العراق فقط؟،هل لأن اميركا حريصة فعلاً على حقوق الاقليات ووصية عليها ولا تسمح بالمساس بها، ام لان المارد "الداعشي" خرج من القمقم الاميركي، وبات لزاماً على ادارة اوباما تقليم أظافره، بعدما وصلت الموسى الى رقبة المصالح الاميركية؟.
توسعت "داعش" باتجاه سوريا حيث اكتسبت تسميتها هذه، وتمددت على مرأى ومسمع العالم اجمع نحو الموصل بطريقة ملتبسة. وقفت حينها اميركا موقف المتفرج، لاذت بالصمت ولم تنبس ببنت شفة، رغم امتلاكها معلومات استخباراتية مسبقة بنية "داعش" للزحف نحو الموصل، بل ذهبت ابعد من ذلك فحاولت استغلال الوضع المستجد ومارست ابشع عملية ابتزاز سياسي حينما رهنت تقديم الدعم للحكومة العراقية بتقديم تنازلات سياسية. حتى حينما ارتكبت "داعش" المجازر والمذابح الجماعية بحق الاقليات من تركمان وايزيديين ومسيحيين وغيرهم، لم يرف جفن أوباما واقتصر الموقف الاميركي على إدانات اعلامية خجولة لم تتجاوز حدود الورق الذي كتبت عليه.
"داعش" سيطرت على اربع مدن استراتيجية بمساحات جغرافية تفوق مساحة اربيل ولم تحرك اميركا ساكناً
اذاً لماذا هذا السباق الاميركي المحموم لحماية كردستان، في حين سيطرت "داعش" على اربع مدن استراتيجية بمساحات جغرافية تفوق مساحة اربيل ولم تحرك اميركا ساكناً؟.. ولماذا حينما وصل التنظيم الى حدود اربيل تحول الموقف الاميركي من صامت الى راعد ومن متفرج الى مندد ومهدد، وبدأ يردد على لسان مسؤوليه مصطلح "حماية المصالح الامريكية"..؟.
انها لعبة المصالح اذاً، فاميركا ليست جمعية خيرية هدفها انقاذ البشرية، او توزيع مساعدات انسانية، انها لعبة المصالح التي حتمت عليها انشاء ثاني اكبر سفارة امريكية في اربيل عام 2011 بعد سفارتها في بغداد. فما هي هذه المصالح الثمينة في اربيل؟.
للولايات المتحدة علاقات تاريخية وثيقة منذ عقود مع إقليم كردستان شمال العراق تعززت بعد حرب الخليج الثانية عام 1991، وهو يعتبر منطقة ذو أهمية إستراتيجية بالنسبة اليها. اربيل قاعدة استخباراتية وعسكرية اميركية، وكر للتجسس على ايران وبغداد وحتى تركيا، يوجد فيها عشرات المستشارين العسكرييين الأمريكيين، وعدداً من المطارات الصغيرة السرية المخصصة للطائرات الأمريكية دون طيار والتي تنفذ عمليات تجسس. ومؤخراً تعاقدت الحكومة الاميركية مع مقاولين وشركات بناء لتوسيع مركزها الاستخباراتي قرب مطار أربيل.· اربيل تعتبر بالنسبة لواشنطن، عاصمة اقتصادية للمنطقة، واحة استثمارية للشركات الامريكية الكبرى، وملتقى تجاري وصناعي تتنافس عليه 20 دولة تتقدمها أمريكا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا.
· اما سد الموصل فله أهمية بالغة بالنسبة للاميركيين (أكثر من 12 مليون متر مكعب)، وبهذا الصدد رأى أوباما في تصريح له ان سقوط سد الموصل بأيـدي "داعش" يشكل تهديداً للموظفين والمقرات الأمريكية، بما في ذلك السفارة الأمريكية في بغداد.
· اقليم كُردستان غني بأكثر من 14 حقلاً نفطياً، بينها رابع أكبر حقل نفطي في العراق
*اقليم كُردستان غني بأكثر من 14 حقلاً نفطياً، بينها رابع أكبر حقل نفطي في العراق، ولديه سادس أكبر الودائع النفطية في العالم، أما عاصمة الاقليم آربيل فتوجد فيها كبريات شركات النفط الاميركية، ومنها شركتا "إكسون موبيل" و"شيفرون" اللتان لديهما عقود ضخمة وطويلة الاجل والكثير من الموظفين في المنطقة، فضلاً عن شركات نفط أصغر منها. فاربيل وحدها تنتج اكثر من ربع النفط العراقي، فضلاً عمّا تنتجه كركوك الغنية بآبار النفط، وتقدر ثروات الطاقة في شمال العراق حالياً بـ 45 مليار برميل من النفط الخام، وغاز طبيعي يتراوح مقداره بين 3 و6 تريليونات متر مكعب.
هذا وكانت معلومات تحدثت ايضاً عن اكتشاف اليورانيوم في اربيل، في موقع يقع بين شقلاوة وبيخال، من قبل شركة عسكرية امريكية وهذه الشركة تقوم بعمليات التنقيب واستخراج اليورانيوم ضمن عمليات سرية تجرى على قدم وساق لهذا الكنز السري الثمين الذي يدخل في الصناعة النووية.
المسألة ليست مسألة جغرافيا اذاً ولا مسألة اقليات وحقوق انسان، وليست سواد عيون الاكراد او الحفاظ على تجربتهم "النموذجية" من الزوال كما يروج البعض، ولا شبح بنغازي وتكرار سيناريو مقتل الدبلوماسيين الاميركيين الذي لا يزال ماثلاً وحاضراً بقوة في اذهان الادارة الاميركية، فذلك لا يمكن ان يكون سبباً جوهرياً ومقنعاً لتحرك واشنطن ضد "داعش"، لانه بامكانها في مثل هذه الحالات اللجوء الى اساليب اخرى كاستدعاء الرعايا والدبلوماسيين الأمريكيين ومطالبتهم بمغادرة مناطق الخطر، وفي اقصى الحالات اجلاؤهم للحفاظ على حياتهم وهو ما فعلته سابقاً في بغداد. المسألة أبعد من ذلك ففي السياسة المصالح هي التي تحكم وتتحكم، فالطائرات الأمريكية تحركت ضد "داعش" عندما اقتربت من "الصحن الكردي"، خشية من سقوط مصالح استراتيجية اميركية كبرى تتمثل بالمؤسسات النفطية القريبة وشركاتها الأخرى.
كما انه من الواضح ان الولايات المتحدة التي لم تهضم حتى الآن هزيمتها وانسحابها من العراق ترسم بغاراتها الاخيرة على "داعش" معادلة "جيوسياسية" في هذا البلد، توجه من خلالها رسالة لـ"داعش" تبين لها ما هو المسموح لها والممنوع عليها، فـ"الكيان الكردي" بالنسبة لاميركا خط أحمر ممنوع الاقتراب
واشنطن ترسم بغاراتها معادلة "جيوسياسية"توجه من خلالها رسالة لـ"داعش" تبين لها ما هو المسموح لها والممنوع عليها منه، وغير ذلك فالحبل ممدود لـ"داعش" بدولة تمتد حدودها من حلب الى الموصل.
وفي هذا الاطار، يثبت اوباما وادارته مرة جديدة أن مقدساتهم هي مصالحهم وهي أبعد ما تكون عن حماية أرواح البشر أو حقوقهم في الحياة وغيره من أسباب معلنة كحماية الأقليّات بل إنّ همه الأول هو نفط العراق، فالولايات المتحدة التي خرجت من الباب العراقي قبل عامين تحاول اليوم العودة اليه من النافذة، ولعل ذلك ما يفسر التحركات الغربية المحمومة لتسليح أكراد العراق. فكردستان هي المخرج الوحيد للولايات المتحدة من معضلاتها الإستراتيجية في العراق، باختصار هي معقل للنفوذ الأمريكي، محمية استخباراتية، حقول نفطية، واحة اقتصادية استثمارية. لهذه الاسباب حينما كادت نار داعش أن تغطي كل العراق لم تتدخل الولايات المتحدة الا بعد وصول الخطر الى أربيل. ولفهم اهمية اربيل بالنسبة لاميركا ليس ادل على ذلك من تصريح السفير الاميركي خلال حفل افتتاح القنصلية العامة للولايات المتحدة في أربيل (يوم 10 تموز/ يوليو 2011) وقد تزامن حينها الاحتفال مع مناسبة الذكرى 235 لاستقلال الولايات المتحدة، حيث أشار السفير جيفري إلى هذا التاريخ بقوله "أعتقد أنه لا يوجد مكان نحتفل فيه بيوم استقلالنا أفضل من هنا في هذا البلد الشريك المكافح من أجل تحقيق ديمقراطيته".
28/5/140903
https://telegram.me/buratha