د. أمين محمد حطيط
عندما أعلن الإمام الخميني الجمعة الأخير من رمضان يوماً عالمياً للقدس لإحياء ذكرها سنوياً من قبل المسلمين والأحرار في هذا العالم، كان يرمي من هذا الإعلان إلى إبقاء القدس التي تشكل في رمزيتها دليلاً على جسامة العدوان الصهيوني على الأمة، وإبقاءها حاضرة في ذهن المعنيين بالشأن لتحفيزهم وشحذ هممهم وتحشيد الطاقات لاستعادة الأرض والحقوق من اليد التي اغتصبتها في غمرة الغفلة العربية والإسلامية التي أتاحت للغرب أن يضع يده على المنطقة إثر الحرب العالمية الأولى وأن يثبت وجوده فيها إثر الحرب الثانية، ما مكّنه من رسم خرائطها ومنح بعض أرضها لليهود الصهاينة ليشكّلوا رأس جسر أو قاعدة متقدمة للغرب في المنطقة تحفظ مصالحه وتؤمن سيطرته على ثرواتها والتحكم عبرها في الاقتصاد العالمي عبر التحكم في نفطها وممراتها المائية.
لكن الإعلان لم يكن ليروق للمنظومة الغربية الصهيو ـ أميركية التي سارعت الى شجب الفكرة ورفض الاحتفالات بيوم القدس العالمي بأي طريقة وشكل ومن ثم تصعيد الحرب على إيران، مع إلزام الدول العربية التي تخضع لها بالامتناع عن التجاوب مع الدعوة تلك، ظلّ النداء يتردّد في الأرجاء ويلقى الكثير من الأذان الصاغية لدى من آمن بأن فلسطين حق لأهلها الأصليين لا يجوز أن يترك لمغتصبيه.
رغم شراسة الرفض والقمع استمر «يوم القدس العالمي» حاضراً في الساحة الإسلامية والإنسانية يجذب الى فلسطين وقدسها كل من يعيش الحرية في نفسه، ويصبو الى الحقّ لتكريسه، والى العدل لنشره. ثم كانت المقاومة التي رفعت شعار «يا قدس إنّا قادمون» التعبير العملي لهذه لفكرة، مؤكدة وجوب إقران القول بالفعل وترجمته في الميدان حصل في جنوب لبنان، ما أدى الى إخراج المحتل منه عام 2000، وتكرر في غزة عام 2005.
لكن «إسرائيل» وأصحاب المشروع الغربي الصهيو ـ أميركي لم يسلّموا بالحقيقة ولم يتقبلوا فكرة امتلاك القوة من قبل أحد لا ينصاع لإملاءاتهم، فكان الرد حرباً بالقوة الصلبة، ثم فتناً بالقوة الناعمة. رد هدف الى تجريد المقاومة التي انتظمت في محور صلب من إيران الى سورية ومعهما المقاومة في لبنان والمقاومة في فلسطين، خاصة في قطاع غزة، ما أدى الى صراع وتنافس بين مشروعين متناقضتين: مشروع المقاومة لاستعادة الحقوق المغتصبة في فلسطين لأجل بناء شرق أوسط لأهله، ومشروع الاستعمار الرامي الى تصفية القضية الفلسطينية وتثبيت «إسرائيل» على نحو تام في كل فلسطين من دون أن يهدّدها أحد أو يطالبها أحد بحق اغتصبته، وتحويل الشرق الأوسط الى مستعمرة غربية كبرى. وترجمةً للمواجهة بين هاتين الاستراتيجيتين كان «الحريق العربي» الذي أسمي زوراً بـ»الربيع العربي»، وكان هدفه الرئيسي الإجهاز على محور المقاومة والتفرّغ لتصفية القضية.
مستفيدة ممّا أنزل بالعرب والمسلمين من قتل ودمار، فعلت المنظومة الغربية بالقيادة الأميركية أقصى ما في وسعها لاستعجال الاستسلام الفلسطيني والحصول على توقيع يمكّن من تصفية القضية مقابل إلقاء فتات للفلسطنيين يبرر للمفاوض استسلامه، تكرار لما حصل في أوسلو حيث تم الاعتراف بـ»إسرائيل» والتنازل لها عن كل الأرض التي احتلتها عام 1948 في فلسطين وهي 75 من أرض فلسطين التاريخية مقابل وهم سلطة ودولة فرضية. لكن التعنّت والجشع اللذين أبداهما نتنياهو أدّيا هذه المرة إلى رفض حتى إلقاء الفتات أو منح مجرد الأوهام، ما أفضىالى انهيار المفاوضات انهياراً تاماً تحمّل نتنياهو في عين الغرب مسؤوليته.
على خط آخر، كان نتنياهو يتابع ويشارك في إدارة نيران «الحريق العربي» التي تلتهم الإنسان والمكان والتاريخ وتجهز على حضارة الشرق وتنوعه. حرائق وصلت الى العراق عبر وهم «دولة» أسميت «إسلامية» واعتمدت من السلوك كل ما ترجوه «إسرائيل» لتبرير ما تفعله في فلسطين من سعي الى دولة دينية وتهجير غير اليهود واستدعاء يهود العالم الى فلسطين. حرائق رأى فيها نتنياهو أنها باتت كافية لإشغال العرب والمسلمين، أو بشكل أدق لإشغال محور المقاومة عن تصفية القضية بعد الإجهاز على المقاومة الفلسطنية في غزة، مع الاطمئنان إلى ما يحصل في الضفة الغربية من تنسيق أمني بين جيش الاحتلال وشرطة السلطة المنتجة في أوسلو. تنسيق منح «إسرائيل» أقصى ما تطمح إليه من أمن لاحتلالها في الضفة الغربية.
وجد نتنياهو الفرصة سانحة للانقضاض على غزة وتجريدها من سلاح المقاومة. انقضاض يحجب مسؤوليته عن انهيار مفاوضات التسوية، ويخلصه من «الشوكة الفلسطينية « في الخاصرة الجنوبية لـ«اسرائيل»، واستغل نتنياهو ما نفذ في حق المستوطنين الصهاينة الثلاثة من أسر وقتل، وأطلق عدوانه التدميري الاجتثاثي ضد غزة بعدما كان نفذ استعراضاً ترهبيباً في الضفة حيث حصل الأسر.
كان نتنياهو مطمئناً إلى قوة جيشه وقدرته على تحقيق أهداف العدوان في مهلة قصيرة، مع تصوّره أن غزة انسلخت عن محور المقاومة وباتت يتيمة أولاً وأن دولاً غربية وإقليمية انتظمت في محور تدجين المقاومة أو محور إلغاء المقاومة، شجعته على فعلته ووعدته بالتأييد والدعم، إضافة الى الاحتضان الاستراتيجي الغربي بقيادة الأميركية .
في ظل هذه البيئة الاستراتيجية والميدانية والسياسية انطلق العدوان «الإسرائيلي» على غزة، لكن المقاومة فاجأت نتنياهو بما لم يكن يتوقع أو يخطر على باله، إذ أجهزت على آماله، وسفّه محور المقاومة الظن «الإسرائيلي» بأن غزة انسلخت عنه، وكانت المواجهة على الأرض بين المشروعين قاسية ومزلزلة للأحلام والأوهام، ومن دون أن نخوض الآن في ما صنعت المقاومة من معجزات، وما فرضته من معادلات لا تريح منظومة العدوان الصهيو ـ أميركي، نؤثر في يوم القدس أن نحصر الحديث بالهدية الاستراتيجية التي أهدتها المقاومة الى القدس في يومها العالمي السنوي للعام 1435هـ 2014 م ، هدية تمثلت بمنع العدوان من تحقيق أهدافه وتألق مشروع المقاومة ومحورها.
نفذ الرد المقاوم «البنيان المرصوص» أو «العصف المأكول» بمنهجية واحتراف واتقان أنتج لـ«إسرائيل» مأزقاً وكشف في بنيتها عورات وثغراً تتكامل وتفاقم ما ظهر عام 2006 على يد المقاومة في لبنان وهنا نسجل :
تتابع تآكل الهيبة الردعية «الإسرائيلية»، ويكفي أن ندلل على ذلك بما سجلته المقاومة من تحوّل من مبدأ «إضرب وهرب» أو عمليات «نار وفرار» الى نظرية «انتظر والتحم» أو عمليات الترصد والانتظار الذي يتبعه انقضاض والتحام، ما زعزع معنويات العدو وأفهم «إسرائيل» بأنها لم تعد تخيف .
سقوط نظرية المناعة المجتمعية، وهي النظرية التي عملت «إسرائيل» عليها منذ أن زلزلتها صواريخ المقاومة في لبنان عام 2006، وبذلت في سبيلها الأموال الطائلة ونفذت لأجلها الكثير من المناورات مناورات الكيان وأتت صواريخ المقاومة من غزة لترعب الصهاينة وتعطل الحياة لدى أكثر من نصف «الإسرائيليين».
خسرت «إسرائيل» التفرّد بقرار الحرب، إذ أدت المواجهات العسكرية الى إلزامها بدفع ثمن باهظ، وجعلها تدرك أن الذهاب الى الحرب في مواجهة المقاومة ليس نزهة، ولم يعد في وسعها أن تنفرد بقرار الحرب بدءاً وانتهاء، وباتت ملزمة قبل أن تراعي مزاج شعبها الذي يفرض عليها تحديد أو تقييد مستوى التضحيات المقبولة. أما في وقف الحرب فباتت ملزمة بالانصياع لبعض شروط العدو ليقبل بوقف الحرب. وبالتالي باتت هناك معادلة جديدة في مواجهة غزة تشبه المعادلة في مواجهة لبنان وهي أن لا حرب وفقاً لمزاج «إسرائيل» وحدها .
سقط الحلم / الوهم «الإسرائيلي» بانسلاخ غزة والمقاومة الفلسطنية عن محور المقاومة، وأثبتت مجريات الأمور أن المحور متماسك تجمعه فلسطين على أساس غير مذهبي أو طائفي كما تشتهي «إسرائيل»، وهذا ما فهمه من يريد أن يفهم، من خطاب القسم للرئيس الأسد، ومن اتصال السيد حسن نصرالله بمسؤولي حماس والجهاد الإسلامي، ومما حصل في طهران دعماً لغزة وللمقاومة وإدانة للعدوان عبر مؤتمر اتحاد برلمانات الدول الإسلامية .
تتابع السقوط الأخلاقي لـ«إسرائيل»، سقوط كرّسته التظاهرات في أكثر من عاصمة دولية ليس فيها ويا للأسف غير عاصمتين عربيتين، لأن النظام الرسمي العربي يحارب المقاومة ومحورها وهو موزع بين محور تدجين المقاومة ومحور اجتثاث المقاومة . صحيح أن «إسرائيل» لا تعبأ ظاهراً بالرأي العام العالمي وبقواعد القانون والأخلاق، إلا أنها تعرف أن لهذا السقوط مفاعيله السلبية عليها على نحو لن يريحها.
في المجال العسكري والميداني المباشر ورغم انكشاف الكثير من هزال البنية العسكرية، فإننا نكتفي الآن بالإشارة الى الإخفاق الاستخباري الذي يعني سقوط العين «الإسرائيلية» في مسرح العدو وعجزها، والتأكيد على فشل «القبّة الفولاذية»، ما سيحرم الصهاينة من وهم الطمأنينة الكاذبة التي حاولت حكومتهم زرعها في نفوسهم.
سداسيّة السقطات والثغر هذه أنتجتها المقاومة في غزة، التي أكدت ما كانت المقاومة في لبنان قد أظهرته بان «إسرائيل» أدخلت في دائرة عجز القوة، وانقلبت من «القوة القادرة المرعبة» الى «القوة العاجزة المترددة «. وهنا نعود الى أصل الأمور ونقول إن «إسرائيل» التي يستند وجودها واستمرارها الى القوة فحسب، ستعني خسارتها القوة القادرة الكثير، لها وللمقاومة، وستعني الكثير للقدس في يومها العالمي، ما يمكّنها من انتظار موثوق للمقاومين ليدخلوها محرّرين. ولا مغالاة في القول إن مشروع تصفية القضية الفلسطينية لن يمرّ.
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية
البناء
13/5/140725
https://telegram.me/buratha