كما هو حال العراق على طول الخط نقطة التقاء المصالح الإقليمية والدولية، وقبل هذا، مسرحاً للنزاع على النفوذ داخلياً بين مكوناته الاثنية، ورغم القواسم المشتركة وعوامل التهدئة والتقارب، من منطلق أنساني وأخلاقي وديني، بيد أن نزعة الاستئثار يبدو انها سيدة الموقف، والسبب وجود الخيرات الوفيرة في هذا البلد المنكوب بسبب ثروته النفطية الهائلة، وبسبب موقعه الجغرافي المميز في قلب الشرق الأوسط، وفي وسط تجاذبات اقليمية ودولية غاية في الخطورة، حيث نلاحظ لكل بلد من الجوار، ملفه الخاص بمصالحه التي لا تشبه كثيراً مصالح الآخرين، مثل إيران وتركيا والسعودية.
ان سقوط مدينة الموصل بيد عناصر "داعش" في العاشر من الشهر الجاري، كشف أن جميع الأطراف المعنية، من الحكومة في بغداد والسنّة والكُرد، ثم الإطراف الإقليمية والدولية، على محك اختبار القوة، لذا فان الجميع يسعى للهرب من الفشل وعلامات الهزيمة، فيما يعد نفسه الرابح الأكبر في هذه اللعبة.
الحكومة القائدة للجيش
بالحقيقة هذا العنوان، ربما يليق بالحكومة العراقية التي تحمل اليوم، وبشكل قانوني صفة "حكومة تصريف أعمال" بعد انتهاء الدورة البرلمانية السابقة، وخرج جميع النواب السابقون من تحت قبة البرلمان الى اعمالهم السابقة. مع ذلك فان الحكومة ورئيسها نوري المالكي، ما يزال يتسنّم منصب القائد العام للقوات المسلحة، كونه الشخص الوحيد في العراق حالياً القادر على الأخذ بزمام الامور نظراً لتجربته ومعرفته بدقائق الامور، مما يجعل وجوده امراً واقعاً. بيد أن دخول عناصر "داعش" الى مدينة الموصل دون قتال، وسيطرتها على كافة المؤسسات الحكومية والمنشآت العسكرية، يمثل هزيمة واضحة للوحدات العسكرية هناك، كما حصل الشيء نفسه في مدينة كركوك الإستراتيجية، حيث كانت القوات الحكومية متمركزة في محيط المنشئات النفطية في عموم المحافظة، ولمجرد انتشار خبر الزحف الداعشي وتهديد المدينة النفطية، حتى أخلى الجيش مواقعه وانسحب في ظروف غامضة، تاركاً مواقعه لقوات "البيشمركة" الكردية.
التبرير الحكومي لهذه الهزيمة، هو "الخديعة" التي انطلت على القوات هناك من قبل قادة ومسؤولين، وهو ما يؤشر الى وجود خيانة عظمى في القضية يقف على رأسها قادة كبار، ما تزال الحكومة تتحفظ على الاعلان عن اسمائهم بشكل رسمي والمطالبة بمعاقبتهم.
ومنذ حوالي عامين، كانت الحكومة تعتقد أنها بواسطة الجيش تتمكن من لي ذراع المعارضين لها في المكون السنّي، منذ أيام الاعتصامات في الانبار واقتحامها فيما بعد، بيد أن توقف الجيش عند أبواب قضاء الفلوجة بعد السيطرة عليها من قبل "داعش"، كشف ان الجيش ليس ذلك الحصان الرابح دائماً الذي تفوز به الحكومة على مناوئيها. وكان مبرر عدم تحرير القضاء، بعدم التورط في دماء المدنيين، وان التحرير يجب ان يتم على أيدي اهل الفلوجة والانبار انفسهم.
هذه الطريقة من التفكير دفعت "داعش" ومن يقف خلفها لأن تكرر التجربة في الموصل، واحتلالها بسهولة، لاسيما وان المراقبون يرون في الايام الاخيرة لحكومة المالكي ومحاولاته المستميتة لتحقيق الولاية الثالثة، عاملاً اساس دفع بكبار الضباط لأن يتخلّوا عنه، ويتوقفوا عن إطاعة شخص يريد تحقيق اهدافه السياسية من خلالهم.
والنتيجة؛ ان الجيش العراقي الذي أنفقت عليه الدولة المليارات من الدولارات خلال العشر سنوات الماضية في مجال التسليح والتدريب وتوزيع المنح والامتيازات السخية، اذا به ينهار فجأة ويتضح للجميع زيف الايمان بالوطن والمبادئ والقيم، وأن كل شيء كان من اجل المال والامتيازات، الامر الذي تسبب في اهتزاز عنيف في صورة الجيش امام الشعب العراقي.
أما الحكومة فهي تحاول الهرب من الفشل التعبئة الجماهيرية التي فاجأت الجميع بفضل نداء المرجعيات الدينية في العراق، بضرورة النهوض والتوجه الى ساحات التدريب على السلاح والاصطفاف في مجاميع منظمة تحت اشراف الحكومة لمواجهة خطر "داعش" الذي هدد بالوصول الى بغداد.
سُنّة الأزمةأثبتت السنوات الماضية أن المكون السنّي "اجتماعياً وسياسياً" لم يتمكن من التأقلم مع الوضع الجديد في عراق من دون "صدام"، وربما صدمة سقوطه المدوي وبتلك السرعة وظهور نظام جديد لم يألفوه منذ تسعين عاماً في العراق، هو الذي جعلهم يراوحون مكانهم ولا يندمجوا مع الواقع الجديد ويكونوا عنصراً في البناء والإصلاح، الامر جعلهم في دوامة البحث عن مصالحهم بين تنافس اطراف اقليمية مثل السعودية والاردن وقطر، ودولية مثل بريطانيا وامريكا، يُضاف اليهم الجماعات الارهابية – التكفيرية الممولة والمدربة من الاطراف الطامعة بالعراق.
وبالرغم من المحاولات العديدة للتقارب التي ابدتها الحكومة الى جانب اطراف شيعية عديدة، من مرجعيات دينية ومؤسسات ثقافية ودينية، للتأكيد على حسن النوايا وإيصال رسائل تطمين بانهم لن يكونوا سوى جزءاً مهماً من المكون الاجتماعي العراقي، إلا ان المصالح الخارجية كانت اكبر بكثير من مصالح السنّة في العراق، ولا أدلّ على ذلك، المؤامرة الاخير في الموصل، حيث يرى مراقبون إن هذا الاحتلال أريد منه الضغط على المالكي للتراجع عن قراره الترشيح لرئاسة الحكومة للمرة الثالثة، وقد حسب الموصليون وعموم المجتمع السنّي بان هذا سيكون عامل ضغط للحصول على بعض المكاسب.
ويشير المراقبون الى احتمال وجود اتفاق غير مكتوب بان يكون هنالك تعاون واستيعاب لعناصر "داعش" مقابل الحصول على أهم عامل للقوة والاقتدار، وهو النفط، من خلال السيطرة على مصفى "بيجي" في محافظة صلاح الدين، وهو من اكبر المصافي في العراق. بيد ان هذه الخطة تحولت الى مأزق للسنّة، فبدلاً من ان يكونوا رابحين في هذه المعركة، تحولوا من حيث لا يشعرون الى دروع بشرية لـ "داعش" كما حصل في الفلوجة. والنتيجة انعدام الاستقرار والامن وتوقف الحياة الطبيعية. وربما تكون الايام القادمة اكثر سوءاً على السكان المدنيين في المدن التي يسيطر عليها "داعش"، حيث يرى المتابعون إن اندلاع الحرب بشكل متكامل وعلى كل الجبهات، ربما يكون مصير المدن في الموصل والانبار، مماثلاً للمدن السورية حيث الدمار التام والنزوح الكامل والمعاناة والمأساة.
الكُرد النفطيون..!كانت زيارة مسعود البارزاني لمدينة كركوك مؤخراً، في نظر الكُرد، على أنها خطوة اولى نحو تحقيق الانفصال، او على الاقل الحصول على اكبر مكسب سياسي – اقتصادي، لاسيما وانهم اعلنوا انهم حققوا ما كان يريدوه من المادة (140) من الدستور المتعلق بـ "التطبيع" في المناطق المتنازع عليها، وكان الكُرد يصرون على أن كركوك "كردية" ولابد ان تلتحق بكردستان وفق هذه المادة. وما تمخض من الازمة الراهنة، كان فرصة تاريخية لهم لأن يحققوا هذا الحلم.
وحسب الظاهر، فان قوات "البيشمركة" المتواجدة في كركوك، هو لحمايتها من "داعش"، والمبرر الآخر هو انسحاب القوات الحكومية من مواقعها في المدينة، الامر الذي جعل البارزاني والمسؤولين الكُرد يتحدثون عن استماتتهم في الدفاع عن المدينة "بكل ما لديهم من قوة". وهذا ما يعزز الاعتقاد لدى المراقبين، بان "البيشمركة" جاءت الى كركوك لتبقى، مهما كانت نتائج الازمة والتسويات التي تتمخض عنها.
وفي حال اندفاع الاقليم نحو الانفصال، او الذهاب بعيداً في امر استغلال حقول النفط في كركوك بشكل غير قانوني، فان الكُرد سيندفعون من حيث لا يريدون في مأزق سياسي جديد، فهم يعلمون بصعوبة تحقيق حلم الاستقلال، كما يعلمون بحجم الفوائد والامتيازات التي يحصلون عليها من علاقتهم ببغداد. فاذا ذهبوا بعيداً عن بغداد، وحاولوا التصرف بشكل غير قانوني بثروات العراق، فان هذا سيضعهم امام استحقاق قانوني، اذ لا يمكن لأي بلد شراء النفط إلا من البلد نفسه، وليس قطاع طرق او قراصنة – مثلاً- كما سيفتحون باباً جديداً للخلاف مع بغداد. لذا يرى المراقبون ان الكُرد، بهذه الخطوة، سيكونوا على خط الازمة القادمة، فهم سيضطرون لمواجهة الحكومة العراقية والارادة الاقليمية والدولية ايضاً، من اجل الحصول الاموال من النفط العراقي.
سكّان الأزمةدائماً يكون الوضع الانساني اول مخاضات الحروب والمعارك، سواءً الاهلية منها او ما وراء الحدود.. فمصير السكان القاطنين في بؤر التوتر والنزاع، هو النزوح الى الفيافي والبراري وحتى أعالي الجبال، ومواجهة شتى صنوف المعاناة، من جوع وأوبئة وقساوة الطقس والظروف الطبيعية، يضاف اليها الضغط النفسي الشديد.
كل الشواهد دالة على أن هؤلاء السكان، هم أول المتضررين والخاسرين من هذه الازمة، فهم يدفعون ثمن شيء لم يحصلوا عليه، أو لا علاقة لهم به.. وحسب مصادر في الأمم المتحدة فان حوالي نصف مليون شخص تشردوا من مدينة الموصل واطرافها بعد احتلال "داعش". والمثير في الامر أن وزارة الهجرة والمهجرين العراقية، والمنظمة العالمية للهجرة، يتفقان على صعوبة إيصال مواد الاغاثة والمساعدة للمتضررين من المواجهات في ساحة الحرب.
وحسب "ماندي الكسندر"، منسقة المساعدة الطارئة للمنظمة العالمية للهجرة في بغداد، ان "المنظمة العالمية للهجرة وبرنامج الغذاء العالمي واليونيسف، قادرة على توزيع مساعدات لحوالى 10 الاف شخص هذا الشهر، لكن هذه نقطة ماء في بحر، حيال عشرات الآلاف من الاشخاض الذين هربوا من المعارك في الموصل وتلعفر وتكريت وعلى الطريق الجنوبي لبغداد".
واضافت المتحدثة باسم المنظمة العالمية للهجرة ان "الوسيلة الوحيدة لتلبية" حاجات النازحين، هي "فتح ممرات انسانية"، كما يؤكد العاملون في مجال المساعدة الانسانية. واوضحت ان المنظمة العالمية للهجرة تطلب من جهة اخرى اعلان المدارس والمساجد والمستشفيات "اماكن محايدة وآمنة" حتى يتمكن النازحون من اللجوء اليها.
وللمنظمة العالمية للهجرة طاقم من (250) شخصا بمن فيهم عراقيون في العراق، وتقول ان (240) ألف نازح يحتاجون الى مساعدة في (240) قرية.
هذا ما يتعلق بمن نجوا بأنفسهم من نيران المعارك، أما الذين لم يتمكنوا من الهرب، بمن فيهم النساء والاطفال، فانهم اصبحوا طعمة لسكاكين التكفيريين، حيث تعرضت دور عديدة في "طوزخورماتو" جنوب كركوك، لاقتحام "داعش"، وتم ذبح اطفال رضع، ونساء بعد اغتصابهن.. وقد تناولت وسائل الاعلام مشاهد مريعة صورتها الجماعة الارهابية نفسها، وهي تقوم بقتل جماعي لمدنيين بدم بارد في اكثر من مكان يستولون عليه.
الكيان الصهيوني.. اكبر المستفيديناذا كانت هنالك حالة نسبية في الربح والخسارة لأطراف الازمة الرهنة في العراق، فان المراقبين والمتابعين للحدث العراقي، يجدون ان "اسرائيل"، تعد نفسها الرابح الاول من احتلال "داعش" للموصل، ثم سيطرة الكُرد على كركوك. وأول نقطة امتياز يمكن ملاحظتها، الإشهار امام وسائل الاعلام عن وجود علاقات متينة بين الكيان الصهيوني والكُرد، وهذا ما تطمح اليه ما يسمى بـ الدولة العبرية دائماً مع من تريد اقامة العلاقة الناجحة معه، كما حاولت فعل الشيء نفسه مع الموارنة في لبنان، عندما حاولت الضغط عليهم عام 1982، لاعلان الاعتراف باسرائيل، أسوة بمصر، لإنهاء حالة العلاقات السرية.
وخلال لقائه بالرئيس الامريكي باراك اوباما، حثّ رئيس جمهورية اسرائيل "شمعون بيريز، على عدم دعم الاستقرار السياسي في العراق، وترك الامور تسير وفق المخطط له، وقال للصحفيين إنه أبلغ أوباما، انه "لا يرى توحيد العراق ممكنا بدون تدخل عسكري خارجي كبير، وان هذا يؤكد انفصال الكورد عن الأغلبية الشيعية والأقلية العربية السنية".
وقد أكد نفس الخطاب، وزير خارجيته "افيغدور ليبرمان" خلال لقائه نظيره الامريكي جون كيري في باريس الخميس الماضي عندما ابلغه: "العراق يتفكك أمام أعيننا وسيتضح أن اقامة دولة كوردية مستقلة أمر مفروغ منه". وهذا بدوره يبين مدى التخبط والازدواجية الامريكية في التعامل مع الازمة. حيث يبين النفاق والمراوغة الامريكية اكثر من اي وقت آخر، فهو يحادث الكُرد وايضاً الشيعة والسنة مطالباً إياهم بالإسراع في تشكيل حكومة تمثل الجميع. ثم يتضح انه إنما يجري "حوار الطرشان" لاسيما في كردستان!.
والحقيقة؛ هنالك خاسرون ورابحون بنسب متفاوتة من وراء الازمة الكارثية التي حلّت بالعراق، لاسيما وان الخطاب الاعلامي والسياسي المتشائم يردد أن العراق لن يعود الى ما قبل احتلال الموصل من قبل "داعش"، وانه مقبل على خارطة سياسية واجتماعية جديدة، تشتبك فيها مصالح عديدة في الداخل والخارج، من المصالح الإيرانية والسعودية والتركية وحتى السورية. لكن مع كل ذلك، فان الوضع الداخلي في العراق، هو ايضاً بامكانه تغيير مسارات الازمة او التأثير عليها – على الاقل- لاسيما عندما يتفاجأ العالم بالتحشيد الكبير للشعب العراقي لمواجهة "داعش". واصطفافه في خط واحد وترحيل الخلافات السياسية والشخصية امام العدو المشترك. واذا ما حصل تطور ايجابي في العملية السياسية، فانه سينعكس فوراً على مجرى الاحداث، اذ يتوقع المراقبون تسوية سلمية للأزمة بين بغداد والمكون السنّي بشكل عام في العراق، يعزز من قوة الحكومة القادمة أمام الكُرد الذين فرضوا امراً واقعاً على العراق برمته.
،،،،،،،،،،،،،،،،،
عن قناة الأتجاه الفضائية
24/5/140629
https://telegram.me/buratha