كوثر العزاوي ||
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يُريدُ الله ليُذهبَ عنكم الرّجسَ أهلَ البيتِ ويطهّرَكم تطهيراً}.
وإنّ من أهل هذا البيت، الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين"عليه السلام" الذي نلتقي بذكرى وفاته في كل عام في الخامس والعشرين من شهر محرَّم الحرام. وعندما نعيش مع ذكرى هذا الإمام بمعنى أنّنا نقف في محطة حسينية رسالية أخرى، لننفتح على آفاقٍ واسعة من الإمامة التي تنوَّعت أبعادها وعاشت من أجل أن تملأ عقول الناس علمًا، وأرواحهم هدى، وحياتهم خيرًا واستقامة، لِما مثَّله هذا الإمام المعصوم من شخصيّة إسلاميّة وإنسانيّة وإماميّة بارزة في تنوّع عطاءاتها وحضورها في مرحلة لازال مَعينها رقراق لاينضب، فلم ولن تُضعفه مأساة كربلاء عن القيام بدوره، فنهض بالحقّ وملأ الدنيا علمًا وتقوى ومعرفة، وقد ذكر بعض الذين كتبوا عن سيرته، أنه روى عنه الفقهاء من العلوم ما لا يُحصى كثرةً، وحُفظ عنه من المواعظ والأدعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيام ما هو مشهور بين العلماء، وما زبور آل محمد "الصحيفة السجادية" سوى شاهد بين ايدينا الى يومنا هذا! لم تمنعه ذكرياته عن المأساة العظيمة من أن يتحرك برسالته من خلال مسؤوليته مدة إمامته"عليه السلام" بل رفَدَ الحياة بمعانٍ معرفية عرفانية، علمية وروحانية حتى بلغ التغيير على صعيد الأمة والفرد،
كما كان الإمام السجاد"عليه السلام" رائدًا من خلال موقع القدوة الأخلاقية الحسنة التي ترتفع وتسمو إلى مستوى القمة والمعنوية،
وإذا أردنا الدخول إلى عمق حياة هذا الإمام، فإننا نجد أنه عاش مع أبيه الحسين"عليه السلام" وكلّ الصفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه، فشهِد ملحمة عاشوراء الرسالة والقضية، مستوعِبًا أبعادها محتويًا كلّ ما طرحه الإمام الحسين القائد المعصوم من إشارات، كرسالة إصلاحية في حركة الواقع الذي أراد أن يغيّره بكل العناوين والأهداف الإلهية السامية، ليرتفع بها إلى الله، وليؤكّد حقيقة الإنسان ومعنى إنسانيته في مسألة العزّة والكرامة المنطلِقة من أصل العبودية لله "عزوجل" في مسار التحدّي للظالمين! هكذا عاش الإمام زين العابدين كربلاء في كلِّ فصولها، كما عاش المأساة في كل مواقعها التي لا مأساة تتجاوزها! ونحن إذ نتخطّى ذكرها كونها الحقيقة المبيَّنة تفصيلًا شاهدًا في عمق التاريخ فضلًا عن بطون الكتب!
لقد حضر الإمام زين العابدين "عليه السلام"واقعة كربلاء، وشاهد مصارع أبيه وإخوته وأعمامه، وقد أقعده المرض آنذاك عن القتال ليُبقيه الله تعالى منارًا للإسلام ليُكمل مسيرة جده وأبيه، وحتى لا تخلو الأرض من حجة، فهو لم يترك مناسبة دون أن يذكّر بالمصائب التي حلّت بأهل البيت، وأنهم حملة الاِسلام وأركانه، وابواب الله وبنيانه
في عملية تحفيزية لإلهاب الشعور بالاِثم الذي أشعل قلوب الناس عَقِب مقتل الحسين"عليه السّلام" وأهل بيته واصحابه، لتفقهَ الأمة عظيم تقاعسها عن نصرة آل محمد ، وموقفهم المتخاذل من إمام زمانهم! وقد ذكر المؤرخون، أنَّ المدينة قد انقلبت على يزيد وحاربت الأمويين وتوالت الثورات حتى زعزعت أركان الحكم الأموي وأسقطته في نهاية المطاف، علاوة على الموقف الشجاع الجريء الذي أثبتهُ إمامنا السجاد "عليه السلام" عندما دخل مجلس ابن زياد "لعنه الله"رغم علّته وقد أومأ إلى الناس أن اسكتوا، فسكتوا، كما تثبُت الروايات، فقام قائمًا فحمد الله واثنى عليه وذكر النبي وصلى عليه، فخطب خطبته العصماء معرِّفًا بنفسه ونسَبهِ، فألقى الحجة البالغة على الناس بما فيهم جبابرة بنو أمية حتى أذهلهم!! مما يدلّ على أنّ أهل البيت"صلوات الله عليهم" ذرية بعضها من بعض من حيث الشجاعة والإقدام في نصرة الحق والدفاع عن الإسلام، وليس كما تُظهره بعض القصص، على أنّه دخل مجلس ابن زياد محنيّ الظهر منكسرًا، مما لاينسجم وحقيقة آل محمد عند مواجهتهم الطواغيت، ويأبى الله إلّا أن يتمّ نورهُ، نورٌ بعد نور وصالح بعد صالح وصادق بعد صادق حتى يبلغ النور ذروته فيقف عند قطب محور الوجود الإمام الغائب المنتظر "عجل الله فرجه الشريف"! ومن هنا، يتّضح السرّ من بقاء الإمام السجاد عليلًا في يوم الطف ليكشف عن حكمة إلهية قد لايسعنا خوض غمار بحرها الزخّار ونحن نتأمّل ذلك التراث الثَّر في بيان الدفاع عن النهج القويم مقابل ما يهدّد من الأخطار الكبيرة، الفكرية منها والاجتماعية والعسكرية؟!!، فإذا ما واجه الإسلام خطرًا يهدّد التوحيد المتمثّل بكلمة "لا إله إلا الله" أو الرسالة المتجلّية في "محمد رسول الله" قطعًا أنّ الإمام يتجاوز كل الاعتبارات ويهبّ للدفاع عن هذَين الركنَين ولو كان على حساب وجوده! ومن هذا المنطلق، نجد أنّ الإمام السجاد آنذاك هو الراعي الإلهي، المسؤول عن الأمة والرعية، فكرّس حياته بالحفاظ على وجود الإسلام الذي هو من أهم واجباته التي يلتزمها مدة إمامته "عليه السلام"، فضلًا عن رعاية شعائر ذلك النهج، واستمرار مظاهره، ومتابعة مصالحه العامة، وتقديمها على غيرها من المصالح الخاصة، وعندما نجد الإمام زين العابدين"عليه السلام" كيف كان يَبكي ويُبكي ويَعدّ مجالس العزاء، لم يكن على نحو الجزع أو الذلّ والاعتراض قطعًا، إنما لتدرك الأمة معاني كربلاء اولًا، ولكي يلفتَ النّاس إلى مأساة عاشوراء، لكي تبقى مدى الزمان رسالة مقرونة بالعاطفة الواعية، وذكرى للذّاكرين، وعبرةً للمعتَبرين، فكان "عليه السلام" أوَّل من خطَّط لانطلاقة الدمعة في ذكرى الطف التي نعيش فيوضاتها هذه الأيام، لتعمّق الوعي، في فكرةٍ تتحدى كل من يريد النيل من الشعائر الحسينية من خلال التوهين والتهوين، فتُصدَم مخططاتهم بحقيقة حية نابضة يترجمها الواقع الحسينيّ الإنساني، بانّ {عاشوراء الحسين "عليه السلام" عِبرة وعَبرة، ودمعة وفكرة}.
٢٥-محرم- ١٤٤٥هج
١٣-٨-٢٠٢٣م
https://telegram.me/buratha