رياض البغدادي ||
بسم الله الرحمن الرحيم
«ولَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ(63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ(64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ(65)» سورة المؤمنون
في الوسع قولان :
الأول . إنه الطاقة عن المفضل .
الثاني . إنه دون الطاقة، وعلى ذلك بُنيت أحكام صلاة الجالس، لمن لايستطيع عن وقوف وغيرها من أحكام .
وأما قوله تعالى: " وَلَدَيْنَا كِتَابٌ ينْطِقُ " النطق هو إعراب مافي النفس من كلام، وكذلك الكتاب المكتوب يعرب ما فيه . أما لمن يعرب ( ينطق ) ؟ فلو كان ينطق لمن جوَّز الكذب على الله، فلا فائدة من الكتاب إذن، وكذا لا يفيد الكتاب من استحال الكذب عليه تعالى، فهو ليس في حاجة للكتاب ليُصدِّق ... وإنما ذلك من مشيئة الله، ولايبعد أن يكون ذلك مصلحة للمكلفين من الملائكة . وقد يكون النطق استعارة عن الوضوح والبيان .
وأما قوله تعالى :" لَا يُظْلَمُون " ،قالوا إما أن يكون الظلم بالزيادة في العقاب، أو النقصان من الثواب، أو يُعذب على ما لم يعلم، أو تكليفهم ما لا طاقة لهم عليه، فنفى الظلم عن كل ذلك .
قوله تعالى: " بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا "، وفيه قولان :
الأول . إن ذلك راجع الى الكفار، وهم الذين يليق بهم ذلك .
الثاني . إن المقصود بهم هم المؤمنون المشفقون الذين لا يعلمون قبول أعمالهم أو ردها، فهم متحيرون، قلوبهم في غمرة من الخوف والوجل .
قوله: " حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ ... " مترفوهم هم من تقدم ذكرهم من الكفار، والعذاب فيه قولان:
الأول. أراد العذاب الذي نزل بهم يوم بدر .
الثاني . إنه عذاب الآخرة حيث سيجأرون من شدته .
وذكر تعالى: " لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ " كنوع من الردع الذي قد يُرجِع الكافر عن كفرهِ، ولا يجعل نفسه تقف ذلك الموقف العصيب يوم القيامة .
والله العالم
ورد في الأثر عن صالح النيلي، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام): هل للعباد من الاستطاعة شيء ؟ قال: فقال لي: " إذا فعلوا الفعل، كانوا مستطيعين بالاستطاعة التي جعلها الله فيهم ".
قال: قلت له: و ما هي ؟ قال: " الآلة، مثل الزاني إذا زنى، كان مستطيعا للزنا حين زنى، و لو أنه ترك الزنا و لم يزن، كان مستطيعا لتركه إذا تركه.
قال: ثم قال: " ليس له من الاستطاعة قبل الفعل كثير و لا قليل، و لكن مع الفعل و الترك كان مستطيعا ".
قلت: فعلى ماذا يعذبه؟ قال: " بالحجة البالغة، و الآلة التي ركبها فيهم، إن الله لم يجبر أحدا على معصيته، و لا أراد- إرادة حتم- الكفر من أحد، و لكن حين كفر، كان في إرادة الله أن يكفر، و هم في إرادة الله، و في علمه، ألا يصيروا إلى شيء من الخير ".
قلت: أراد منهم أن يكفروا؟ قال: " ليس هكذا أقول، و لكني أقول: علم أنهم سيكفرون، فأراد الكفر لعلمه فيهم، و ليست هي إرادة حتم، إنما هي إرادة اختيار ".