قاسم العجرش ||
لم تكن تكريت التي تبعد عن بغداد 157 كيلومترا، وعن سامراء 34 كيلومترا، مدينة مهمة في محيطها، بل كانت سامراء على الدوام ولعدة قرون، عاصمة للدولة العباسية، وحاضرة أهمَّ منها بكثير، وحينما تشكلت الدولة العراقية الحديثة، كانت تكريت وسامراء وبيجي وصولا إلى الشرقاط، جزءا من لواء بغداد، وقبلها جزءا من ولاية بغداد في عهد الاحتلال التركي (العثماني) للعراق، والذي استمر من عام 1534م إلى 1920م.
تكريت التي كانت قرية أقرب منها إلى قصبة، ولم يصح أن توصف كمدينة، إلا في أواسط القرن الماضي، لم تلعب أدوارا مؤثرة في الحياة العراقية، ولم تكن مستقرا حضاريا كبابل أو أور أو آشور أو ميسان، فقد كان سكانها مختلطي الأصول، من العرب البدو والأتراك والكرد وبقايا المسيحيين السريان، وكانوا يعملون في زراعة الخضار على شواطيء دجلة، لكن ما إن تبتعد عن حوض النهر مسافة أقل من مائة متر إلا وتبدأ الصحراء، بكل قسوتها وجلافة ووحشية البشر القلائل، المتفرقين الذين يعيشون فيها..
تكريت لم تكن مدينة تضج بالحياة يوما، وسكان تكريت وما حولها لا يمكن عدُّهُمْ حَضَرًا متمدنين، كما لا يمكن وصفهم بأنهم فلاحون، مثلما لا يمكن اعتبارهم بدوا..إنهم أفضل مصداق لرؤية علي الوردي الثاقبة، في ازدواجية الشخصية، وهذا مجرد وصف واقعي وليس اختلالا، هم خليط هجين من هذا ومن ذاك، مثل أصولهم الهجينة؛ والحقيقة أن هذا الوصف ليس عارا أو مَثلبة، لكن التوصيف ينفع في التوصل الى حقائق دورهم السلبي في الحياة العراقية، خصوصا في القرن العشرين.
الدولة العراقية الحديثة تكونت وهي تحمل عقيدة طائفية، فالملك العربي المستورد من الحجاز، اعتمد في بناء دولته على السنة، وعندما تشكل الجيش العراقي عام 1921، لم يضم ضابطا شيعيا واحدا، بل كان جميع ضباطه من السنة ومن بقايا الجيش العثماني، وحينما وجدوا أن هذه مشكلة، سموا أول فوج لهذا الجيش باسم “فوج موسى الكاظم” في محاولة لإعماء حقيقة طائفية الدولة العراقية..
بدأ تسلق تكريت إلى مفاصل الدولة مع هذا التوجه، وما إن حل العام 1963 عندما أزاح أحمد حسن البكر التكريتي؛ زعيم ثورة 14 تموز عبد الكريم قاسم..ومنذ ذلك التأريخ ركب التكارتة قارب السلطة، الذي أبحروا فيه بنهر من الدماء..دعونا نستعِدْ صورة نهر دجلة، حينما اصطبغ بلون الدم في قصر صدام التكريتي في تكريت..
40 عاما كانت دولة العراق تحكم بعقلية القرية التائهة الانتماء، التي لا تعرف وسيلة لتثبيت وجودها إلا الدماء، وحتى الذين حاولوا تغيير نظام الحكم، سلكوا نفس المسلك..الدماء، وكانوا من جسم هذه القرية، وأغلب الانقلابات كان يقودها ضباط تكارتة!
حينما حصل التغيير الكبير في نيسان 2003، فوجيء التكارتة بزوال سلطان لم يغادروه لقرابة قرن من الزمان، وكان صعبا عليهم الرضوخ للأمر الواقع، وتصديق أن أنموذجهم الذي يفتخرون به، كان قد أخرج للتو من حفرة، وأن رجالاتهم يقفون أمام المحكمة الجنائية العليا، ويُحاكمون عمَّا اقترفوه من جرائم، نشير الى أن تكريت استقبلت الفاتح الأمريكي بحفاوة، وسلمته مفاتيحها بحفل رسمي، ولم يطلق التكارتة إطلاقة واحدة على المحتل..
كانت لذة السلطة لا تفارق أفواههم، ولذلك مدوا جسور التعاون مع المحتل، علهم يستعيدون بعض عزهم المفقود، وحينما أنشأ المحتل الأمريكي التنظيمات الإرهابية لتركيع الشيعة الرافضين للاحتلال الأمريكي، فالقاعدة وجيش محمد وجيش النقشبندية وجيش عمر وغيرها، كانت مادة هذه التنظيمات وقوتها القتالية الرئيسية، متكونة من الضباط التكارتة الذين كانوا يقودون أجهزة الطاغية صدام القمعية، وهم يمتلكون خبرة هائلة بالقتل وإنتاج الدماء.
جريمة جنود قاعدة سبايكر، التي ارتكبها التكارتة، يجب أن نفهمها في هذا السياق، وليس في أي سياق آخر.
كلام قبل السلام: تكريت مدينة آثمة..!
سلام….
https://telegram.me/buratha