محمد مكي آل عيسى ||
بسبب الاختلاف في الطبيعة البشرية تتفاوت الناس في توجهاتها وشخصياتها ويظهر ذلك واضحاً في بعض الأفراد , فنرى أن فلاناً عنده حسٌّ فنّيٌّ يقدِّر الجمال منذ طفولته وذاك نراه محارباً والآخر نراه سارحاً حالماً في الخيال وذاك جادّاً عاملاً صبوراً وهكذا .
وأيضاً فإن من أفراد البشر من يحب أن يعيش في الظل بعيداً عن الأضواء غارقاً في الهدوء ومنهم من يحب أن يتميز ويشتهر ويصارع الظروف محفوفاً بضوضاء لا تنتهي .
وبالتأكيد لن يصبح الكل مشهوراً معروفاً تتسلّط عليه الأضواء لأن ذلك يحتاج إلى مقومات وجهد وتوفيق وهذا ما لا يتوفر للجميع , و هذا الظهور للبعض جعلهم تحت مرأى من الناس ومسمع فيتميزون ويشتهرون .
ثم أنهم يختلفون في سبب تميزهم وشهرتهم فمنهم من اشتهر بسبب ظلمه , رذالته , ودناءته ومنهم من اشتهر بفضائله ومكارمة وبما أن الفضائل أمر تميل اليه فطرة الإنسان بالطبع , فإن عامّة الناس يتخذون الأفراد المشهورين بفضائلهم ومحامدهم قدوة يقتدون بها ويحاكون أفعالها وأخلاقها وتدريجياً تتحوّل بعض الشخصيات الى رموز بل وتصبح رموزاً مقدسة على مرّ السنين يتأسّون بها ويفتخرون بها ويروون عنها القصص . . فمثلاً كان عنترة بن شدّاد رمزاً للشجاعة وحاتم رمزاً للكرم واعتبر بعضهم جيفارا رمزاً للنضال , وبساطة الكثير من الناس تجعلهم يميلون لاتخاذ الرمز والقدوة بطبعهم من جهة ولحاجتهم لذلك من جهة أخرى.
فالذي لا يمتلك الروح القيادية فهو بالتأكيد يحتاج لمن يقوده فعلياً أو رمزياً , يقول أحد الباحثين بهذا الشأن أن 2% من الناس من لهم الروح القيادية بفطرتهم والباقي لا يمتلك تلك الروح فيحتاج من يقوده , يحتاج لمن يسير على خطاه.
وبنفس الوقت فإن الناس اختلفوا على بعض الرموز والشخصيات فمثلاً هتلر يراه البعض رمزاً للقائد العسكري المحنّك القوي الشجاع ويراه البعض الآخر رمزاً للقتل والدمار والوحشية فالناس تصيب وتخطئ فيما ترى , وكل يرى من زاويته.
ولأن الله عليم بالسرائر وبذات الصدور ولا تخفى عليه خافية ولطيف بعباده لا يريد لهم إلّا الخيرفقد تكفّل أن لا يضع الإنسان في حيرة من الرمزية و في دوّامة اختيار القدوة فيبقى تائهاً يسأل أي الرموز أجدر أن يُتَّخَذ وكيف يميّز حقّيّة هذه الرموز.
فتكفّل الله جلّ وعلا بذلك وبيّن لنا أبعاد هذه الرمزية وكيف تتحقق في الفرد , وعيّن لنا رموزاً حقيقية لا تقبل الجدل للتأسي بها وليمثّلوا الصورة الأصيلة للنوع الإنساني تلك التي على جميع الأفراد أن تسعى لأن تكون مثلها .
فالأنبياء صالح بعد صالح وأوصياؤهم وليٌّ بعد وليّ كانوا يمثلون قمماً في الفضائل الإنسانية لا يدانيهم أحد في ذلك , حتى وصل الأمر الى النبي الخاتم وأوصيائة فكانوا هم "الْمَثَلِ الْأَعْلَى وَالدَّعْوَةِ الْحُسْنَى وَحُجَجِ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْأُولَى"
ولم يخترِ البارئ جل في علاه هؤلاء ليكونوا رموزاً بشكل جزافي أبداً , وإنما توفرت عندهم جميع الكمالات الحقيقية وظهرت منهم على أرض الواقع ولمسها الناس منهم .وكانت تلك الكمالات عندهم في أعلى المستويات من غير تذبذب فضلاً عن تراجعها أو تخلّفها فيهم كما أن التاريخ لم يسجل عليهم أي زلّة أو هفوة أبداً بمعنى أن تاريخهم أبيض لم يتلوّث بشيء.
فعندما تذكر أحدهم تحتار بمَ تذكره من حميد الصفات وفضيل الشأن . . فإذا كان حاتم قد اشتهر بالكرم وعُرِف به وكذا عنترة بالشجاعة فبماذا اشتهر علي بن أبي طالب ؟؟ بشجاعته أم بزهده ؟؟ ببلاغته أم بإخلاصه ؟؟
نعم فالرمز الإنساني الحقيقي لا تجد مكرمةً الّا وقد اعترفت بتجسيده لها وما من فضيلة الّا وتشرفت بحمله لها , "إِنْ ذُكِرَ الْخَيْرُ" كانوا "أَوَّلَهُ وَأَصْلَهُ وَفَرْعَهُ وَمَعْدِنَهُ وَمَأْوَاهُ وَمُنْتَهَاهُ" .
وبالتالي أغلق الله على الناس باب الإحتجاج والقاء المعاذير على من لايريد اتباعهم والتأسّي بهم.
و بعد هذه الرموز الإنسانية الحقيقية يأتي من تبعهم وسار على هديهم مستنيرأً بنورهم مسترشداً بسيرتهم من علماء ومراجع وصالحين وأبرار.
نعم فالصالحون من عباد الله بالإمكان أن يكونوا رموزاً صالحة حقّة ماداموا سائرين على نهج الرموز التي نصّبها الله وللناس أن يقتدوا بهم ما داموا على طريق الهدى وإن لم يكونوا معصومين وإن لم يكونوا أصحاب كرامات أو نزل نصٌ بشأنهم , فمسيرتهم ومواقفهم وفضائلهم هي التي تحكي عنهم وهي التي تبرر التأسي بهم والسير على هداهم ماداموا على نهج أولياء الله.
وفي المقابل فإن الشيطان وجنوده لا يرتضون ذلك ولا يسرّهم أن يتخذ الناس الرموز الإنسانية الحقيقية للتأسي والاقتداء بها فعمدوا لمنهاج تدميري يستند على عزل الناس عن الرموز الحقيقية من الأنبياء والأولياء وأتباعهم والتذرّع لذلك ببعد المسافة الزمنية والتطور الحاصل للبشرية خلال هذه السنين متناسين أن الكمالات الإنسانية لا يغيرها الزمن مهما طال وإن التطور الذي حصل إنما هو في المجال التكنولوجي والصناعي لا في مجال تكامل النفس الإنسانية وفضائلها.
بل تعدّاه الى الطعن والاستهزاء بالرموز الحقيقية ومعتقداتها ومعيشتها والاستخفاف بها لتشوية صورتها عند الناس ومن ثم محاولة خلق رموز بديلة لتحل محل الرموز الحقيقية .
والرموز البديلة تلك التي تخلقها قوى الإستكبار العالمي بواسطة ماكنتها الإعلامية الضخمة والمهيمنة هي رموز هجينة لها جانب واحد من جوانب الكمال الحقيقي أو لها فضيلة واحدة يقوم الإعلام بتضخيمها والتطبيل لها ليل نهار متغافلاً عن الجوانب السيئة في نفس الشخصية ومتناسياً التاريخ المظلم الذي تحمله هذه الشخصية مثلاً أو مواقفها المشينة وصفاتها المعيبة والّتي بسببها لا تستحق أن تكون رمزاً إنسانياً أبداً.
نعم فسياسة الإعلام هي النظر بعين عوراء محاولةً منه لطرح رمزٍ لا إنساني على الساحة بديلاً عن الرمز الحقيقي ومن يسير على خطاه.
ولم يشهد التاريخ حرباً شنّها الإعلام الشيطاني أشد ضراوة من الحرب تجاه منهج أهل البيت ع وأتباعهم فما إن تمّكن معاوية من الشام التي كان قد تم تنصيبه عليها حتّى سخّر المنابر لسبِّ عليِّ بن أبي طالب ع وبعدها توجه الإعلام نحو الحسن ع لينعته ظلماً بأنه مُذِلِّ المؤمنين وما إن استشهد الحسين ع حتى نعته ظلماً بأنه خارجيٌ خرج على إمام زمانه.
وما أشبه اليوم بالبارحة. . والشيطان هو الشيطان . . فلما كانت المرجعية تمثّل رموزاً مقدسةً تسير على نهج الحقِّ وأهله , طالتها سهام الإعلام محاولةً أن تشوه صورتها أمام الناس , فتلك الصحيفة تنشر رسماً يتطاول على المرجع الأعلى في النجف الأشرف وبعدها بأيام نرى من يحمل صورة تسيء الى قائد الثورة في إيران . . . وفي المقابل نرى وسائل الإعلام تروّج لشخص يدّعي المرجعية بشكل يثير الاشمئزاز ليجعلوا منه رمزاً بديلاً للمراجع الأعلام.
إن القوى الشيطانية تعتقد أنها ستفلح عند معاداتها للحقّ ولا تعلم أن معاداة الحق أمر خائب وفق نظام كوني لا يتغير ولا يتبدّل "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ"
ومن هنا يأتي دور أنصار الحق في الدفاع عنه وأن لا يعوّلوا على السنة الإلهية فحسب وإنما عليهم أن يبذلوا قصارى جهدهم لبيان الرموز الإنسانية الحقيقية من اللاإنسانية الهجينة الباطلة لعامّة الناس وبسطائهم ويرفعوا عنهم حجب الإعلام المضل وإفتراءاته , فالسنّة الإلهية إنما تعمل عندما يكون لنا نحن دور بتفعيلها وأن يبقوا الدرع الواقي للرموز الإنسانية الحقّة . . حتى يأتي الله بأمره وتشرق الأرض بنور ربها وهنالك يخسر المبطلون.