مؤيد بلاسم
في بداية تقديمي للدراسات العليا في جامعة RMIT عام ٢٠١٥ كان لدينا امتحان كفاءة لغة صعب جداً، واحتياطاً للامر قررت أن ادخل معهد لغة لتقييم كفائتي للغة الإنجليزية تطبيقا للمثل العراقي (أتحزم للواوي بحزام سبع).
دخلت للمعهد يوما واحداً فقط بعد ان اكتشفت من خلال الاختبار إن مستواي جيد.
ولأنني دفعت مبلغ الدراسة الخاص بذلك اليوم، قررت ان أستفيد من المعهد لمدة يوم واحد على أقصى ما يمكن، فدخلت لقاعة كان يدرسون فيها الكتابة الأكاديمية بالانجليزية.
كان موضوع ذلك اليوم كتابة انشاء عن يوم الانزاك دي، وهو يوم تحييه استراليا ونيوزلاندا منذ قرن من الزمان احتراماً لضحايا حرب الانزاك حين اشتركت استراليا ونيوزلاندا في الحرب العالمية الاولى جنبا إلى جنب مع أمهم الثقافية بريطانيا ضد الدولة العثمانية ( الأم الثقافية لأمة داعش!!)
وتعرفت من خلال كلام المتداخلين والطلبة والاستاذة الأسترالية بريطانية الأصل تفاصيل كيف قتل أكثر من ٢٦٠٠٠ جندي استرالي ونيوزلاندي في تلك المعركة.
حيث إن مقاتلي الكومونولث حاولوا احتلال القسطنطينية من خلال اقتحام جبال غاليبالدي في تركيا لدخول عاصمة خلافة العثمانيين وإعلان الانتصار.
لكن سوء تقدير القائد الإنكليزي (ونستون تشرشل) جعله يهبط بجنوده على سفح جبل كان الأتراك قد تحصنوا فوقه جيدا وبداوا في اقتناص الجنود الإنكليز بكل سهولة.
بعد ان انتهت المعركة بانسحاب جيوش بريطانيا واستراليا ونيوزلاندا أقيمت مراسم دفن عسكرية لائقة للضحايا وتم تخصيص يوم عطلة رسمية في استراليا ونيوزلاندا احتفاءً بأولئك الضحايا.
تشمل الاحتفالات كل المدارس الأسترالية والمؤسسات الحكومية والاجتماعية وتظهر مسيرات شعبية واجتماعية أحياءً للذكرى وتفتخر مدن استراليا بضحايا الانزاك دي وتعلق صورهم في الشوارع وعلى البنايات الرئيسية وتوزع منتجات خاصة بالمناسبة ويرمى الورد على نصب الجندي المجهول.
حين وصل الي الدور في قراءة الإنشاء طلبت ان أقف على المنصة وخطبت فيهم عن سبايكر.
قلت لهم إن قاعدة سبايكر قاعدة عسكرية عراقية في أرض عراقية يتم فيها تدريب مجندين عراقيين بعمر الورود لأجل الدفاع عن بلاد قيل لهم إنها وطنهم الواحد.
حين سقطت الموصل بيد تنظيم داعش صدرت أوامر للمجندين من قبل ضباط معسكر التدريب بأن ينزلوا لأهلهم مجازين وإن الطريق مؤمن وإن عشائر مدينة تكريت تعهدت بحمايتهم.
بدون تامين رسمية حماية للمجندين نزلوا في أرض تكريت اعتمادا على وعود بعض وجهاء المدينة وشيوخ عشائرها التي تزعم إنها عربية لديها قيم الجيرة وحماية الدخيل واغاثة الملهوف وباعتبار إنها مدينة عراقية يسكنها عراقيون كما يقال لنا ولهم.
استقبلهم مدنيون من تكريت واعطوهم الأمان وأخبروهم إنهم سيرسلونهم الى مرآب تكريت بغداد ومنه الى أهليهم.
لكن بدلا من ذلك تم اقتيادهم الى قصور رئاسية واحتفلت صفحات الفيسبوك بأسر وتعذيب أكثر من ١٧٠٠ من المجندين العراقيين العزل ووصفت وسائل الإعلام الخليجية ذلك بان ثوار عشائر تكريت أسروا جنود جيش المالكي.
وفي مشهد خال من المروءة والأخلاق أعدمت وحوش تكريت المتحالفة مع مقاتلي داعش مجندي جيش بلادهم العزل ومعظمهم كانوا من المراهقين وسط هلاهل النساء واشترك في المجزرة حتى بعض أطفال تلك المناطق وشبابها وكهولها اضافة الى مقاتلين من كل اصقاع الإمتين العربية والإسلامية وسط هتافات طائفية هائجة.
قلت لهم سيداتي آنساتي سادتي
في تكريت قتل جنودنا منذ أقل من عام في ارض عراقية بعد ان حصلوا على وعود بالامان بينما تم قتل جنودكم في ميدان معركة متكافئة على يد جيش عدو مدافع عن نفسه وارضه.
جنودكم كانوا يريدون إحتلال عاصمة دولة اخرى بينما جنودنا قتلوا في أرضهم.
قتل جنودكم في ميدان المعركة على يد جيش معاد وتم تكريم جثمانهم من قبل عدوهم بينما تم قتل جنودنا وهم عزل آمنين على يد ابناء وطنهم وتم تشويه جثثهم ورميها في النهر بعد حفلات تعذيب جماعي شاركت فيها كل قاذورات الدنيا.
قتل جنودكم منذ قرن و لازلتم تبكونهم بينما جنودنا لم يمر عام واحد على قتلهم ( في حينها) ولازال اهلهم يطالبون بحقوقهم وجثثهم وتتلاعب بأعصابهم مافيات النصب والاحتيال.
حكومتكم تكرم قتلاكم بينما حكومتنا تطالبنا بالسكوت عن ضحايانا حفاظا على شعور القتلة.
تبالغون في عدد ضحاياكم لتضيفوا اليهم ضحايا نيوزلاندا بينما حكومتنا تقلل من عدد ضحايانا لتقول انهم ١٢٧ فقط!!
قلت لهم ان اكثر مشهد إثارني هو ما رواه أحد أقاربي في تحرير تكريت إنه شاهد شيخا كبيرا يحمل كيسا فيه عظاماً بشرية وبقايا جثث فسألوه عنه فقال: إنها جثة ولدي!
فقيل له كيف عرفت انها جثة ولدك؟
قال لا ادري والله لمن تعود ولكني أجمعها لأقنع أم إبني الشهيد بأنها جثته فهي لم تنم منذ يَوْم حدثت سبايكر واخشى عليها ان تموت حزنا
فأردت ان اسكتها لكي تكف عن رحلة الموت الحزين البطيء.
قلت لهم ان ضحاياكم لا يوجد من يعرفهم شخصيا اليوم سواء من أقاربهم او اصدقاي
ٔهم أو امهاتهم أو زوجاتهم وأخواتهم بينما لدينا أكثر من ١٧٠٠ عائلة
وأكثر منها أصدقاء ومعارف يعيشون الحزن اليومي وسط إهمال حكومي وعالمي فظيع.
حينما انتهيت من كلامي كان الجميع يبكي الأستاذة الأسترالية الفيكتورية البريطانية كانت ترتجف وتبكي بحرقة أم ثكلى حتى اني خشيت عليها من الانهيار
وبلحظة تحولت قاعة الدرس من انشاء عن يوم ضحايا الانزاك دي الى مناحة مجلس تعزية في سبايكر واصطفوا يسلمون علي معزين بالمصيبة.
كانوا متأثرين جدا رغم ان لا احد منهم يعرف سبايكر او ضحاياها
لكن ما حركهم هو الشعور الإنساني الذي نفتقده كأمة لا تجيد سوى القتل والشتائم ووراثة الكراهية والاحقاد.
لذلك لم أستغرب هجوم بعض ربعنا عليّ لأني تضامنت مع ضحايا مجزرة باريس.
سلاما لضحايا سبايكر والعراق ولبنان وسوريا واليمن وباريس مدينة الأنوار ولا عزاء للقتلة وأصحاب الضمائر الميتة.
مؤيد بلاسم
https://telegram.me/buratha
![](https://telegram.org/img/t_logo.png)