جعفر الحسيني
في هذا اليوم ، اعلن العقيد عبد الوهاب الشواف انقلابه من الموصل ، ضد الزعيم عبد الكريم قاسم ٠ وهو حدث غني بالدروس مليء بالمفارقات ٠
فالشواف الشيوعي اليساري ، والذي كان يُفترض ان يقود هو الثورة ضد النظام الملكي ، في ١١ مايس ١٩٥٨ ، لولا ثمة امور حالت دون ذلك ، رفض سلام عادل سكرتير الحزب الشيوعي استقباله - بعد ثورة تموز - بسبب خلافه مع قاسم ٠ وليتصور المرء لو ان حركة ١١ مايس نجحت ، ولو ان الشواف هو الذي اصبح ( الزعيم الاوحد ) ، لانقلبت الصورة ، ورفض سلام عادل ان يستقبل عبد الكريم قاسم ، اذا ما اختلف مع الشواف ٠
الانكى من هذا ان الدعاية الشيوعية صورت الشواف كرمز للعمالة والخيانة والانحطاط ٠
ولنعد الى اصل القصة ، فالشواف عندما كان يزمع القيام بحركة ١١ مايس ضد الحكم الملكي ، ابلغ الاخرين بانه سيعين عبد السلام عارف قائدا لحامية الموصل ، فردها له عبد السلام - بعد نجاح ثورة ١٤ تموز - وعينه امرا لحامية الموصل ، الامر الذي اغاض الشواف كثيرا ٠ فكانت مشكلته - في الاصل - مع عبد السلام عارف ٠
وعندما ازاح قاسم ، عبد السلام عارف من وزارة الداخلية ، كان المُؤمل ان يعين الشواف محله ٠ لكن قاسم عين رجلا لا علاقة له بالثورة - محمد احمد يحيى - وزيرا للداخلية ٠ فحنق الشواف على قاسم ٠
ثم جاء مؤتمر انصار السلام في الموصل ، والذي عارضت انعقاده جميع القيادات العسكرية والادارية ، وكان استفزازا كبيرا لمشاعر ابناء هذه المدينة المحافظة ٠ فحزم الشواف امره ، وقرر الاطاحة بقاسم ٠
الطريف ان احد الضباط الذين شاركوا بانقلاب الشواف ، وهو برتبة رائد ، كان من الذين شاركوا فعليا بثورة ١٤ تموز ، وطلب بعدها تعيينه اما عضوا بمجلس قيادة الثورة - والذي كان يطالب بعض الضباط بتشكيله - واما رئيسا لجامعة بغداد ٠ ولما لم يعين في اي منصب ، بل تم نقله الى الموصل ، فقد حقد هو الاخر على قاسم وعارف معا ٠
لقد ولد انقلاب الشواف ميتا ، وتم القضاء عليه في اليوم التالي ، فاغلب الجنود كانوا موالين لعبد الكريم قاسم ، والضباط الذين اتفقوا معه لم يحركوا ساكنا خارج الموصل ٠ والإذاعة التي ارسلتها له مصر لم تشتغل ٠ وتمارض الطبقچلي - قائد الفرقة الثانية - والذي ذكره الشواف في بيانه كشريك له بالانقلاب ، ودخل المستشفى ، ومن هناك ارسل برقية تأييد لقاسم ٠
اصدر العقيد طه بامرني قائد المقاومة الشعبية امرا الى قواته لسحق ( الخونة والمتآمرين ) ٠ ان البامرني هذا كان قائد الحرس الملكي يوم الثورة ، وانضم لها بعد ان تيقن من نجاحها ، وهاهو وفي واحدة من المفارقات التي تحدث عند كل منعطف تاريخي او تغيير سياسي ، يحمي الثورة من احد رجالاتها ، والذي كاد ان يكون - في مايس ١٩٥٨ - هو زعيمها ٠
وشهدت محاكمة المتآمرين مهازل عديدة ، فاحد الشهود قال عن احد الضباط : كان يركب السيارة ويذيع من المايكرفون : يعيش الشواف ، يعيش الاستعمار ، ويعيش جميع الاستعمار ٠٠ اما المحامية - راسمة زينل - المنتدبة للدفاع عنهم وهم ١٧ متهما ، فقد استغرق دفاعها ٧ دقائق ، منها ست دقائق في مدح المحكمة وسب جمال عبدالناصر ، لتدعو في الدقيقة الاخيرة للرأفة بالمتهمين ٠
ارتكب عبد الكريم قاسم - بعد فشل حركة الشواف - خطيئتين :
الاولى : تركه مدينة الموصل تحت رحمة القتلة والغوغاء لمدة اسبوع ٠
والثانية : اعدام الضباط المتهمين بالحركة ، وخاصة مؤسس حركة الضباط الاحرار العقيد رفعت الحاج سري ٠ بينما عفا فيما بعد عن الشباب البعثيين الذين حاولوا اغتياله ٠
يقول اسماعيل العارف ، وهو من اقرب المقربين لعبد الكريم قاسم : لقد كان اعدام رفعت ورفاقه خطأ بشعا في لحظة عدم توازن وثورة غضب ٠
ومن المؤكد ان اغلب الضباط المقربين له ، كطه الشيخ احمد ، وجلال الاوقاتي ٠٠الخ ، قد بذلوا كل مافي وسعهم ، لمنعه من اعدام رفعت والطبقچلي ٠ حتى ان عادل جلال قبل يديه ٠ ويبدو ان اصراره ، سببه الاستفزاز والتحدي المستمر ، من اعلام القاهرة ، بانه اجبن من ان ينفذ الاعدام بهم ٠ بل ان هذا الاعلام ، وقع في اخطاء كثيرة ، استخدمتها المحكمة كأدلة ضد الضباط المتهمين ٠
ولا يعني هذا ان اولئك الضباط كانوا ابرياء ، او انهم كانوا افضل منه ، ولكن كانت هناك اسباب وجيهة لعدم اعدامهم ٠ ولو انه فعل ذلك لبدا كبيرا امامهم ، ولكانوا مجرد مغامرين او طلاب سلطة ٠
والغريب انه اعدمهم ، بعد ستة اشهر من وقوع المؤامرة ، حيث يفترض ان النفوس هدأت ، والانفعالات خفت ، وبعد شهرين من خطابه الشهير - في كنيسة مار يوسف - والذي هاجم فيه الشيوعيين ٠
وهكذا خسر عبد الكريم قاسم الضباط الاحرار والشيوعيين معا ، ليمسي - يوم ٨ شباط ١٩٦٣ - وحيدا في مواجهة الانقلابيين ٠
جدير بالذكر ، ذات يوم وفي حديث بينهما ، ثار عبد الكريم قاسم منتقدا رفعت وجماعته ، مبررا اعدامهم ، فخرج اسماعيل العارف غاضبا ، ولكنه عاد بعد لحظات ، فوجد عبد الكريم وقد سالت دموعه ٠
يقول البحتري :
إذا احتَرَبتْ يَوْماً، فَفَاضَتْ دِماؤها
تَذَكّرَتِ القُرْبَى فَفَاضَتْ دُمُوعُها
ـــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha