نعمة العبادي
من الغريب أن هذا البلد الممسوس بالوجع لا يجتمع فيه الشبع والامان، فقد توازع تأريخه ما بين حرمان بلغ حد الجوع وما بين موت يأخذ بالارواح دون رحمة أو ان يجتمع الجوع والموت معاً.
عقب مقامرة صدام لغزوه للكويت وبغض النظر عن الحيثيات الموجبة وكل ما يتصل بهذا الموضوع من ملابسات، طبق العالم الظالم بتحريض لم يشهد له نظير حصاراً اقتصادياً على العراقيين لم يكن الجوع هو السوط المؤلم فيه بل جرح الكرامة هو الامر الاشد قسوة ووجعاً فيه الى هذه اللحظة لمن مرت عليه السنوات العجاف مروراً حقيقياً.
ومع كل ما حملته تلك الفترة من احداث جسام وتداعيات فإنها لم تنال حقها من الذكر والعرض والتحليل بل التدوين.
في النص الذي اعرض في للمحات من وجع العجاف واسلط الضوء على جوانب يجهلها معظم العراقيين، وقد كانت عدة اهداف موضوعية مضافاً الى الدواعي الذاتية هي التي اوجبت ضرورة المرور به ومنها:
1/ على الرغم من حجم الحروب والمحن التي مر بها العراقيون إلا اني أرى ان تلك الفترة هي الاكثر وجعاً لكونها تتصل بانتهاك كرامة الكثير من كرام الناس وعليتهم، وان هذا الجرح والانتهاك شاركت في اطراف كثيرة سنتعرض لبعضها.
2/من المهم فضح السلوك العالمي الذي قادت امريكا وبتحريض خليجي وبشرعنة من المؤسسات الدولية والذي تعاطى بلا ضمير مع وجع الفقراء من العراقيين وكان يشاهد موت الاطفال دون ان يكترث لذلك.
3/ ان ما جرى لم يكن حصاراً على النظام بل حصار على الفقراء ومع انه مس كل العراقيين إلا ان الذين مسهم بشكل قاهر ومذل هم اهل الجنوب تحديداً وقد تآزرت معه الاجراءات التعسفية التي فرضها النظام عقب فشل الانتفاضة الشعبانية متوجها بكل دمويته لما سماه صفحة الغدر والخيانة.
4/ الامر الاهم ان معظم الطبقة السياسية التي تحكم العراق من 16 سنة والذين كانوا خارج العراق في تلك الفترة لا يمكنهم ادراك وتحسس حجم الالم والوجع والذل الذي تحمله ابناء جلدتهم خلال هذه السنوات وحتى ذويهم واقاربهم كانوا افضل حال من خلال ما يصلهم من دولارات من الخارج، واجزم ان تلك الطبقة لم تستحضر اي شيء يتصل بمرارة ووجع هذه المرحلة ولا يعني لها هذا التاريخ اي شيء في مقاربتها للحاضر العراقي والمستقبل، وهم لا يعلمون انها مرحلة عجيبة من الالتصاق بالوطن وتصاعد الهم الوطني لاقصى حدوده وان مشروعات من الآمال والاحلام صنعها ذاك الوجع تم وأدها بكل قسوة وقباحة وذبحها على مقصلة الفساد والتغانم السياسي.
من الصعب جدا ان اعرض لعجاف يوسف ولكني سوف اقتبس شواهد انا الشاهد عليها وانا جزء منها.
- رحة أمي: الرحة هي حجرين مدورين موضوع احدهم على الاخر تستخدم لطحن الحنطة والشعير ومختلف الحبوب وتعمل من خلال تدويرها باليد وهي ثقيلة ومتعبة جدا، وقد غادر الناس الاعتماد على الرحة من عقود ولكنها رجعت لتكون اهم موجودات البيت بعد الحصار اي بعد عام 1991، فالناس لا يستطيعون الذهاب الى مكائن الطحن لان الدولة تصادر اي حبوب بسبب الحصار ويعتمد المعظم خصوصا في قرى الجنوب على الرحة، فكانت نساء المنطقة تتقاطر من اجل ان تحصل سرة اي تسلسل على الرحة فيطول انتظارها ساعات وبوضع هي واطفالها يرثى له، فضلا عن ان عملية الطحن تمجل الكفوف وتتعب الاكتاف، فكل ساعة طحن اصعب من اي مباراة ملاكمة.
- كل واحد يخلي خبزته بحضنه: جراء الحصار كان الخبز العزيز الشحيح، فكانت الامهات والنساء تحفظ الخبز مثل ما تخزن الذهب وعند توزيعه تطلب من كل واحد ان يضع خبزته بحضنه على ملابسه لان الوضع غير آمن، ولطالما تصارع الاطفال بل وحتى الكبار على الخبز الشحيح، ولطالما انوجعت القلوب وهملت العيون من قبل الاباء والامهات وهم يشاهدون جوع اولادهم.
- الكاكو كولا هدية فاخرة: لقد اوصل الحصار الامور الى درجة ان بطل كاكو كولا كان يقدم هدية مميزة لبعض العائدين من الاردن او السفر ومحظوظ من يحصل عليه او على كيلو تفاح، وقد اضطر الكثير من الشباب للسفر للاردن من اجل العمل وقد تعامل الاردنيون بمنتهى الاذلال والتعجرف، فمعروف لدى الكثير عبارة يعطيك العافية، حيث كان رب العمل يستغل العامل لاشهر ثم يطرده ولا يعطيه حقه ويقول له يعطيك العافية وهو مضطر للسكوت لانه اذا تكلم سوف يخبر الشرطة عنه ويتم ابعاده، لذلك يتحمل هذا التعامل، والكثير يتذكرون قصيدة رحيم المالكي ليش الوحدك من غير دفان.
- ذل الفلاحة: اضطر الكثير من اهالي الجنوب ان يقصدوا محافظات الوسط وبعض المحافظات الاخرى من اجل فلاحة الشلب والحنطة والتمر، ومعظم الذين اضطروا لهذا كانوا من الكرماء واهل المضايف في مناطقهم، وقد اضطرهم ذلك لاخذ عوائلهم من اجل هذه الرحلة، وكانت كرامتهم تهتك في كل يوم جراء التعامل الانتهازي من قبل معظم اهل الاراضي، فضلا عن تعرض اعراضهم للاساءة، ومع كل ذلك كان الخوف والخلع من تتبع الرفاق وجماعة الامن يلاحق هؤلاء الناس، وقد مثل هذا الفصل جرحا موجعا لكرامة الكثير من الناس ولا يزال وجعه باقيا.
- البالة هي السوبر ماركت المفضل: لقد ألبس الحصار كرام الناس وكريماتهم ملابس البالات القديمة والملبوسة وكان الاطفال تدار بينهن الملابس ومن النادر ان يملك الانسان البسيط ملابس مستقلة للخروج او السفر، ومن لديه ذاكرة جيدة من العراقيين يتذكر منظر الناس وملبسهم في تلك الفترة.
لقد خلقت هذه الفترة السوداء منظومة قيم وتغلغت تلك القيم في اعماق الناس ومست جروحها وآلامها بعمق في جسد الكرامة العراقية ولا يزال الكثير من الناس يشعر بغصة ومرارة عندما تمر عليه ذكرى تلك الايام، وهذا لا يعني انها لم تحمل من الايجابيات، فقد كانت مرحلة اختبار حقيقي للناس وكان مبعثا للاعتماد على النفس واختراع البدائل وكشفت معادن الناس وحقيقتهم.
هذه المرحلة المريرة مقطع زماني مهم جدا من حياة العراقيين، ورتبت قائمة مسؤوليات على كل نظام يأتي عقبها، كما انها تحتاج لاعادة نظر في الاستحقاقات واجراءات العدالية الانقالية، ففي عقيدتي ان كل العراقيين الذين مسهم هذا الحصار بشكل حقيقي كانوا بمنزلة الشهداء والسجناء..
اتمنى لكل من لديه تدوينات تتصل بهذه المرحلة ان يغني هذا النص لانه صوت يحتاج ان يسمعه الكثير ممن لا يزالون يسدون آذانهم عن جراح العراقيين.
ــــــــــــ
https://telegram.me/buratha