المقالات

مفهوم الحرية عند السيد الشهيد محمد باقر الصدر


باسم الجنابي

 

    ينطلق السيد الشهيد الصدر من الاسلام بوصفه نظاما عاما وشاملا من اجل خير الانسان والمجتمع، ولكن هذا النظام لا يمكن له ان يبرهن على احقيته في قيادة الامة ما لم يتم نسف الفلسفات الاخرى التي تفرض نفسها على المجتمعات من خلال ادعائها بانها الاكثر جدوى في مجال تحقيق الخير والرفاهية العامة لبني الجنس البشري.

    وتمثل الحرية المنطلق الاهم للفلسفة الليبرالية والتي عبر عنها ادم سمث بمقولته المشهورة (دعه يعمل دعه يمر) والتي تتناغم مع الاقتصاد الرأسمالي، الأمر الذي دفع دعاة الرأسمالية الى التوسع في مفهوم الحرية من اجل ان يكون لها فلسفة خاصة تنطلق من الاقتصاد وتنتهي في السياسة والمجتمع، الأمر الذي جعل الكثير من البلدان، تندفع باتجاه تطبيق النموذج الليبرالي متخذتاً اياها اساسا فلسفيا لإقامة مجتمع ديمقراطي حر يسعى من اجل ان يكون الانسان هو الحاكم والمحكوم مستندة بذلك على حريته في اختيار من يمثله لإدارة دفة الحكم.

    ومن هنا اخذ السيد الشهيد الصدر على عاتقه مهمة كبيرة تتمثل بمعالجة فكرية واقتصادية واجتماعية لأبرز الايديولوجيات المطروحة في زمنه (الماركسية الاشتراكية والليبرالية الرأسمالية)، هدفت هذه المعالجة الى تشخيص مكامن الخلل ووضع العلاج المناسب لها مستندا في هذا العلاج الى فكرة مفادها ان الاسلام هو الفكر الانسب لمعالجة التناقضات وخلق مجتمع الرفاه الانساني.

لم تكن هذه المعالجة عبارة عن جدال عقلي ارسطي، وانما استندت الى نسف الثوابت الفلسفية بنفس الادوات الفكرية التي تم البناء عليها.

الاسلام والحرية:

    يقول فولتير (ان اردت ان تتحدث معي فحدد مفاهيمك)، قبل الولوج الى موضوع العلاقة ينبغي تحديد المفاهيم الاساسية لها، وطالما ان الاسلام مفهوم واضح لا اختلاف عليه، لذا نلجئ الى تحديد مفهوم الحرية بغية معرفة الافق الذي تسير وفقه جدلية العلاقة بين (الحرية ـ الفرد) و(الحرية والمجتمع).

    ومن خلال تفكيك المفهوم السابق نحصل على التالي

1.    الحرية فضيلة من الفضائل الاجتماعية والانسانية: يتفق السيد الصدر على هذا المنطلق بل يدلو بدلوه اكثر من ذلك معتبرا بان الحرية تعبير اصيل عن حقيقة الارادة الانسانية، كما انها تعبر عن صلة عاطفية ملتسقة بالذات الانسانية، وهذه الظاهرة العاطفية نجد تفسيرها في جانب ثابت من تكوين الانسان وهو الارادة، وهو لذلك يحب الحرية ويهواها، لأنها تعبير عملي عن امتلاكه لأرادته وإمكان استخدامها لمصالحه.

2.    انعتاق الفرد من القيود الفكرية التي تحدد حركته وتعيق تفكيره: وهنا يبدأ الاختلاف بالاتساع، اذ ان الشهيد الصدر لا ينظر الى هذا المفهوم بوصفه فضيلة عالية ولا بوصفه مفهوم عقلاني وواقعي يتلائم مع الحياة التي يخوض الفرد غمارها بوصفه كائن في المجتمع، بل انها حالة من التيه التي تحول الانسان من انسانيته المرتبطة بعبادة الله الى فرد يعب الشهوات واين ما مالت يميل معها.

3.    وصول الانسان الى غاياته التي يرغب بتحقيقها: هنا يقف الاسلام بين ما هو مسموح وممنوع، فالإسلام لا يرتضي للفرد ان يترك النظام الاجتماعي و الاخلاقي الذي خطه الرب من اجل خيره، لكي يضحي عبدا للغرائز والاندفاعات الوقتية، والتي قد تسلخ الانسان عن حريته الحقيقية ليغدوا عبدا من جديد دون ان وعي أو ادراك لعلل الشرائع وما لمخالفتها من عبودية وضياع.

كيف تبدأ الحرية وفق المنظور الإسلامي:

    يفهم الاسلام الحرية بوصفها اسلوبا ومنهجا للحياة تستند على عبادة الله وتجسد حركته، تطبيق خطته في الارض من خلال اقامة العدل واجتناب الظلم.

    والسؤال الذي يطرح هنا، هل ان أساس الحرية لدى الاسلام عبودية ؟!

نعم انها كذلك، الا انها ليست عبودية تسلخ الانسان عن ذاته وانما عبودية تمثل الطريق للتحرر من الرغبات الدنيئة والشهوات الانفعالية غير المقننة.

    وان فكرة الحرية المطلقة لم تكن على الاطلاق حقيقة وانما قننت هي الاخرى بما قاله مونتسكيو (الحرية هي ما يسمح به القانون) ، والحرية الليبرالية تنتهي للفرد عندما تتعارض مع حرية الاخرين، لذا فنحن هنا امام أساس ثاني يقابل الله في الاسلام الا وهو القانون في الفكر الليبرالي المعاصر، والقانون بحد ذاته يستند على ارادة الجماهير بوصف الديمقراطية تعطي الحق في تقرير القانون وانفاذه.

اي اننا الان امام ثنائية (الله ـ قانون)، ويختلف الاول عن الثاني، على الرغم من ان ليس هناك مجال للمقارنة الا ان المحاجة تكون وفق الادوات نفسها كما اعتمد الشهيد الصدر، بان فلسفة التشريع الالهي لا تخضع لأهواء العامة، ولا ترتكز على اهداف شخصية لحكومة أو فرد مستبد، بل انها تسير نحو اقامة توفيق داخلي (نفسي) وتوفيق اجتماعي (عام)، فلا يغدو الفرد مغتربا عن المجتمع ولا تتسيد الارادة المصلحية لأغلبية أو اكثرية على حساب الحق الواجب (كما يراه الله سبحانه وتعالي).

    اما القانون فلا يعدو ان يكون في اغلب الاحيان ابن السلطة الحاكمة (فالقوانين ارادات) واما الديمقراطية فيعيبها انها لا ترتكز على أساس يعصمها من الوقوع في خطيئة الاستغلال تارة والاقصاء تارة اخرى، فالاغلبية تجير الحياة الاجتماعية من اجل مصالحها، وتكون الضحية هي الاقلية والتي تحاول الديمقراطية ان تجد لها مخرجا من هذا اللبس، الا انها تعود لتنزلق من جديد في تهميش الافكار التي تتعارض معها أو تقف من ارادات عامة توصف بانها صدرت عن اقلية لا حول لهم ولا قوة.

    وقد نتفق هنا مع كارل ماركس من حيث ان النظام الطبقي لا يمكن له ان يبني عدالة اجتماعية وما افرازاته من الديمقراطية وحكم القانون والحرية وغيرها الا ذر الرماد على العيون من اجل فرض نظام محدد يحفظ للطبقة المستغلة نفوذها على حساب الطبقة المستضعفة.

الاصنام والحرية:

    الاصنام (افكار أو اشخاص) تمثل المرجعية الفكرية لفهم العالم، لدى الكثير من ابناء الجنس البشرية، يذكر الامام علي (ع) في وصيته الى كميل ابن زياد (النَّاسُ ثَلاثَةٌ : فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ فينجوا)، ويضح لاغلب المختصين في العلوم الانسانية عمق صدق هذه العبارة، لانها تحاكي الواقع محاكات كبيرة، ومصاديقها ظاهرة للعيان، في اشد بلدان العالم تطورا.

    ومن هنا يصنع اتباع الناعقين اصنامهم، الخطوط الحمراء التي لا يمكن للناس تجاوزها وما ان انتقدوها ألا وتمت تصفيتهم من قبل الهمج الرعاع، وابرز ما يدلل على سلوكيات هؤلاء الغير منضبطة هو السلوك الجمعي بمفهومه النفسي والاجتماعي والذي يرتبط بالغوغاء والثورة والعنف غير المبرر، والاستناد على عاطفة الهياج لا على العقل والتحليلات المنطقية.

    ورب سائل يسأل ان كل ما سبق ممكن ان يرتبط بالدين ايضا، فهناك من الفرق الفكرية والمذهبية من ساروا على نفس هذا الطريق على الرغم من عبادتهم لله ؟

    نعم نحن نتفق مع هذا السؤال بكل تفاصيله عدا اخر مفردة (الله)، وهنا يكون التحليل ميتافيزيقي بالنسبة للبعض، وهناك من يراه هروب فلسفي من جوهر مشكلة مطروحة على ارض الواقع، الا انه حق لمن تحسسه أو عاشه، ولا يأتيه الباطر لا من خلفه ولا من بعده، انه بكل بساطة الحب!

    الطريق الى الحب في الله يتطلب التفريق بين (عقل ـ مجتمع) و (الله ـ عقل ـ مجتمع)، فالحالة الاولى ترتبط بقوة البصر و شدة التحليلات المنطقية الا انها تبقى كما يقول غوته (شاحبة هي النظريات - يا صديقي – بينما تظل شجرة الحياة خضراء دائما)، فالعقل ما قبل الله يختلف عن العقل ما بعد الله، اذ ان في الثاني رحيق بقوة ماء النار، يذيب اقفال القلوب لتنفتح على بعضها اولا، ولتفتح باب العقل ثانيا، فيغدو العقل عقلين، الاول علماني محدود ومشوش وشاحب فاقدا للبصيرة بأغلب احكامه، فلا يتمكن من سبر غور ما وراء التشريع الهي (علل الشرائع)، محولا الحياة الاجتماعية الى حقل تجارب يكون ضحيتها الاول هو الفرد البسيط.

    وبالعودة الى موضوع الاصنام نجد ان الانسان يتأثر ببني جنسه، ويهم بخلق صنم ليعبده اذ لم يجد من هو حق للعبادة، وهنا تأخذ العبادة جدلية محددة، تقترن مع ما اطلق عليه الدكتور عبد الجليل الطاهر (الجدلية الصنمية) بقوله (كثيرا ما يفقد الناس اللثقة في الصنم الاجتماعي، ويضعف ايمانهم به وتقديسهم له بالرغم من ضخامة قاعدته، وقوة ركيزته، عندما يظهر للوجود صنم جديد يستجيب لرغبات الناس وحاجاتهم، لأنه استطاع ان يتلمس مشاعرهم وأحاسيسهم وان يضع خطة لتحقيق طموحهم).

    فهل تصدق هنا مقولة الامام الحسين (ع) (إِنَّ النَّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيَا، وَالدِّينُ لَعْقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُونَ(

لذا فأن الهروب من الحرية من جهة و محاولة التخلص من الاغتراب من جهة اخرى، تجعل الانسان باحثا عن افضل ما يمكنه عبادته، ولعل المثل المصري يقترب من هذا الفهم بقولهم (الي ملهوش كبير يشتريلوا كبير)، ولعمري ان الوجودية السارترية لم توفق لأنها جعلت الانسان في مصاف اعلى منه، فهو وعلى الرغم من كامل قداسته الا انه مجبول على ان يكون عبدا، مهما تشدق بمفردات الفلسفات أو ارتدى معاطف الايديولوجيات من الخضراء الى الحمراء.

الا ان ليست كل عبودية تمثل إغتراب، الا تلك التي تشيء الانسان محولة اياه الى كائن غريزي مفرغ من الداخل عبدا لشهواته ونزعاته الفردية.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
فيسبوك