احمد كامل
ما أن يقرأ القارئ عنوان المقال ،حتى تجده قد أخرج تنهيدة ً عميقة من صدره، وإسترجع ذكرياته، للسنوات التي عاشها، ليقلب صفحاتها عسى وأن يجد في طياتها احلاماً وردية عاشها ، لكن مثل كل مرة تخونه ذاكرته ،فهي لم تخزن سوى الآهات والأحزان .
لم يكن في مقالي هذا مبالغة أو تشاؤماً، بل هو تنهيدة قلم ،سطرها على خطوط الورق .
من الملفت للعراقيين حتى في تذكرهم لإحداث مفرحة، قد مرت بهم في يوم من الأيام ،تجدهم يحزنون لذكراها او حتى يبكون ألماً وحنيناً لها.
ومن الأمر الملفت أيضاً، إن أهل العراق حتى في اغانيهم نبرات الحزن لم تتركهم، لا بل الأغرب من ذلك هو أغاني أفراحهم عندما يبدئونها بمواويل الحزن والشجن!! فهم دائما يقدمون أحزانهم على أفراحهم، فصار لهم دستوراً يتناقلونه فيما بينهم عبر الأجيال.
يقلب المثقف والباحث في كتب أحوال العراقيين الماضية ،يجدها نكبات تلو النكبات ،دونتها أقلام المؤرخين ليكون عبرة لاجيالهم اللاحقة ،ولم يعلموا أن سلسلة النكبات والأحزان لم تنتهي بعد .
لم يمر عقد من الزمن على أهل العراق، إلا وفيه أحزان فراق وثكالى حرب وصراخ يتامى او سنوات جوع وفقر وظلم،
لا نريد أن نبتعد كثيرا ،فهناك أصحاب التأريخ أفضل من يوصل الحقيقة لطالبيها.
لكن دائما ما نحدث ابنائنا عن السنين التي عشناها، دون التشهد بأحداث التأريخ السابق، فالذي ذقناه من مرارة سنواتنا أكثر من أن يكون عبرة يدرس به ابنائنا .
فالسنوات التي عاشها أهل العراق في عقد الثمانينات قل ما يكن هناك شعب يتحمل مرارتها، عندما انقطع العراق بحرب دموية قاربت الثمان سنوات، رافقها ضغط مسلط من حكومة مستبدة، على استعداد بحرق نصف شعبها دون المساس بكرسي الحكومة ،او التراجع عن حرب خاسرة .
انتهت الحرب وانجلت الغبرة ،وتكبد العراقيون خسائر فادحة بالأرواح، وآلاف الهكتارات من الأراضي التي سقطت بالعمق الإيراني ،وفوق كل ذلك اعترفت الحكومة بهزيمتها ودفعها ثمن الحرب !
بدأ عقد التسعينات، وصار أهل العراق يتأملون الخير بعد انقشاع الحرب، وفي لحظة غضب اهتز فيها كرسي الحكومة، دخل على إثرها العراقيون دوامة سوداء، ونفق مظلم استمر لأكثر من اثنتي عشرة سنة ،عاشها أهل العراق بين قتل وجوع حرمان، وصل به حد لا يطاق .
بعد أن قامت الحكومة باحتلال الكويت، مستهزئين حجمها، متناسين أن قوة الدول ليس بحجمها المادي ،ونظروا لها كأنها قشة صغيرة نسبة للعراق، فكانت حقاً إنها القشة التي قصمت ظهر العراق، أولاً عندما شنت الدول العظمى حصاراً اقتصادياً شاملاً، كان سبباً رئيساً، في تغيير طبيعة المجتمع العراقي، نحو بلده وتفكيك جزيئيات روح المواطنة، وتحول المواطن بطبيعته إلى صنف الأنانية، وحب الذات ،وترك الجماعة بعد الجوع الكافر الذي لحق به ابان عقد التسعينات.
إنتهت تلك المرحلة، التي تجاوزت العقد ،بأسقاط الحكومة التي عجزت الدنيا على تحملها، بعد المصائب التي خلفتها لأهل العراق .
إنتهى النفق المظلم، وقد تصور البعض إن أهل العراق مقبلين أيام أفراح وليال ٍ ملاح لحرية لم يروها طيلة عقود من الزمن، إلا أهل الحكمة من أهل العراق ،كانوا يشعرون بخوف كبير، وخطر محدق قد يقض مضاجع العراقيين، بعد أن انشغل كل بأمره، كما المثل القائل ( كلمن يلوذ النار لخبزته ) فصاروا لقمة سائغة ،لكل من هب ودب من أهل الشر والفتنة، وعملوا على تمزيق النسيج من أجل سهولة الوصول إلى الهدف المبتغى .
هذه السنوات التي كانت أشد وطأةً من سابقاتها، فهي جمعت كل خصال الشر والقتل، وسفك الدماء ولم تترك خلفها خصلة محزنة إلا وجلبتها .
أصبح أهل العراق منهكين لما مروا فيه من نكبات لأربع عقود مرت به، بل ولازالت وطئتها حاضرة ،على الرغم من عبور عين إعصار الطائفية أرض العراق، لكن ظلت آثاره شاهدة إلى وقتنا الحاضر، وسيستمر الحزن العراقي، مالم يراجع الفرد العراقي نفسه ،ويقيها من حب الذات والأنانية ،والنظر إلى المشاهد التي تدور من حوله بحكمة ودراية ،والتمييز بين الخبيث والطيب وإرجاع روح الجماعة وإفساح المجال أمام أهل الدراية ،والمعرفة بحلحلة العقد وعدم زج الأنوف بأمور شتى، دون أدنى معرفة خصوصاً السياسية ،والدينية منها .
هذا إن أردنا عقود قادمة بلا أحزان وإلا فلنستمر بمآسينا واحزاننا.
https://telegram.me/buratha
