المقالات

حكاية السياسة .. وصناعة الخير العام


د. علي الدفاعي

Dr.alialdaffayi313@gmail.com

 

إنها فرضية أطلقها المفكر العربي الكبير ابن خلدون في القرن الثامن الهجري إذ قال ((السياسة هي عموما صناعة الخير العام، وخيرها أكثر من شرها لكنها عندنا مهلكة وأي مهلكة)).

قد يكون الشعب العراقي من أبرز شعوب المنطقة وربما البشرية أجمع دراية بواقعية مقولة ابن خلدون، فإن المهلكة التي جرّتها السياسة على حياته بتفاصيلها المتنوعة من أمن وخدمات وفرص عمل ، فضلا عن الرفاهية التي هي حقٌ مشروع بل وواجب لبلد متخم بالخيرات ، ولكن اي خيرات وقد أفسدتها المصالح الضيقة للمتصيدين في السياسة .

بينما ظل التعريف السائد للسياسة لاجيال واجيال هو تعريف ارتبط بالفكر الاغريقي القديم إذ ركّز على ان الهدف من اقامة اي نظام سياسي إنّما هو تحقيق العدالة على الارض ، ومن قبل ذلك لمن يتابع الحكاية الاولى للخليقة في كتاب الله تعالى إذ قال الرب مخاطباً ملائكته النورانية (( إني جاعلٌ في الارض خليفة )) فكان الحديث الاول عن السياسة ومفهومها موجزاً وواضحاً بارتباطه بقيمة العدالة في حكم احوال الناس وشؤونهم الحياتية المختلفة ، كيف لا ووظيفة خليفة الله في الارض هي السياسة بل ويجوز لنا القول بأنه السياسي الاول على الارض.

إذن فالسياسة على هذا الاساس ابتدأت من أجل غاية نبيلة ولحفظ مصلحة عامة ، فقد وضع أفلاطون شرطاً اساسياً لممارسة السياسة وترسيخ الحكم الصالح وهو ان يكون الحكيم حاكماً او الحاكم حكيماً. فإن هذا التلازم يجعل وسيلة أمن الناس ورفاههم بمأمن ، وتصبح سبل تحقيق العدالة والسعادة للبشرية متاحة أكثر كما هو المطلوب.

لكنّ هذا الفهم الذي بات يقترب من المثالية ان لم يكن هو نفسها كان هو السائد لفترات تاريخيه طويلة ، الا انها سيادة نظرية لم ترقَ البشرية أو المتنفذون منهم لمستوى التطبيق لها ما ان وصلت هذه الاداة لأيديهم، وهذه الحقيقة لا يختلف عليها باحثان في ظني ، فتراث الاغريق والرومان والفرس والمسلمين والغرب الحديث وكثير من الامم جعلت من السياسة مهلكة لشعوبها في حياتهم وخيراتهم ، ودون القاريء الكريم ارشيف طويل من تاريخ هذه البشرية المنكوبة بواقع متناثر في مساحات واسعة من تجاربها المريرة .

وبعيداً عن الجدل الفكري الدائر في محاولات التوصيف الدقيق للسياسية بـ(الدولة) مرة وبـ(السلطة) اخرى وبـ(فن الممكن) ثالثة ، وهلمّا جرا وكلها توصيفات ترتبط بواقعية معقولة بدرجة كبيرة فجميع تعريفات السياسة تأخذ بالاعتبار جانب القوة والسلطة ، ولكن المشكلة في فهم هذه السلطة وأنها من المفاهيم الزئبقية التي لاتقبل التحديد ، ولذلك فقد مثّل مفهوم الدولة بمؤسساتها (السلة) التي جمعت شتات ذالك الجدل ، فكانت الاقرب الى استيعاب دلالة تجمع بين النظرية والتطبيق لفكِّ الغموض الحاصل بين تعدد التعاريف وسعة مفهوها في أذهان الناس على مختلف مستوياتهم الادراكية.

لكن السياسة في النهاية ما هي الا سلوك انساني قد يكون أبرز ميدان له هو الدولة والسلطة ولكنه لا ينحصر بهما ، فإن السياسة الموجودة خارج الدولة أكثر بكثير من السياسة الموجودة في الدولة ، والسياسة الموجودة في المجتمع أهم من السياسة المحصورة في مؤسسات الدولة ، لذلك يذهب التعريف السلوكي للسياسة بأنها ردة فعل غاضبة على محاولات حصر السياسة حصراً غير منطقي في الاطر القانونية والدستورية ومؤسسات الدولة.

إن أكثر ما يميز التعريف السلوكي هو تركيزه على الانسان كمادة اولى للسياسة ويفترض هذا التعريف بأن السياسة تبدأ مع الانسان وتنتهي لديه ، كما أنها تنبع منه وتعود إليه ، فالانسان هو محور السياسة ولا يمكن فهمها بدون العودة اليه ، فالانسان كأنه في قلب النشاط السياسي كما أن الدولة في قلب الممارسة السياسة .

لم أشأ من هذه المقدمة السريعة أن أخوض مع الفلاسفة في ميدان الجدل الممتع لاصحاب الذائقة الفكرية الجدلية إنما أردت أن أمدَّ يداً الى الذاكرة العميقة في تراثنا الانساني لاستحضر ما بات منسياً بل مطعوناً فيه ، فليست السياسة (نكسة) كما شاع عنها وليس المهتمين بها فكراً أو تطبيقاً مجرد (حرامية او مستفيدين) كما يحلو لاهلنا ان يتندروا في حكاياهم عنها.

فبين كونها وظيفة إلهية تم تعيين الانسان الاول فيها وبين ما استقرّت عليه طبيعة هذه الحياة من تنازع المصالح الخاصة وحب السيطرة المفضي الى أبشع انواع التجاوز ؛ ليست السرقة اقلّها وليس القتل أبشعها ، كانت السياسة كما يقول ابن خلدون (( أمانة وتفويض ولا مجرى لها الا بين تضاريس المحاسبة والتوضيح )) ، فلكي نعود بها الى مكانتها الوظيفية اللائقة باعتبارها وسيلة الى الحياة الامنة والكريمة وليس العكس كما شاع عنها ، على الانسان ان يعود الى قلب النشاط السياسي ليحفظ الامانة ويؤدي حق التفويض الذي منحه إياه الخالق.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك