في ثلاث حلقات تطرقنا لأهم جرائم السلطة القضائية التي أسهمت في مسخ الدستور العراقي وافراغه من محتواه من جهة،وفي خلق ديكتاتوريتين خطيرتين في ظل هذا الدستور هما ديكتاتورية رئيس الوزراء من جهة،وديكتاتورية رئيس مجلس القضاء الاعلى والمحكمة الاتحادية العليا من جهة اخرى،لاسيما بعد تحالفهما الخطير في ظل ولايتي رئيس الوزراء السابق نوري المالكي.واليوم نتطرق لأهم مفاصل فساد وتخلف الجهاز القضائي في العراق كانعكاس لما تقدم من جهة،ولدوره في افساد وتحجيم دور القضاء من جهة اخرى.
1-هناك الكثير من الاجهزة ذات التي تمارس عملا قضائيا ولكنها لاتخضع للسلطة القضائية مطلقا،فلجنة التحقق في اعادة المفصولين السياسيين في مجلس الوزراء تتبع السلطة التنفيذية،واللجان التي درست أحوال المحكومين والموقوفين كانت برئاسة نائب رئيس مجلس الوزراء،وقد أصدرت قرارات قضائية خارج اختصاصاتها،فأطلقت سراح العديد من المتهمين.وهناك مؤسسات اخرى كهيأة الأجتثاث والنزاهة ومفوضية الإنتخابات ومؤسسة السجناء السياسيين والشهداء ،علاوة على الهيئات التحقيقية التي تتبع مكتب رئيس الوزراء،كما إن محكمة القضاء الإداري ومحكمة قضاء الموظفين تتبع وزير العدل،وإن مجلس شورى الدولة والمعهد القضائي يتبعان السلطة التنفيذية متمثلة بوزير العدل(1).
2-بالرغم من نص المادة(13)من الدستور على ان(تعرض أوراق التحقيق الابتدائي على القاضي المختص خلال مدة لا تتجاوز أربعا وعشرين ساعة من حين القبض على المتهم، ولا يجوز تمديدها إلا مرة واحدة وللمدة ذاتها)،الا ان هذا النص استخدم كثيرا بقصد الإنتقام تجاه الكثيرين بما فيهم بعض أصحاب الدرجات الخاصة. إذ لاتعرض الأوراق التحقيقية على القاضي الخافر إلا في وقت متأخر من الليل،والذي يقرر عادة توقيف المتهم وعرضه صباحا على القاضي المختص،وقد يتم الأمر يوم الخميس، لتؤجل مسألة إطلاق سراح الموقوف إلى يوم الأحد. وكان من المفروض أن يسبق هذا النص بنص المادة (37-ب)والتي تنص على أن( لا يجوز توقيف أحد أو التحقيق معه إلا بموجب قرارٍ قضائي).وإذا كان أمر التوقيف لايصدر إلا من قاض مختص،فإن أمر اطلاق السراح لابد من أن يكون كذلك،إلا أن الواقع يشهد بأن السلطة التنفيذية مازالت ترى نفسها فوق السلطات،ومازالت السلطات الأخرى تألف الخضوع لها. فقد أمر محافظ ذي قار -مثلا- "بإطلاق سراح جميع معتقلي تظاهرة إلغاء الرواتب التقاعدية للبرلمانيين، وإيقاف كافة الملاحقات القانونية للذين صدرت أوامر القاء قبض بحقهم"،على الرغم من إن المحافظة كانت قد شهدت"مصادمات بعد خروج المئات من المتظاهرين".بل إن المحافظين أنفسهم مازالوا يصدرون أوامر توقيف استنادا لصلاحيات سابقة خولتها اياهم قوانين سابقة وقرارات مجلس قيادة الثورة المنحل ،وهذا يتطلب الطعن بعدم الدستورية في كل حالة.ولم يثر مثل هذا الامر او يطعن بعدم دستورية تلك القوانين والقرارات لارئيس الجمهورية بصفته حاميا للدستور،ولارئيس الوزراء الذي ادمن الطعن امام المحكمة الاتحادية المسارعة لتلبية طلباته،ولا جهاز الادعاء العام،ولامجلس النواب.والانكى ان السلطة القضائية تجاهلت النصوص الدستورية،وطبقت قرارات المحافظين بالتوقيف او اطلاق السراح.نقول هذا كي لايعجب بعض القراء او يكذب ماسبق ان طرحناه من اعلان رئيس الوزراء السابق لقرارات العفو العام او الخاص غير الدستورية،وخضوع السلطة القضائية وامتثالها لكل تلك الخروقات.
يبدو إن المشرع الدستوري كان قد غفل عن وجود قانون ومحاكم للعمل،فلاغرابة أن يغفل بعد ذلك عن تفعيل ذلك القانون،وتلك المحكمة،لاسيما إن القضاء نفسه نسي وجود محكمة للعمل، فقد نصت المادة(137)من قانون العمل رقم(71)لسنة1987على ان(تشكل محكمة عمل او اكثر في كل محافظة...)،في حين نجد إن محكمة البداءة،ومن بعدها محكمة الإستئناف،تنظر في دعوى تختص بمنازعات ناشئة عن عقود عمل،من دون أن تلتفت إلى عدم اختصاصها بتلك الدعاوى.وفي الوقت الذي تنبه فيه محكمة التمييز الإتحادية لمثل هذا الأمر،فإنها لاتوعز لأية جهة لتشكيل تلك المحكمة، للنظر في تلك المنازعات(2 )
3-على الرغم من تبني الدستور العراقي لامركزية واسعة،سياسية وادارية،إلا إن الطعن لدى القضاء الإداري بفرعيه،يستلزم رفع الدعوى في بغداد حصرا،بسبب عدم وجود محاكم إدارية في المحافظات.والموظف الذي كفل له الدستور حق الطعن بكافة القرارات الادارية الصادرة بحقه،لم يجد الا مجلس انضباط الموظفين الذي تم تشكيله مع مطلع ثلاثينيات القرن الماضي في العاصمة،وبالرغم من اعداد الموظفين اليوم اصبحت تفوق تعداد العراق انذاك،الا ان مجلس الانضباط الذي تحول الى محكمة قضاء الموظفين،ظل على حاله،فلاتوجد محاكم في المحافظات ، والدعوى تحتاج الى رفعها في بغداد حصرا،وتكلفة باهضة الثمن ،وبذا افرغت ضمانات الموظف من محتواها،وظل المسؤول سيد الموقف،يتجاوز القوانين والصلاحيات بلا رادع .
4- بالرغم من الدستور العراقي كان قد اضفى على الاشراف القضائي منزلة كبيرة بالنص عليه في صلب الوثيقة الدستورية باعتباره هيئة يختص مجلس النواب بالموافقة على تعيين رئيسها بناء على اقتراح من مجلس القضاء الاعلى(م61-خامسا-أ)،الا ان مجلس القضاء تجاهل مجلس النواب كما تجاهلته السلطة التنفيذية،كما انه اهمل هيئة الاشراف القضائي حتى بات مكانا لتجميد القضاة او معاقبتهم ،وفي النهاية اصبح هيئة عديمة الفعالية بالرغم من الاهمية الكبرى المناطة به للاشراف على عمل القضاة ومتابعة القرارات الصادرة عنهم ،وللنظر في شكاوى المتضررين من اجحاف القضاة او اخطائهم وما اكثر تكرار الحالتين.(3)
4- تعد علانية جلسات المحاكمات ضمانة مهمة للمتهم فهي من ناحية وسيلة فعالة ومؤثرة لحماية حقوق المتهم ومنها حقه في عدالة الاجراءات ، فهي توافر رقابة جماهيرية على الاعمال والاجراءات التي يتم اتخاذها من قبل المحكمة مما يدفعها إلى العناية والاهتمام بعملها والالتزام بحكم القانون والابتعاد عن شبهه التمييز والمحاباة وتجنب كل ما من شانه المساس بجسم المتهم . كما انها من ناحية اخرى تجعل حق المتهم في كرامته مصونا من أي اعتداء فلا يجرؤ احد على الانتقاص منه ، ما دامت الجلسة علنية، فضلاً عن ان علنية المحاكمة تمنح المتهم مجالا واسعا للافصاح عن التجاوزات التي قد تكون سلطة التحقيق قد ارتكبتها.بل ان هناك دولا باتت تخصص مكانا للصحافة في قاعات المحاكمة ومقاعد خاصة بالمواطنين للجلوس الى جانب القضاة كوسيلة من وسائل الضغط او المراقبة على القضاة تدفع بهم الى توخي الحذر والدقة في كل حركة وسكنة ونظرة اثناء سير المحاكمة كما في بعض الدول الاسكندنافية. وقد نصت على هذه الضمانة الكثير من الدساتير ومنها الدستور العراقي الحالي ، إذ نصت المادة (19/سابعاً)) منه على أن ( جلسات المحاكم علنية الا إذا قررت المحكمة جعلها سرية ).كما نص المشرع العراقي على هذه الضمانة في قانون التنظيم القضائي رقم (160) لسنة 1979 إذ قضت المادة(5 ) منه على ان ( جلسات المحاكم علنية الا إذا قررت المحكمة جعلها سرية محافظة على النظام العام او مراعاة للاداب او لحرمة الاسرة ويتلى منطوق الحكم علنا ) . كما نصت على ذلك المادة (152) / من قانون اصول المحاكمات الجزائية على انه ( يجب ان تكون جلسات المحاكمة علنية ما لم تقرر المحكمة ان تكون كلها او بعضها سرية لا يحضرها غير ذوي العلاقة بالدعوى مراعاة للامن او المحافظة على الاداب ولها ان تمنع من حضورها فئات معينة من الناس ) ،كما نص القسم (10) من قانون المحكمة الجنائية المركزية على أن((تستمع دوائر المحكمة الجنائية لاقوال الشهود في جلسات علنية....))،كما أجازت البث الاذاعي والتلفزيوني من قاعة المحكمة ،والذي يعد أحد وسائل العلنية،كما نصت المادة(19/ثالثاً) من قانون المحكمة الجنائية العليارقم(10) لسنة2005على مايأتي((لكل متهم الحق في محاكمة علنية،أستناداً الى أحكام هذا القانونوالقواعد الصادرة بموجبه)).(4)
الا ان مايجري في واقع القضاء العراقي،وكمثال ننقله من مراقبة محاكم التحقيق والبداءة والاحوال الشخصية والنزاهة وغيرها من المحاكم في مركز مدينة الناصرية،نجد ان كل قاض فيها قد تحول الى ديكتاتور،فالمرافعة تجري في غرفة القاضي الشخصية لافي قاعة محاكمة،ولايسمح لاحد بالدخول الا من يطلب القاضي حضوره،ويقف في باب غرفة القاضي افراد حمايته الشخصية ومرافقيه ،وما ان تريد الدخول حتى يمسك بك احدهم فيدخلك بعد ان يتلو عليك.....المراسيم او البروتوكولات في الوقوف بين يدي حضرة القاضي الذي سينظر اليك من اعلى نظارته نظرة خاطفة ويتعامل معك وفقا لمزاجه وتقييمه لك،او وفقا لتاثير خصمك. وقد ترى خصمك يدخل قبلك ويجلس في الغرفة قبل ان يؤذن لك بالدخول مما يزيد من قناعتك في نزاهة القضاء.وكثيرا ما يتطاول عليك القاضي برفع صوته او بوسائل اخرى لاتملك معها امكانية الرد لانه سيقرر حبسك فورا بتهمة اخلالك بنظام الجلسة او التطاول على المحكمة .
5- الادعاء العام- وهو في مقام النيابة العامة في مصر،الا انه بخلاف الحالة المصرية يعاني من سكون وخدر اشبه بحالة السبات في الواقع العراقي،يؤدي عملا روتينيا يثبته غياب دور الادعاء العام طيلة عقود خلت قبل سقوط نظام البعث وبعده،بالرغم من مضاعفة الاعداد ثلاث مرات عما كانت عليه في العام 2003(5)،ومع ذلك فقد كانت خطوات المحمود الاصلاحية في هذا المجال هي زيادة تلك الاعداد(استجابة لمطالب الشعب والمرجعية الدينية)!.(6)
ماطرحناه انفا كان من بين اهم الامثلة على واقع القضاء العراقي المتهرئ،ومن بين معايشتنا لذلك الواقع الذي دفع الناس الى اللجوء الى التقاضي عشائريا،والى تفادي التقاضي امام المحاكم العراقية،بل وحتى التهرب من الحضور للشهادة امامها.واذ لانرى فائدة تذكر من ذكر ارقام دعاوى معينة تشهد على فساد القضاة،والمحاكم على مختلف درجاتها،وفساد هيئة الاشراف القضائي وخمولها،وكذلك جهاز الادعاء العام،فاننا نذكر مثالا واحدا ،يدور حول قضية قتل والد المتحدث باسم وزارة الداخلية (الشهيد السيد معن المكصوصي)،ولنتسائل:اذا كان هذا هو الحال مع مثل هذه الحالة ايتها الحكومة الرشيدة،فعلي وعلى غيري من المواطنين،وعلى العراق السلام.
([1]) زهير كاظم عبود،استقلالية القضاء العراقي بين الحقيقة والواقع،مقال على الموقع http://almadapaper.net
(2) قرار محكمة التمييز العدد /63/ الهيأة الإستئنافية/منقول/ 2009
(3)لمزيد من التفصيل حول واقع الاشراف القضائي
http://kitabat.com/index.php?mod=page&num=4904&lng=ar
http://www.aliraqtimes.com/ar/print/23744.html
(4)للمزيد حول ضمانات المحاكمة العادلة ينظر
http://www.fcdrs.com/articles/l13.html
(5)ينظر تصريح المحمود http://www.mustaqila.com/news/139046.html
(6)ينظر تصريح المتحدث الرسمي باسم السلطة القضائية البيرقدار
http://www.iraqakhbar.com/iraq-news/114557.html
هشام حيدر
https://telegram.me/buratha