( بقلم : الدكتور جمال العلي )
أخذت بعثة الامم المتحدة لدى بغداد وفي بيان لها يوم الاربعاء الماضي على السلطات المحلية العراقية عدم الكشف عن العدد الحقيقي للقتلى الذين يسقطون في العراق خاصة خلال الاشهر الثلاثة الماضية ، متجاهلة بذلك الدور الرئيسي لسلطات الاحتلال الامريكي والتي تخالف بشدة هذا الامر وذلك للتضليل على حقيقة ما يجري في العراق خوفا من اتضاح فشل السياسة الاميركية هناك أكثر فأكثر .
وادعى التقرير الفصلي لبعثة المنظمة الدولية في بغداد حول حقوق الانسان "ان حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي توقفت عن اعطاء ارقام تتعلق بالاصابات في العراق .. وانها لم تسمح للبعثة بالاطلاع على ارقام وزارة الصحة حول القتلى !!" ، وذلك سعيا من المنظمة الدولية الى القاء اللوم بتصاعد العنف الدموي على الحكومة العراقية والتضليل على توفيقاتها في مجال تعزيز الامن من خلال خطتها الامنية الحالية .وقد جاء الاعلان عن هذا التقرير متزامنا وليس بمحض الصدفة مع احتدام المواجهة بين ادارة "بوش" والكونغرس الاميركي حول الحرب في العراق وامكانية وضع حد لها باعلان جدول زمني لانسحاب القوات الاميركية من العراق والتي لن يسفر وجودها في بلاد الرافدين وخلال اكثر من اربعة اعوام الا خرابا وتدميرا وارهابا وقتلا على الهوية وتصعيدا للعنف التكفيري الوهابي والسلفي والبعثي المجرم والذي يتم كله بضوء أخضر من سلطات الاحتلال ودعم عربي مجاور وغير مجاور ماليا ولوجستيا وتصديرا للارهابيين عبر حدود هذه البلدان مع العراق .
وبلغ الاحتدام بين البيت الابيض ومجلس النواب الاميركي ذروته بعد ان صادق الاخير وباغلبية 218 صوتا على طرح مشروع " الافراج عن أكثر من 124 مليار دولار مخصص معظمها لتمويل عمليات عسكرية في العراق وأفغانستان, بأن تبدأ عملية إعادة نشر القوات الأمريكية على أبعد حد في اكتوبر/تشرين الأول، ويحدد هدفا غير ملزم لسحب القسم الأكبر من القوات المقاتلة في 31مارس/آذار 2008" يوم الخميس الماضي وبعد معركة الشتائم الحامية بين زعيم الغالبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الاميركي "هاري ريد" وبين نائب الرئيس الاميركي "ديك تشيني" بعد وصف الاول للثاني بأنه "الكلب الهجومي".هذا الامر واجه ردة فعل قوية من قبل ادارة "بوش" والتي قررت " استعمال حق النقض ضده ثم العمل مع المسؤولين في الكونغرس على مشروع قانون بكل بساطة لتمويل القوات مع احترام رأي قادتنا العسكريين" حسبما ذكرت ذلك المتحدثة باسم البيت الأبيض"دانا بيرينو" مساء الخميس ردا على قرار أغلبية نواب الشعب الاميركي المعارضين لاستمرار التواجد العسكري الاميركي في العراق وافغانستان كونه زاد الطين بلة وادى تصعيد عدم الاستقرار وفقدان الامن هناك خاصة في العراق كما اعلنها النائب الديمقراطي "دنيس كوسينيتش" الذي اطلق هو الاخر حملة جديدة تدعو الى اقالة "ديك تشيني" وتقديمه الى المحاكمة بتهمة تلفيق معلومات استخباراتية لتبرير غزو العراق وتهديده بمهاجمة ايران.
ولن ينتهي الصراع بهذا الامر بل سيزداد سوءا خاصة بعد تهديدات "ريد" ورئيسة مجلس النواب الاميركي "نانسي بيلوسي" بأنه في حال نفذ الرئيس تهديده باستخدام الفيتو فهو الذي سيحرم القوات الاميركية من الموارد التي يحتاجونها ... و"بوش" هو الذي يقرر :اما البقاء على سياسة فاشلة في العراق وافغانستان أو الانضمام الينا لتوفير استراتيجية ناجحة لقواتنا تضمن لهم الخروج من هناك " .وقد جاءت تصريحات قائد قوات الإحتلال الاميركية في العراق الجنرال "ديفيد بتراوس" يوم الخميس الماضي والتي وصف فيها الوضع في العراق بالمعقد والصعب جدا، وتوقع أن تزداد مهمة القوات الامريكية صعوبة في المستقبل اذا ما بقيت لفترة أطول هناك معتبرها أكثر الحروب تحديا في التاريخ ، تأكيد على المأزق الحرج الذي تعيشه ادارة "بوش" والقوات الاميركية في وحل المستنقع العراقي وضرورة السعي لاخراجها بألطف صورة وأجملها والحد من تكرار مأساة الحرب الفيتنامية للقوات الاميركية والتي أزدادت هذه الايام مقارنة الحرب على العراق بها .
وخرجا من هذا الوضع المتأزم والحرج نرى سفير اميركا السابق في العراق "زلماي خليل زاد" ينبري متسارعا وفي اول اجتماع لمجلس الامن الدولي يحضره بصفته السفير الاميركي الجديد لدى الامم المتحدة ليقول.."أن مستقبل الشرق الاوسط يشكل تحديا واضحا في هذا العصر" مشبها ذلك بالتحدي الذي فرضته مشاكل اوروبا الامنية في القرن الماضي ، مشيرا الى "ان هناك الكثير من المخاطر في العراق ليس بالنسبة لهذا البلد فقط وانما لمستقبل المنطقة" داعيا الامم المتحدة على لعب دور اكبر هناك سعيا منه لانقاذ نظامه وقواته العسكرية من هذا الفخ الفج العميق والحيلولة دون تكرار فيتنام ثانية .وقد شهدت الساحة الاميركية والاوروبية وخلال الاشهر الماضية موجة كاسحة من التقارير والمقالات والتظاهرات الشعبية والتصريحات السياسية والاكاديمية هنا وهناك الرافضة لسياسة الرئيس الاميركي الفاشلة في العراق والمطالبة بتغيير المنهج الاميركي وضرورة منح الحكومة العراقية الوطنية المنتخبة دورا أكبر في أتخاذ القرارات الضرورية واللازمة لعودة الاستقرار والامن الى ربوع العراق ومنح المواطن العراقي الحرية والديمقراطية تلك التي تمشدقت بها اميركا وحلفاؤها ابان الحرب على العراق في اذار عام 2003 .
ورغم كل التصريحات والادعاءات الاميركية الكاذبة من ان الامور هي بيد الحكومة العراقية ولاعلاقة بالاحتلال لما يدور في العراق ، نرى ان السلطات العراقية لازالت تعاني من مسألة الهيبة والسيادة في القرار فلا زالت الأدارة الأمريكية متحكمة في مصدر القرار العراقي والكل يلتمس هذا الشيء من خلال الامر الواقع خاصة البرلمانيون العراقيون كنواب في البرلمان العراقي وكبار المسؤولين العراقيين كما ذكر ذلك وزير الدفاع العراقي في اجتماعه الأخير مع البرلمان العراقي ولدى استعراضه العديد من العقبات التي يضعها الجانب الأمريكي وخصوصا من ناحية عدم اتمام اعداد وتجهيز الجيش العراقي وكذلك العقبات التي يواجهها الجيش العراقي اثناء عمله.
الامر الذي يدل كل الدلالة على فقدان السيادة الكاملة للحكومة العراقية وهو الامر المقصود من قبل الاحتلال كون ان للادارة الامريكية تطلعات ليست على مستوى العراق فقط، وانما على عموم المنطقة فلها اهداف ومشاريع وهذا واضح من خلال سياستها في المنطقة. وانطلاقا من هذه المهمة نرى ان المحتل الاميركي يستند الى سياسة التفريق بين ابناء الوطن الواحد وبالتالي ينفذ وبهدوء سيناريو الصراع الطائفي والمذهبي كسلاح الى جانب منظومة اسلحته العسكرية ليضمن عدم استقرار الوضع الامني للعراق ومن ثم تعميمه على سائر بلدان المنطقة وبالتالي تعزز الولايات المتحدة موقعها الراهن في العراق معتبرةً ساحته قاعدة متقدمةً للسيطرة على منطقة الشرق الاوسط بذريعة "مكافحة الارهاب العالمي" لتنفيذ مخططها المشؤوم مشروع "الشرق الاوسط الكبير" والذي عجزت حتى الان من تنفيذه .
فالادارة الأمريكية تعاني حاليا من انها في حالة شلل بسبب الوضع الخاص الذي يعيشه الرئيس الأمريكي الى جانب وجود أجندة خطيرة يجب ان تقف عليها كافة الجهات المعنية بمستقبل العراق وتقرأها قراءة ما بين السطور وهذه الأجندة تتعلق بالستراتيجية الأمريكية الجديدة في العراق، لم يكن هناك ولحد الآن اي استجابة لطلب رئيس الوزراء السيد المالكي بخصوص الأسلحة وهو طلب مشروع ويدخل ضمن سياسات الخطة الأمنية الجديدة، وان ما ورد من استجابة لقطاعات شعب العراق بكافة فصائله حول هذه الخطة لا يبعث على الاطمئنان بان هذه الخطة ستحقق الأهداف المنشودة فهناك تصعيد أميركي مع دول الجوار وهناك تغاض من قبل قوات الاحتلال عن العمليات الأرهابية بل حتى هناك بعض الاشارات التي تبعثها لتشجع الأرهابيين وتعطيهم الأمل في مواصلة مسلسلهم الأجرامي وهناك اختلاف داخل الدائرة الأمريكية نفسها والمواطن العراقي هو الذي يدفع ثمن كل هذه المشاكل.ولذا فأن أي علاج للوضع الامني في العراق لايمكن ان يقوم على محور واحد دون تفعيل المحاور الاخرى والتي تشكل مجتمعةً قاعدة الانطلاق لنهاية النفق وفي مسارات متساوية فنجاح الخطة الأمنية لا يرتبط بزيادة الوجود الأمريكي بل بعناصر كثيرة في مقدمتها جدولة الانسحاب والصراع السياسي الدائر في البلاد وتمكين القيادة العراقية من صنع القرار والتنفيذ وتعاون دول الجوار الأقليمي .الدكتور جمال العلي
https://telegram.me/buratha