بقلم : فكري محظور
قال لي صديقي : قبلت يد السيد الصدر وأنا صغير , وفي شبابي أحرقت كتبه ,خوفا , وشردني الجوع والخوف والقلق في بلاد الله الواسعة , ولا أدري متى أرتوي من نبع الشهيد محمد باقر الصدر, الذي ينادي على العطاش , هلموا إلي,انا النبع الذي يرتوي منه الظامئون.فلنتذكر مأساتنا , أما هو فقد حلق عاليا الى السماء , وهيهات اللحاق به .في اليوم الذي استشهد فيه السيد محمد باقر الصدر , كان كل شيء يسير على ما يرام , وكان الجو يبدو عادياً ,ولم يعلم ألا القليل من البشر بأن جريمة كبرى قد تمت في هذا اليوم , بحق الانسانية , وبحق العلم والفلسفة , وبحق الفكر وما يحويه من سمو , ورفعة وسؤدد , لقد نفذ الطغاة الجريمة بهدوء وأعصاب باردة ودم بارد ينم عن عمق تجربتهم بالقتل والتصفية,بعد أن هيأوا أذهان الناس منذ فترة لتقبل سماع خبر الجريمة , عن طريق بث الاشاعات حول مصير السيد رحمة الله عليه, لقد كتب الكثير عن السيد الصدر وعن فكره وحياته وظروف اعتقاله واستشهاده , وقرن الكثير من الكتاب اسمائهم بأسم السيد الصدر , اخلاصا للسيد تارة , وانتفاعا من شهرة السيد لتحقيق الشهرة لنفوسهم تارة أخرى , وهذا غير مستغرب ولا بدع ,فحياة العظماء والشهداء , من الذين تركوا خلفهم آثارا كبيرة , يتمحور حولها الكثير من الناس , ويطوف بفلـكها الكثير من المحبين والاتباع والتوابع والمنتفعين ,ولكن القليل من الناس من يقدر على الاقتراب من حياة العظماء والشهداء هؤلاء , ويفهم دقائق سلوكهم واسباب اختيارهم الطريق التي يتحاشاها الكثير من الناس العاديين , كيف كانوا وكيف عاشوا وبماذا حلموا , ولماذا اختاروا هذه الطريق , رغم أن العروض التي تقدم لهم غالبا , تؤمن لهم مستقبلا هادئا وحياة خالية من الاضطراب , إذا ما قسنا الامور بمقاييس الناس العاديين ,واليوم استغل هذه المناسبة لا لكي اتحدث عن السيد الصدر وعن فلسفته ولا عن حياته ولا عن ظروف اعتقاله واستشهاده , فلن أضيف شيئا لما قد كتب من قبل , ولن آتي بجديد , ولم أكن من القريبين من المحيط الذي عاش فيه الصدر , وأقولها بصراحة , لم أعرف الكثير عن السيد رحمة الله عليه , وهذا ما سوف اكتب عنه , اي اكتب لماذا لم نكن نعرف السيد الصدر,حتى بعد رحيله المأساوي والمفجع, اكتب بعد أن تحقق فينا قول الجواهري في قصيدته التي كتبهاعام1944 م, تحية للرصافي واحتفاءاً به ولكن قبل موته, إذ يقول: وإنيَ إذ أهدي اليك تـحيتي أهُّز بك الجيلَ العَقوقَ المعاصراأهز بك الجيلَ الذي لا تهزه نوابـِـغُه حتى تـزورَ المقابراوسوف اكتفي بلقطات من ذاكرتي قبل أن تصدأ تماما ولن تعود نافعة حينئذ, في نهاية الستينات وربما في بداية السبعينات , لم اعد أذكر بالضبط , تجمع المئات من الناس البسطاء عصر أحد الايام الصيفية , وكنت صبيا لم ابلغ الحلم , في مسجد السيد ( أ ) , في أحد ضواحي بغداد , وكان إمام المسجد قد بنى المسجد من جمع التبرعات من المؤمنين من أبناء المنطقة , وكان معظم الناس في هذا الحي من البسطاء والعمال والكسبة , وصغار الموظفين , ويمتازون بحرارة الايمان والاخلاص لمعتقداتهم , رغم الجهل المخيم على المنطقة والمجتمع الذي اتحدث عنه , وكان إمام المسجد هذا رحمة الله عليه يعمل فيما مضى شرطيا في زمن الزعيم , غير أنه تقاعد , ووجد نفسه إماماً لمسجد المحلة ,وكان رجلا معتدل القامة , يميل الى النحافة , ابيض البشرة والوجه في الدنيا, وإن شاء الله في الاخرة من الذين ابيضت وجوههم ,وكان يعتلي المنبر كل يوم خميس للوعظ والارشاد , بعد صلاة العشاء , وفي الاعم الاغلب كان يستعين بكراسات السيد جعفر شبر ليقرأها على الناس ,رغم أن بصره لم يكن ليساعده في ذلك , فكان كثير التلكؤ وكثير الاخطاء رحمة الله عليه , ولكن ماذا يهم المؤمنين المستمعين إذا مانصب السيد الفاعل أو جعل المفعول به فاعلا , فمعظم الحضور هم أميون , عدا الشباب من الطلبة المتحمسين والمندفعين , وكانت قصص الوعظ تشطح أحيانا , وخصوصا إذا ما ذكرت الجنة والحور العين , وأنهار الخمر واللبن والعسل المصفى الذي لم نكن نحلم أن نراه يوما , رغم أننا غالبا ما كنا نلسع من قبل النحل , ولا أدري لماذا لهم الشهد يجتنى , ولنا اللسع بالابر, والحديث عن الحور العين يمتد ويمتد الى نصف الليل وخصوصا بعد أن ينفض الجمع المؤمن , ولم يبق إلا السامر, الجائع الى النجوى الى اللدات للسمر كما يقول ابو فرات , وكنت ملتصقا بوالدي رحمه الله لا أفارقه حتى في هذه الاوقات والتقط كل مايقولون , واتعجب مما يقولون , واذكر الوجوه المندهشة والعيون المفتوحة والافواه الفاغرة وهي تسمع السيد (أ ) يحدث ان المسافة بين نهدي الحورية هي مسيرة خمسمائة عام وتنطلق الحناجر بالصلاة على محمد وآل محمد ,رغم الحيرة المرتسمة على الوجوه في كيفية الاستفادة من هذا الوضع المتسع. في هذا الجو , كان الناس ينتظرون زائرا قادما من بلد العلم بلد الحوزة الشريفة , من النجف الاشرف, لم يسمع عنه الكثيرون ,وجاء الزائر عصر ذلك اليوم ,محاطا بهالة قدسية من الاحترام والتوقير, وكان الكثيرون لا يعرفون اسمه , وقد سألت والدي عن هذا السيد القادم فأجابني السيد الوالد رحمة الله عليه إن هذا السيد هو بن السيد حيدر الصدر!! , وقد لفت انتباهي من السيد بشرته وشارباه وكان يميل الى البدانة على ما أذكر,ولا ادري بم كان يفكر السيد وهو يرى تلك الوجوه الشاحبة وهي تنظر اليه بقدسية , وإجلال كبيرين , رغم أنهم لم يعرفوا من هو هذا السيد وماذا يعني محمد باقر الصدر في عالم الفكر والفقاهة , وعلى أية حال , وأنا أتذكر هذه الاحداث غير المهمة بالمرة أستنتج منها نتيجة يبدو لي أنها مهمة , وهي أن الناس لم يكونوا يعرفوا شيئا مما يدور في الحوزة العلمية سواء في النجف او في كربلاء او في سامراء او في الكاظمية ,ولم تكن اللحمة بين الحوزة كقيادة والناس العاديين من المؤمنين , قوية بما يكفي لحماية الحوزة والناس معا من الخطط الشيطانية التي كانت تحاك في الخفاء , وكما قيل , الناس في غفلاتهم ورحى المنية تطحن ,والمؤامرات التي يحوكها الظلاميون , من علمانيين وقوميين ومغامرين وأذناب المستعمر الاجنبي ,كانت أكبر مما كان يظن علماؤنا الاعلام من المراجع العظام رحمهم الله تعالى , وتشابك المصالح وتقاطع الارادات , يحتاج إلى مؤسسات بحثية عالية التخصص لرصده ,وهذا لم يكن موجودا في الحوزة العلمية مع الاسف الشديد , وهذا ما انعكس تأثيره على الشارع في ما تلا من الاحداث, أعجبت بالسيد الصدر , وخصوصا بعد أن حصلت على نسخة من كتاب الاسس المنطقية للأستقراء , أول كتاب إطلعت عليه للسيد الصدر , وكان عمري خمسة عشر عاما , وكنت اقلب صفحات الكتاب متعجبا من المعادلات التي كتبها السيد الصدر , ويزداد عجبي أنني أقرأ الكتاب ولم أفهمه وهو مكتوب بالعربية , وكثيرا ما كنت أناقش زميلا لي من أترابي, وهو يحمل اليوم شهادة الدكتوراه في النقد الادبي , والحق الحق أقول لكم , كان الكتاب اكبر منا بكثير, ومضت السنون, وحرقت كتب السيد بعد أن دفنت وأكلتها ديدان الحديقة , ولم نفهم ماذا كان يقول السيد في كتابه , رغم حرصنا على الفهم وأصرارنا عليه ,واليوم وأنا أقف على أعتاب الخمسين أرتعش حينما اتصفح كتاب الاسس المنطقية للأستقراء ,وأرسم فوق شفتي بسمة محملة بالاسى الشفيف ,متعجبا من اندفاعنا وفضولنا , ومن سلبية المجتمع وجهله , فلو كان السيد الصدر رحمه الله تعالى يعيش في دولة تحترم الفكر , وتحتضن العلماء والمفكرين وترعاهم ,لأثرى الفكر الانساني أضعافا مضاعفة ,ولكن , وآه من لكن وما بعدها , الشهوة للتسلط على الرقاب , والهمجية التي تسيطر على سلوك المغامرين السياسيين في شرقنا المغبون ,افسدت كل شيئ في حياتنا, ولو كنا في مجتمعات تحتضن الشباب المتحمس والمتعطش للمعرفة لتغير مستقبلنا ومستقبل مجتمعنا كثيرا . لقطة ثالثة التقطها , في نهاية السبعينات وبعد ان اشتد السعار البعثي , واطلقت كلاب البعث تنهش القوى الوطنية العراقية لتصفيتها,كان الشيوعيون الضحية السمينة التي يجب ان ينحرها النظام على مذبح الحكم لكي يتعمد العهد البعثي الجديد بالدم , كما هو ديدنه , رغم شعار الثورة البيضاء المرفوع رسميا وإعلاميا . تساقطت الضحايا إثر الضحايا , وفر من فر وعذب من عذب حتى الموت , وخنس الكثيرون , وكان صديقنا مهدي , الشيوعي بالحث والمندفع بشيوعيته , والمتفاخر بها ,والذي لم يقرأ يوما,أدبيات ومنشورات الحزب الشيوعي , ولم يطلع مطلقا على الفكر الماركسي , واكاد أجزم , بأنه لو اطلع على هذا الفكر فلن يفقه منه شيئا , والسبب ببساطة , أن الرجل نصف متعلم أو قل إن شئت شبه أمي . كان صديقنا واقفا على ناصية الشارع , حينما رآني أحمل كتابا اخضر اللون , وأحاول جاهدا إخفاءه عن أعين الناظرين , خوفا من أن يصطادني كلب صيد بعثي , استوقفني , للحديث , وتناول الكتاب , وأخذ ينظر فيه مليا , ثم زم شفتيه ممتعضا , وقال مع الاسف , كنت أحترمك كثيرا , والان سقطت من نظري , قلت له لماذا ابا صالح تقول هذا الكلام؟ , أجاب لماذا تضيع وقتك في قراءة هذه الكتب الرجعية , قلت وقد اعتراني الخجل , فالرجل يكبرني بعشر سنين , تقصد هذا الكتاب ؟ إنه كتاب فلسفتنا للسيد الصدر , قال وماذا يعرف هؤلاء المعممون الرجعيون من الفكر والفلسفة ؟ قلت له لا ادري ما تقول ولكني لم أطلع على الكتاب وقد اشتريته للتو.وبعد أن استشهد السيد الصدر , كان صاحبنا من أشد المدافعين عن السيد الصدر ,واكثرهم حماسا له ,وكم تخيلت لينين وهو ينظر صاحبنا شزرا ومؤنباً, والسيد الصدر يرسم ابتسامة حزينة شفيفة , شفقة بصاحبنا وهذه الذكرى البسيطة هي درس يحسن الوقوف عنده والتنبه له , وهو سطحية الكثير من الشباب الذين كانوا يملأون الدنيا زعيقا بأفكار لم يطلعوا عليها ولم يستوعبوها تماما, مثلهم مثل صاحبنا القيادي البارز في الحزب الشيوعي العراقي , والذي جمعتني وإياه الغربة في بعض بلاد الله الواسعة , وكنا نتجاذب أطراف الحديث , عن النظام ومستقبله , وهذا كان قبل السقوط المدوي للنظام العفن , فقادنا الموضوع الى عدد الشهداء الهائل الذين قدمهم العراق منذ إعتلاء عصابة العفالقة سدة الحكم في العراق , وإذا بصاحبنا القيادي الشيوعي يفتخر ويترحم على الشهداء الذين قدمهم الحزب الشيوعي العراقي خلال مسيرته النضالية , وهنا اعترضت عليه قائلا:مع احترامي لتاريخ الحزب الشيوعي وتضحياته,إلا أن الحزب الشيوعي لم يقدم شهداء للعراق , فاحتقن وجهه وانتفخت أوداجه وهو يرد علي , ولماذا تشوه التاريخ ,الم يقدم الحزب الشيوعي شهداء لأجل العراق؟ , وهنا أجبته باسما , صديقي العزيز : مفهوم الشهادة ياصديقي مفهوم إسلامي , والشهيد انما يتخذه الله ليكون شهيدا يوم القيامة , فاذا كنت شيوعيا قحا ومخلصا لأفكارك فليس لك ولا لحزبك نصيب من الشهادة , لأن هذه الامور مفاهيم ميتافيزيقية بنظرك وبنظر الشيوعيين !!!إنك تنكر وجود الله وتطالبه بان يجعل ضحاياكم شهداء عنده يرزقون !ويدخلهم الجنة التي لا تؤمنون بها اللقطة الرابعة لقطة سريعة : وقفت قبل عام تحديدا امام احدى المكتبات , اتصفح العناوين المعروضة لعلي أجد بعض ما أريد ,فهزني الشعور بالنشوة والاحساس بانتصار المظلوم ,ففي عام 1980 احرقت( خوفا) كل كتب السيد الصدرالموجودة لدي , وبعض الكتب الاسلامية الاخرى , لتعرض بيتنا للتفتيش من قبل كلاب البعث اكثر من مرة, قلت في نفسي , وأنا أطعم النيران , خلاصة الفكر الانساني الراقي , ويحك نفسي لا تجزعي , سوف يأتي اليوم الذي اشتري فيه هذه الكتب مرة ثانية , لأن الفكر لن يموت , واليوم ذهب جلادو السيد الى مزابل التاريخ , واسم السيد الذي كنا نخشى من الهمس به اصبح شمسا حارقة تقض مضاجع الخفافيش , من القتلة وكلاب البعث , ووحوش التكفير الكواسر الهمج .والساعات التي قضاها السيد رضوان الله تعالى عليه في الدرس والتاليف والبحث العلمي , آتت أُكلها ضعفين , وأثمرت علماء محققين رفعوا لواء السيد العلمي , أما ساعات التآمر والتعذيب والمجون التي كان كلاب النظام العفلقي العفن , يغوصون فيها , فقد ذهبت أدراج الرياح , ولم يبق منها غير الغم الذي سوف يستقبلهم يوم القيامة إن شاء الله. وقد قال الله تعالى " ( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ) (17) سورة الرعد وأخيرا اتمنى ان يأتي اليوم الذي نحتفي فيه بمبدعينا من علماء وادباء وفلاسفة وممثلين ومسرحيين وفنانين تشكيليين وغيرهم من قادة الفكر والفن والادب والفلسفة , على ارض وطننا العزيز الحر , وهم أحياء معززين مكرمين يرفلون بالعز والكرامة وتعلو هاماتهم اكاليل الغار والمجد والسؤدد , ترى متى يحدث كل هذا , عسى ان يكون قريبا ودمتم محروسين فكري محظوراشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha