الاستاذ الدكتور حيدر كريم سكر ||
تعددت التوجهات في علم النفس التي تناولت الابعاد الاساسية للشخصية ومكوناتها ، وهذه التوجهات حاولت تفسير الظاهرة النفسية وخصوصا بناء الشخصية وصفاتها وابعادها ، في محاولة لفهم وتفسير ما يصدر من الشخص من سلوكات وافعال اثناء تفاعله مع المواقف الحياتية ، ومن بين هذه التوجهات ما قدمه اريك فروم من تصورات حول الشخصية وفهم السلوك الانساني ، فهو يشير الى ان هناك اربع حاجات اساسية اذا ما تم اشباعها فان الشخص هنا سوف يشعر بالتوافق ، والتوافق هنا هو فهم الانسان لنفسه وامكاناته وقدراته ورضاه عن هذه الامكانات والقدرات ورضا الناس عنها ، ومن بين هذه الحاجات الحاجة الى الانتماء ، والانتماء هنا قد يكون الى العائلة او جماعة معينة او العمل ، معنى ذلك يحاول الشخص ان يكون منتميا الى جماعة معينة والحاجة هنا تاتي بمعنى الارتباط بالجذور او الاصول ، وهذا ما يمكن ملاحظته هنا اثناء الزيارة الاربعينية ، اذ ان حالة الانتماء الروحي والشعور بالارتياح والامان ناتج من الشعوربالانتماء الى ذلك الامام الذي حارب الظلم والطغيان وخروجه لاحقاق الحق ونصرته ، لذا نلاحظ ان هذا المد المليوني الذي يتكرر كل سنة هو احساس من قبل هذه الملايين بالانتماء الروحي ، هذا الانتماء الذي يشعرهم بالامان والطمانينة والسكينة ، ويولد لديهم الشعور بالزهو والفخر على اعتبار بان الزهو والفخر نابع من الاحساس ان الامام الحسين عليه السلام خرج على الظلم والفساد والاستعباد ، وان ما يصدر عن الامام الحسين من حركة وفعل يسمو على الطبائع البشرية ، وان كل ما يقدمونه لايرتقى لما قدمه الامام الحسين هو ما يجعل هذه الملايين تعبر بالامتنان لامامهم الذي انار لهم طريق الحق واصبحوا يستمدون القوة من رمزيته التي يحملونها في وعيهم اتجاه هذه الشخصية العظيمة ، كذلك احساسهم بالحاجة الى اطار مرجعي ثابت ومستقر يستطيعون عن طريقه تنظيم مدركاتهم وتكوين حس معين اتجاه ما يتعرضون له ، وكذلك حاجتهم لان يصبحوا واعين لانفسهم كافراد متميزين ومنفصلين ، كذلك انهم يعتقدون بان الحب الحسيني ينمو ويستمر بالقيم السامية التي مثلّها وليس فقط لأنه ظلم وقتل، ومن جانب اخر أن يوم الأربعين يمثل لديهم أحد هذه الشعائر وهي هنا بمثابة العلامات التي تقود الإنسان إلى ربه من خلال تجشم العناء في زيارة أوليائه والوصول إلى الله عن طريق هذه الشعائر يتم عبر سيد الشهداء لأنه من أولياء الله وكأن السير نحوه بمثابة السير نحو الله تعالى .
ومن الدلالات النفسية ايضا التي يمكن قراءتها من الزيارة الاربعينية هو الجانب الاخلاقي وما يمثله هذا البعد من اهمية كبيرة في الشخصية اذ تستخرج الكوامن الأخلاقية والصفات النفسية الكامنة، وتكشف عمليّاً عن المستوى الأخلاقي ودرجته، سواء في السفر أو في درب المشاية والتعامل مع الآخرين وتدارك المواقف. ومن هذه المعطيات الأخلاقية: الصبر والتواضع والإيثار والتضحية بالمال والوقت وبذل الجهد وخدمة الآخرين وتقديم المساعدة، والتعاون، والعفة، والعفو، والحلم، والأدب واحترام حرمات الطريق وغيرها من المعاني الفاضلة، وتعد هذه هذه السلوكات بمثابة ادلة تكشف عن رقيِّ نفس الإنسان وتؤهلها للتضحية الأعظم لأجل المبادئ والقيم السامية وتساهم في تربية النفس وترويضها لتكون لائقة بحمل أبعاد القضية الحسينية، والاقتداء بها، كما تولّد حالة من التفاعل الروحيّ والنفسيّ بما يؤدّي إلى إيقاظ أسمى معاني الخُلُق الرفيع.
وهنا يمكن توضيح ذلك عن طريق نظرية النمو الاخلاقي التي قدمها كولبرج والتي قسم فيها النمو الاخلاقي الى ثلاث مستويات ما قبل التقليدي والتقليدي وما بعد التقليدي وكل مستوى يتضمن مرحلتين ففي المستوى ما بعد التقليدي هناك مرحلة تسمى المبادئ العالمية ، اذ يعتقد " كولبرج " ان القرارات التي يصدرها الفرد تنبثق عن نظام شخصي من القيم وهذا النظام يعتمد على مباديء عالمية مثل العدالة والمساواة والحقوق الانسانية واحترام كرامة الانسان ، فالفرد هنا يطور نظام من القيم خاص به ينسجم مع الضمير ، فاذا تعارض القانون مع الضمير فيجب ترجيح كفة الضمير اي ان السلوك الصحيح يتحدد عن طريق مباديء الضمير المختارة ذاتيا والتي تتميز بالصدق في كل المجتمعات بغض النظر عن القانون والاتفاق المجتمعي ، وهذا ما يمكن ملاحظته بما يمثله الامام الحسين لدى الزائرين وحالة التماهي والذوبان مع هذه الشخصية وجعلها مرجعا لسلوكاتهم
يعتقد كولبرج ان الافراد في هذا المستوى فقط يطورون ضبطاً داخلياً حقيقياً على السلوك ، فالمباديء التي يعيشون بناءً عليها هي معايير مشتقة ذاتياًاكثر من كونها تقاليد يصنعها مجتمعهم ، بالاضافة الى ذلك تعكس الدوافع الشعور بالالتزام للعيش ضمن نظام تحدده مباديء الفرد ، فالشخص هنا يتحرر في هذا المستوى من قيود السلطة والمجتمع فهو لايقبل القوانين ويؤيدها إلا بعد ان يقوم بتحليلها والتفكير بها ، اي انه يتحرر من الالتزام بحرفية القوانين مؤكداً على ضرورة التعامل مع روح القانون عند اصداره لاحكامه الخلقية ، فهو يعرف الاخلاقية بلغة المباديء والقيم المجردة التي تنطبق على كل المواقف والمجتمعات ، وهذا ما يمكن ملاحظته من تنوع زائري الامام الحسين كونهم يحملون جنسيات مختلفة والذي وحدهم هنا هو ما يمثله الامام الحسين لديهم من قيمة انسانية عليا .
فالمشي وإن كان متعباً ، "إلا أنّه يعد مواساة لأهل البيت، اذ لايشعر الشخص بالتعب، لانه يعتقد أنّ ما سيصل إليه أجمل، وذلك الجهد يكون مفرح مما تولد لديه حالة من الارتياح النفسي
ايضا يمكن لنا ان نلاحظ ان زيارة الأربعين توفر فرصة لالتقاء شتى الحضارات الشرقية منها والغربية بما يكفل لكل زائر أن يخرج بحصيلة معرفية ومبادىء متنوعة المصادر ففيها تجد الشرقي والغربي ومن شتى الأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية في حالة من التوائم والتعايش
كما ان زيارة الأربعين بما لها من خلفية دينية عاطفية فكرية تملك من الدافعية المحركة على العمل التطوعي قدرا يفوق كل الإمكانات المؤسساتية العالمية في هذا المجال فعلى مدى آلاف الكيلو مترات ومن جميع الاتجاهات المؤدية إلى كربلاء ولعدة أيام تجد الشيبة والشباب؛ الرجال والنساء في حركة متواصلة يبذلون جهودا جبارة وأموالا طائلة عن قناعة وإخلاص دون أدنى تذمر أو إحباط ودون أي أجر مادي
ايضا ان زيارة الاربعين عملت على تكريس ثقافة التكافل الاجتماعي، الذي يعد قيمة إنسانية قبل أن تكون من المباديء الدينية ويعد هذا المبدأ من أهم المبادئ التي تضمن للإنسان حد الكفاف على اقل التقادير بما يمنحه حياة كريمة بعيدة عن الذل والامتهان
ومن أهم السمات التي يكتسبها الانسان في زيارة الاربعين هي سمة العطاء الذي يورث بدوره خصالا اخلاقية وانسانية كثيرة من قبيل الكرم والجود والايثار وتغييب البخل والانانية والحب المفرط للذات
ايضا من الدلالات النفسية التي يمكن ان تظهرها الزيارة الاربعينية انها توضح لنا كيفية القضاء على التمييز العنصري وتكريس ثقافة المساواة والتواضع والتذكير بالاخوة الانسانية عامة والاسلامية خاصة ، لما تشيعه من قيم دينية ومبادئ انسانية ورصيد فكري رصين تمكنت من اذابة جميع الفوارق العنصرية بين الحشود المليونية الزاحفة الى كربلاء اذ تجد فيهم شتى الجنسيات والقوميات والاديان والاتجاهات الفكرية كما تجد الاسود والابيض وقد تساوى الجميع في ( الملبس، المطعم، المجلس، المنام، الخدمة) بل يسير بعضهم الى جنب بعض في اجواء مشحونة بالاخوة والمحبة ونسيان الذات وكأنهم تخلوا عن جميع الفوارق .
وقد يتساءل البعض لماذا التكرار لهذه الزيارة كل عام وباعداد متزايدة ، هنا يمكن النظر اليها عن طريق مفاهيم المدرسة السلوكية وبالذات مفهومي التكرار والتعزيز ، فالسلوك يقوى ويستمر اذا ما تم تعزيزه ، والتكرار ايضا يجعل الفرد يكتسب السلوك ، هذين المفهومين يولدان نوع من حالة الارتياح الناتج من الحصول على المكافاة والثواب والانسان بطبيعته يكرر السلوك الذي يحصل عن طريقه بالارتياح ، لذا حالة الارتياح المتولدة هنا هي ما يناله الزائر او الخادم الحسيني من الرضا والقبول عند الاخر وايضا عند الله سبحانه وتعالى لانه يعتقد ان هذه الشعائر سوف تقربه ، كذلك الاعتقاد بان الاثابة التي يحصل عليها تجعله يواظب على تكرار السلوك والاثابة هنا هي حالة الرضا الداخلي التي يشعر بها بانه يقدم ما يقربه من امامه ومن الله سبحانه وتعالى مما يولد لديه حالة من الارتياح الداخلي لذا تجد معظم الزائرين عند سؤالهم عن مقدار التعب الذي يشعرون به يقولون ليس هناك من تعب بقدر ما هنالك من حالة ارتياح وهنا الارتياح هو نفسي اكثر مما هو جسدي .
https://telegram.me/buratha