د.سوزان زين ||
إنّ الحديث عن كيفية إدارة الأزمات ما بعد الحرب في ضوء مواقف السيدة زينب (ع)، يدعونا للعودة إلى إرثنا الغزير والنبع الفيّاض المتمثل بسيرة وفكر أهل بيت النبوة (ع) في الإدارة، وعدم الإكتفاء بنظريات وأدبيات علم الإدارة الحديث.
لقد استطاعت السيدة زينب (ع) بقدرة ما أعطاها الله من حكمة وحسن تصرف وعلم من أن تدير تلك الأزمة بوعيٍ واقتدار، تماماً كما قُدّر للأنبياء والأئمة والأولياء الصالحين، فكانت بحق بطلة كربلاء، لما تحلّت به من أهلية وابداع وريادة في إدارة الأزمة وتحقيق الأهداف والنتائج التي كان يرنو إليها سيد الشهداء الحسين (ع)، فأكملت رسالة أخيها في حفظ الدين وحفظت الإمام زين العابدين وأهل بيت الرسالة (ع) من الهلاك وفضحت النظام الأموي وعبّأت الأجواء واستنهضت الناس للقيام بالثورات...
إنّ ما مرّت به السيدة زينب بنت أمير المؤمنين (ع) عقيلة بني هاشم من أحداث سبقت عاشوراء وتلتها، ينطبق عليه مفهوم الأزمة، لأسباب عدة أهمها :
تعرّض آل بيت الحسين (ع) وأصحابهم لأحداث عنيفة هددت حياتهم، كذلك واقعة الطف كانت نتيجة تعارض المصالح بين فريقين أحدهما أراد للمصلحة الإلهية أن تكون هي السائدة، والآخر أراد إبراز مصلحته الشخصية والفئوية وإعلاءها وهي المصلحة الغير إلهية، فدفعت المصلحة الفاسدة أهلها إلى تخويف تلك الأسرة الطاهرة وترويعها وعملوا بها ما عملوا حتى حرفوا الحقائق وبدؤوا بتضليل الرأي العام بأن هذه المجموعة من الأطفال والنساء وذلك العليل هم من الخوارج على الخليفة الشرعي كما يدعون يزيد.
إن ما يثير تساؤلنا هو:
- كيف مرت تلك الأزمة على السيدة زينب (ع) وكيف أدارتها؟
-هل كانت تلك الإدارة عشوائية أم مخطط لها مسبقاً؟
-هل كانت السيدة زينب (ع) مؤهلة لأن تقود أزمة؟
وللإجابة على هذه الأسئلة، نُبيّن الأهداف التي حققتها أو سعت إلى تحقيقها السيد زينب (ع)، ومن ثمّ أبرز المواقف التي اتخذتها (سلام الله عليها) والتي تُظهر أهليّتها وسماتها القيادية من جهة ومدى كفاءتها في إدارة الأزمة وما تلاها من أحداث.
أهداف السيدة زينب (ع)
إستطاعت السيدة زينب (ع) بقدرة ما أعطاها الله من حكمة وحُسن تصرّف وعلم من أن تُدير تلك الأزمة في كربلاء وما بعدها باقتدار، تماماً كما قُدّر للأنبياء والأئمة (ع) والأولياء الصالحين، فلُقّبت بـ "بطلة كربلاء".
وقد تجلّت إدارتها من خلال المواقف العظيمة في كربلاء وما بعد كربلاء. ومواقف هذه السيدة الجليلة عديدة، لا يُمكن إحصاؤها جميعها في هذه العُجالة، لكننا سنشير إلى بعضٍ منها على نحو الإيجاز والإختصار والتي تُظهر كيفية إدارتها (ع) للأزمة في كربلاء وما بعدها، ومدى أهليّتها والقدرات والخصائص التي تحلّت بها.
لكن قبل ذلك، دعونا نُجمل ونُلخّص الأهداف التي حققتها السيدة زينب (ع) من خلال إدارتها للأزمة:
- تثبيت النصر لمحور الحق الذي مثّله الإمام الحسين (ع).
- حفظ الإمام زين العابدين (ع) من القتل، بما يُمثّل من حجة الله على عباده بعد أبيه سيد الشهداء (ع).
- حفظ أهل بيت الرسالة من الهلاك.
- فضح النظام الأموي وتوجيه الضربة القاضية له.
- تعبئة الأجواء واستنهاض الناس للقيام بالثورات والإنتفاضات.
- إكمال رسالة الحسين (ع) في حفظ الدين وأداء الرسالة.
أبرز مواقف السيدة زينب (ع)
أذكر أبرز المواقف التي اتخذتها (سلام الله عليها) والتي تُظهر – كما أسلفنا – أهليّتها وسماتها القيادية، وكفاءتها في إدارة الأزمة وما تلاها من أحداث:
- موقفها بعد استشهاد أخيها الحسين (ع):
بعد أن استشهد الإمام (سلام الله عليه)، هجم جيش ابن زياد على الخيام طمعاً في المال! وحوشٌ كاسرة ممّن ليس لهم ذمّة ولا عهد ولا نُبُل هجموا على مخيّم الحسين (ع)، فأدّى هجومهم إلى فرار أولاد الإمام الحسين (ع) والنساء.. تفرّقوا إلى الصحراء وفي كل مكان.
بعدما صار الليل، زينب (ع) كانت هي الوحيدة المسؤولة بعد أن تفرّق الجيش عن تجميع هؤلاء الأولاد وتعطيهم غذاءً أو لباساً أو تعطيهم الماء وأمثال ذلك.. فقامت بواجبها تجاههم، وحفظت بذلك أهل بيت النبوة من النساء والأطفال، فكان ذلك من نتائج إدارتها الحكيمة..
موقفُها الذي حفظت به رسالة الحسين (ع) في أداء الرسالة بقوة واعتزاز:
في صباح اليوم الحادي عشر من محرّم، بدأ جيش "عمر بن سعد" بدفن قتلاه، ثمّ تركوا جسد الإمام الحسين (ع) وأجساد آل البيت وأصحابه في الصحراء، وحملوا رؤوس الشهداء على الرماح وأخذوا النساء سبايا واتجهوا نحو الكوفة ليقدّموهم إلى "ابن زياد".
لكن، طلبوا أن يأخذوا النساء والأطفال حتى يزوروا مصارع آبائهم، ولا يُمكن أن نفهم السبب إلا في إطار التشفّي والحقد الموجود في نفوس "عمر بن سعد" وجماعته، وإلا كيف نُفسّر أخذ النساء والأولاد إلى أجسادٍ بلا رؤوس، مقطّعة وممزّقة..
هنا يظهر موقفٌ آخر للسيدة زينب (ع)، يُظهر مكانتها بأنها لم تكن إمرأة عادية تبكي وتنوح أمام هول المشهد، بل تُريد إكمال دور أخيها (ع).
وصلت إلى الأجساد مع بقية النساء والأطفال، دنت من الجسد الطاهر لأبي عبد الله (ع)، مدّت يديها تحت الجثمان ورفعته نحو السماء وقالت: "اللهم تقبّل منّا هذا القربان". بمعنى آخر، تريد أن تقول: نحن قدّمنا الحسين (ع) قرباناً على مذبح الحرية لكي نحافظ على الدين ونحافظ على كرامة الإنسان.
في هذا الموقف، حفظت السيدة زينب (ع) رسالة الحسين (سلام الله عليه)، والجميع شعر بما فيهم الأعداء أنّ زينب (ع) مستمرّة بكل قوة وإباء واعتزاز في أداء الرسالة ولا تريد أن تضعف أو تستسلم.
موقفها مع "ابن زياد" في الكوفة:
حين دخلوا إلى الكوفة، لا شكّ أنّ أهل الكوفة احتفلوا وحاولوا أن يستقبلوهم بفرحٍ وسرور. لكن سرعان ما عرفوهم؛ لأنّ زينب بنت علي (ع)، كانت الكوفة عاصمته، حيث حَكَمَ فيها خمس سنوات، حكم العالم الإسلامي الواسع من الكوفة. وكما هو معروف، فإنّ زوجته السيدة فاطمة الزهراء (ع) كانت متوفية، فإذاً بإمكاننا القول أنّ زينب (ع) كانت تقوم بدور سيّدة البيت، فنساء الكوفة كنّ يعرفنها وهكذا جميع أهل الكوفة.
دخلت زينب (ع) مقرّ خلافة والدها بحالة السّبي، لكنّ أعداءها أضعف من أن يفرضوا عليها الذلّ. حين التقت بأهل الكوفة بدأت تتحدث، وبدأ أهل الكوفة يسمعون صوتها، وعلى حدّ تعبير بعض المؤرخين، كانوا يسمعون صوت "علي بن أبي طالب"، كأنها تُفرغُ عن فم عليّ (ع). عند ذلك بدأ الناس يبكون ويحزنون، فزينب (ع)أنّبتهم وقالت لهم: يا أهل الكوفة..يا أهل الختل والخذل، أتبكون وتنتحبون؟ إلى أن قالت: إي والله فابكوا كثيراً، واضحكوا قليلاً، ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أيّ كبدٍ لرسول الله (ص) فريتم؟ وأيّ دمٍ له سفكتم؟ وأيّ حرمةٍ له انتهكتم؟
بهذه الكلمات كانت السيدة زينب (ع) تُمهّد للثورة، تمهّد للتغيير، تُحاول أن تؤنّب هذه الضمائر النائمة لتوقظها، لا تريد التشفّي منهم بل تريد أن تُعلّمهم المسؤولية، تريد أن تبعث فيهم الروح النضالية بعد الفترة الطويلة من الهمود والتسليم.
أيضاً، في قصر ابن زياد، دخلت زينب (ع) وما سلّمت طبعاً. "ابن زياد" قال: من هذه المتكبّرة؟ قالوا: هذه زينب بنت علي.
قال لها: يا زينب! كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ فقالت: ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قومٌ كُتب عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم.
بعد ذلك قال: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم. فقالت له – برباطة جأش – "إنّما يُفتضحُ الفاسق، ويُكذّبُ الفاجر، وهو غيرُنا".
ثمّ جرت أحاديث كثيرة بين السيدة زينب وابن زياد، وبين الأخير والإمام زين العابدين (ع)، وقد حاول قتل الإمام السجاد، فمنعته زينب (ع)، كما حاول قتلها، فلم يُوفّق إلى ذلك نتيجة لوجود الرأي العام.
إذاً، زينب (ع) أدّت دورها في الكوفة ، فعبّأت الأجواء فيها، الكوفة التي كانت عاصمة لقتل الحسين (ع)، يخرج منها بعد فترة وجيزة "التوابون" الذين ندموا على دعائهم الحسين (ع) إلى النصرة ثمّ خذلانه، ورأوا أنه لا يَغسل عارَهم والإثم عنهم إلا بقتل من قتله أو القتل فيه، ثم كانت ثورة المختار الثقفي علم 66 للهجرة طالباً ثأر الحسين (ع).
كذلك الأمر، كانت مواقفها في الشام وفي المدينة، حيث بيّنت الحقائق للناس الذين ظنوا في البداية أنهنّ من المارقين عن الدين، ففضحت بذلك أعمال يزيد وجرائمه التي ارتكبها بحق أهل البيت (عليهم السلام). وكان من أهم آثار ذلك ثورة المدينة بقيادة عبيد الله بن حنظلة (غسّيل الملائكة).
وهكذا استطاعت زينب (ع) أن تُكمل المسيرة مسيرةَ الحسين (ع)
كلّ ذلك، كان نتيجةً لمواقف هذه السيدة العظيمة التي استطاعت أن تُرسي قواعد لجميع العالم الذين كانوا في زمانها وللذين جاؤوا بعد ذلك، في كيفية إدارة الأزمة وما بعدها بحكمة واقتدار.
يمكننا الجزم بعد كل ما ذكرنا ، أنّ إدارة السيدة زينب (ع) للأزمة التي حصلت وللأحداث التي تلتها لم تكن عشوائية، بل كان مخططاً لها، وقد تكاملت شخصيتُها مع الأحداث التي عاينتها عن قرب، والإستفادة من تجارب قادة الأزمات الربانيين الكاملين، والدِها أمير المؤمنين (ع) وأمها الزهراء (ع) وأخويها الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة.
لذا عندما وصلت النوبةُ إليها في إدارة الأزمة، نجدها قد طبّقت الوسائل والأساليب ذاتها التي سلكها أصحابُ الكساء، من احتواء الأزمة وتفريغها من مضمونها وتصعيد الأزمة وعكسها على مسبّبها، فدارت الدوائر على يزيد وانقلب السحر على الساحر، فوجّهت الضربة القاصمة إلى أركان النظام الأموي، أدّت إلى زوال تلك الدولة تباعاً بعد فترة وجيزة، بعد قيامها باستنهاض الناس وتعبئة الأجواء لانطلاق الثورات والإنتفاضات الشعبية.
فقدّمت بذلك نموجاً يُحتذى به في كيفية إدارة الأزمات بحكمةٍ واقتدار.
https://telegram.me/buratha