د.مسعود ناجي إدريس ||
سؤال:بالنظر للاية 154 الى 156من سورة البقرة فهل الهدف من الامتحانات الالهية معرفة الخالق ام المخلوق ؟
جواب: الآيات السابقة عرضت مفاهيم التعليم والتربية والذكر والشكر، وهي مفاهيم ذات معنى واسع جداً، وتتضمن أغلب التعاليم الدينية، وفي الآية الاُولى من الآيتين بحثنا دار الحديث حول الصبر الذي لا تتحقق المفاهيم السابقة بدونه. تقول الآية أوّلا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاة } .
واجهوا المشاكل والصعاب بهاتين القوتين، فالنصر حليفكم: { إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابرِينَ } .
خلافاً لما يتصور بعض النّاس «الصَّبْر» لا يعني تحمل الشقاء وقبول الذلة والإستسلام للعوامل الخارجية، بل الصبر يعني المقاومة والثبات أمام جميع المشاكل والحوادث.
لذلك قال علماء الأخلاق إن الصبر على ثلاث شعب:
الصبر على الطّاعة: أي المقاومة أمام المشاكل التي تعتري طريق الطاعة.
الصبر على المعصية: أي الثبات أمام دوافع الشهوات العادية وارتكاب المعصية.
الصبر على المصيبة: أي الصمود أمام الحوادث المرّة وعدم الإنهيار وترك الجزع والفزع.
قلّما كرر القرآن موضوعاً وأكد عليه كموضوع «الصبر»، ففي سبعين موضعاً قرآنياً تقريباً دار الحديث عن الصبر. بينها عشرة تختص بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
تاريخ العظماء يؤكد أن أحد عوامل انتصارهم ـ بل أهمها ـ صبرهم واستقامتهم. والأفراد الفاقدون لهذه الصفة سرعان ما ينهزمون وينهارون. ويمكن القول أن دور هذا العامل في تقدم الأفراد والمجتمعات يفوق دور الإمكانات والكفاءات والذكاء ونظائرها.
من هنا طرح القرآن هذا الموضوع بعبارات مؤكدة كقوله تعالى: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10] .
وفي موضع آخر يقول سبحانه بعد أن ذكر الصبر أمام الحوادث: { إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [لقمان: 17] .
من خصائص الصبر أن بقية الفضائل لا يكون لها قيمة بدونه، لأن السند والرصيد في جميعها هو الصبر، لذلك يقول أمير المؤمنين علي(عليه السلام): «وَعَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ فَإِنَّ الصَّبْرَ مِنَ الإِيْمَانِ كَالرَّأسِ مِنَ الْجَسَدِ، وَلاَ خَيْرَ في جَسَد لاَ رَأْسَ مَعَهُ وَلاَ فِي إِيمَان لاَ صَبْرَ مَعَهُ»(2).
الروايات الإسلامية ذكرت أن أسمى مراحل الصبر ضبط النفس تتجلّى في مقاومة الانسان عند توفّر وسائل المعاصي والذنوب.
الآية التي يدور حولها بحثنا تؤكد للجماعة المسلمة الثائرة في صدر الإسلام خاصة أن الأعداء يحيطونهم من كل حدب وصوب، وتأمرهم أن يستعينوا بالصبر أمام الحوادث، فنتيجة ذلك استقلال الشخصية و الإِعتماد على النفس والثّقة بالذات في كنف الإيمان بالله. وتاريخ الإسلام يشهد بوضوح أن هذا الأصل كان أساس كل الإنتصارات.
الموضوع الآخر الذي أكدت عليه الآية أعلاه باعتباره السند الهام إلى جانب الصبر هو «الصلاة». وروي أن عليّاً(عليه السلام): «كَانَ إِذَا أَهالَهُ أَمْرٌ فَزِعٌ قَامَ إِلى الصَّلاَةِ ثُمَّ تَلاَ هذِهِ الآية: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ...).
ولا عجب في ذلك، فالإِنسان حين يرى نفسه أمام عواصف المشاكل المضنية، ويحسّ بضعفه في مواجهتها، يحتاج إلى سند قوي لا متناه يعتمد عليه. والصلاة تحقق الإرتباط بهذا السند، وتخلق الطمأنينة الروحية اللازمة لمواجهة التحديات.
فالآية أعلاه تطرح مبدأين هامّين: الأوّل ـ الإعتماد على الله، ومظهره الصلاة، والآخر ـ الإعتماد على النفس، وهو الذي عبرت عنه الآية بالصبر.
وبعد ذكر الصبر والإستقامة تتحدث الآية التالية عن خلود الشهداء، الذين يجسّدون أروع نماذج الصابرين على طريق الله.
تقول الآية: { وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ } ثم تؤكد هذا المفهوم ثانية بالإستدراك { بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ } .
في كل حركة ـ أساساً ـ تنزوي مجموعة محبّة للعافية، وتبتعد عن الاُمّة الثائرة، ولا تكتفي هي بالتقاعس والتكاسل، بل تسعى إلى تثبيط عزائم الآخرين وبثّ الرخوة والتماهل في المجتمع. وما أن تظهر حادثة مؤلمة حتى يعربون عن أسفهم وينقمون على الحركة التي أدت إلى هذه الحادثة، غافلين أن كل هدف مقدس يحتاج إلى تضحيات، وتلك سنة كونية.
القرآن الكريم يتحدث عن مثل هذه الفئة كراراً ويؤنّبهم بشدّة.
ثمة أفراد من هؤلاء كانوا يتظاهرون بالتأسف والتألم على (موت) شهيد من شهداء الإسلام في المعركة، ويبعثون بذلك القلق والاضطراب في النفوس.
والله سبحانه يرد على هذه الأقاويل السامة بالكشف عن حقيقة كبرى هي إن الذين يضحون بأنفسهم في سبيل الله ليسوا بأموات ... هؤلاء أحياء ... ويتمتعون بنعم الله ورضوانه، لكن البشر المحدودين في عالم الحسّ لا يدركون هذه الحقائق.
الدّنيا دار اختبار إلهي
بعد ذكر مسألة الشهادة في سبيل الله، والحياة الخالدة للشّهداء، ومسألة الصبر والشكر ... وكلّها من مظاهر الإختبار الإلهي، تعرضت هذه الآية للإختبار الإلهي العام، ولمظاهره المختلفة، باعتباره سنة كونية لا تقبل التغيير { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْء مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْض مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالَّثمَرَاتِ } .
ولما كان الإنتصار في هذه الإختبارات، لا يتحقق إلاّ في ظل الثبات والمقاومة، قالت الآية بعد ذلك { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } .
فالصابرون هم الذين يستطيعون أن يخرجوا منتصرين من هذه الإمتحانات، لا غيرهم.
الآية التالية تعرّف الصابرين وتقول: { أَلَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصيبَةٌ قَالوا: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيُهِ رَاجِعُونَ } .
الإقرار التام بالعبودية المطلقة لله، يعلمنا أن لا نحزن على ما فاتنا، لأنه سبحانه مالكنا ومالك جميع ما لدينا من مواهب، إن شاء منحنا إيّاها، وإن استوجبت المصلحة أخذها منا، وفي المنحة والمحنة مصلحة لنا.
والإلتفات المستمر إلى حقيقة عودتنا إلى الله سبحانه، يشعرنا بزوال هذه الحياة، وبأن نقص المواهب المادية ووفورها غرض زائل، ووسيلة لارتقاء الإنسان على سلم تكامله، فاستشعار العبودية والعودة في عبارة { إنَا للهِ وَإِنّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } له الأثر الكبير في تعميق روح المقاومة والإستقامة والصبر في النفس.
واضح أن المقصود من قول هذه العبارة ليس ترديدها باللسان فقط، بل استشعار هذه الحقيقة، والإلتفات إلى ما تنطوي عليه من توحيد وإيمان.
وآخر آية في بحثنا هذا، تتحدث عن الألطاف الإلهية الكبرى، التّي تشمل الصابرين الصامدين المتخرجين بنجاح من هذه الإمتحانات الإلهية: { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } .
هذه الصلوات والرحمة تجعل هؤلاء على بصيرة من أمرهم، في مسيرتهم الحياتية المحفوفة بالمزالق والأخطار، لذلك تقول الآية: { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } .
وبهذه العبارات المختصرة المقتضبة، يطرح القرآن مسألة الامتحان الكبير بأبعاده المختلفة، وعوامل النجاح فيه ونتائجه.
ـــــــــــ
https://telegram.me/buratha