أحمد رضا المؤمن *||
*رئيس ملتقى النجف الأشرف الثقافي
=============
شهدت الساحة الإعلامية والسياسية وحتى الإجتماعية مؤخراً في العراق عودة قوية لمصطلح (التبعية) القبيح الذي إرتبط في ذاكرة العراقيين بالإضطهاد والإعدامات والتهجير وكل أشكال الظلم والإرهاب وبمستوى منقطع النظير ضمن منهجية عنصرية ذات بُعد طائفي وعرقي حرصت زمرة القوميين وحزب البعث على تنفيذها بعد إنقلاب شباط 1963م المشؤوم .
وللأسف فإن ردود الأفعال على محاولات إحياء هذا المصطلح وما يتعلق به من مفاهيم وأفكار عنصرية شوفينية وطائفية وإرهابية كانت في أغلبها تقتصر على ردود أفعال ضعيفة لا تتناسب مع حجم الخطر الذي يعنيه عودة الأفكار العنصرية المبطنة بالطائفية تمثلت بالإستنكار أو الحديث الإعلامي عن خطر هذا الفكر العنصري المنحرف عن قيم الإسلام والإنسانية ، بينما كان الأجدى والأحرى هو أن تكون ردود الأفعال بالمطالبة بإحقاق حقوق شريحة ومكون عراقي أصيل مظلوم تعرض للطعن بوطنيته بأبشع الصور وهم شريحة أو قوميّة (العراقيين الفرس) والسعي لتثبيت حقوقهم تماماً كما تم تثبيت حقوق العراقيين العرب والأكراد والتركمان وغيرهم في الدستور العراقي .
وهذه السطور هي مُحاولة إنصاف متواضعة من عراقي عربي لديه إيمان بحق هذه القومية التي للأسف الشديد لا تزال مظلوميتها مستمرة إلى اليوم .
فبالرغم من أن العُنصرية القومية تجاه العراقيين الفُرس كانت قديمة خصوصاً من أجهزة الدولة العثمانية إلا أن مجيء البعثيين والقوميين العنصريين بعد شباط 1963م قلب المفاهيم وجعل الولاء للقومية بدوافع طائفية وصل إلى درجة غير مسبوقة إستمرت بالتصاعد في الأذى والإنتقام والتحريض بكل الأشكال ، فبدأ البعثيون حَملَة تسفير شنيعة بحق كُل من كان يحمل الجنسية الإيرانية حتى لو كان يعيش في العراق قبل تأسيس الدولة العراقية عام 1921م وبشكل إنتقائي ذو دوافع طائفية مَقيتَة ومَفضوحة ومُنافقة ، ومن أشهر فضائح النفاق والفنتازيا البعثية في التعامل العُنصري مع العراقيين الفرس أنهُم عملوا جاهدين على تسفير وتشريد وإعدام وتعذيب العراقيين الفُرس الشّيعة ولكن لم تفعل أي شيء للعراقيين الفرس السنّة (مثال على ذلك أسرة (كتخدا) الفارسية السنية التي لم يَمسّها أي سوء أو مُضايَقة أو تهديد بالتسفير أو حتى الطعن بوطنيتهم !!!) .
حَصَل كُل ذلك رَغم أن العراقيين من أبناء القومية الفارسية هم مُكوّن عراقي أصيل وقديم جداً يضرب بجذوره في عُمق التأريخ ، ولا زالت آثاره وشواهده شاخصة وموجودة ، ويُمكن أن نستشهد بما جاء في صحيفة (النجف اليوم) العدد (108) بتأريخ الأحد 3/نيسان/2011م الموافق 28/ربيع الثاني/1432 هجـ خبراً مفاده : (.. عثر أحد المواطنين في ناحية الحيدرية التابعة إلى مُحافظة النجف على قطعة أثرية يعود تأريخها إلى 2500 عام من العهد الساساني عبارة عن زير كبير في داخله عظام لطفل ، وقال مدير ناحية الحيدرية "معن الطريحي" في تصريح صحفي : "إن الزير الأثري تم إكتشافه في منطقة الأكرع جنوب الناحية من قبل المواطن "إبراهيم صادق الموسوي" أثناء قيامه بعملية حفر في المنطقة".
وأشار إلى أن الزير يبلغ طوله متراً واحداً وفي داخله عظام جُمجُمة لطفل لا يتجاوز عمره 12 عاماً ، لافتاً إلى أن الساسانيين وحسب مُعتقداتهم كانوا يدفنون أبناءهم ويضعون الجثث داخل زير كبير يشبه رحم المرأة) .
وكانت الإحصائيات التأريخية القديمة تذكُرهُم وتذكُر نسبتهم من مجموع سُكان العراق ، حيث يذكر المؤرخ العراقي الكبير السيد عبد الرزاق الحسني في الصفحة 8 من كتابه (العراق قديماً وحديثاً) : (.. ويتألف الشعب العراقي من أقوام مختلفة : عربية وكردية وفارسية وتركية ، فيؤلف العرب 78 في المائة والكرد 17 % والفرس 2،75 % والترك 2،25 % ..... أما الفرس فغالبهم يُقيمون في كربلا والنجف والكاظمية وقليل منهم في سامراء لمجاورة الأئمة الراقدين فيها والباقون في بغداد وفي سائر البلدان العراقية الرئيسية) .
ومما جاء في هذا الكتاب أيضاً والذي كتبه المؤرخ السيد الحسني في عشرينيات القرن الميلادي العشرين في بدايات تأسيس الدولة العراقية المعاصرة ، حيث قال في فصل (الفرس في العراق) ما نصّه :
(.. ليس الفُرس حديثي العهد بالسُكنى في العراق لأنهُم من الأقوام التي تغلبت عليه غير مرّة وأنشأت فيه دولاً مشهورة .
فكورش الفارسي هو الذي قوّض مُلك الكلدانيين في العراق سنة 539 قبل الميلاد وأقام على أنقاضه الدولة الكيانية الفارسية التي إستمر حُكمها إلى سنة 331 قبل الميلاد ، وهي السنة التي دَحَر فيها الإسكندر الكبير دارا الفارسي في موقعة كوكاميلا .
وأردشير بن بابك هو الذي ثار ثورته العظمى ومكّن الفرس (الساسانيين) من إحتلال العراق للمرة الثانية سنة 226 للميلاد ، فلبثت هذه الديار تحت حكمهم 473 للميلاد ، كما أن إستيلاء الصفويين على العراق سنة 914 هجـ/1507م هو الذي جعل للفرس ـ للمرة الثالثة ـ مقاماً مُمتازاً فيه ، ولا سيما وقد كان الشاه إسماعيل الصفوي على المذهب الشيعي الإثني عشري ـ وهو مذهب الأكثرية الساحقة في العراق ـ ولما كانت تُربة العراق تضم ستة من أجداث أئمة الشيعة وفيه غيبة الإمام الثاني عشر لم يزل الفُرس يختلفون إليها لزيارة مراقد أئمتهم ، وكثيراً ما أغرتهم قدسية هذه المراقد على مجاورتها والإقامة بالقرب منها ، هذا إلى الألوف المؤلفة من الفرس الديالمة التي دخلت العراق في أول حُكم آل بُوَيه سنة 334 هجـ/946م ومثلهم الذين هاجروا إليه في أيام الدولة الإيلخانية 656 ــ 738 هجـ = 1258 ــ 1338م . فقد إستولى الإيلخانيون على زمام الحكم في العراق حتى تغلبت اللغة الفارسية على اللغة العربية في المراسلات الرسمية .
وليس في الإمكان أن نُحصي عَدَد الفُرس القاطنين في العراق إلا أنهُ عدد كبير وهو في إزدياد مُستمر من جراء زيادة عدد الوافدين على العتبات المقدسة الذين كثيراً ما فضلوا البقاء فيها على العودة إلى ديار آبائهم وأجدادهم وعلى كل فإن (دانا) يقدر هذا العدد بثمانين ألف نسمة ويرى (ج . هـ . كرامرد) أن كثيراً من الفرس أخذوا أسرى إلى العراق والبلاد العربية وأصبحوا يُعدّون من الموالي هُناك وصار أعقابهم يَمتهنون الزراعة والصناعة والتجارة على نحو ما كان يفعله أهل البلاد الأصليون ، فقد ذكر الأستاذ "ر . أ . نيكلسون" في كتابه "تأريخ الآداب العربية" أن أكثر من نصف أهل الكوفة كانوا من الموالي الذين إحتكروا الصناعات والتجارة ، وكان أغلبهُم من الفُرس شعباً ولُغة ، وقد أتوا إلى الكوفة بصفة الأسرى وهُناك إتبعوا الإسلام ، وكان قد ذكر قبل ذلك أن الموالي المذكورين قد إعتنقوا المذهب الشيعي وعاضدوا المختار بن أبي عبيد الثقفي .
وكان للفرس في الدولة العباسية شأنٌ كبير ، وقد إمتزجوا مع العُنصر العربي بلُحمَة الدين وَتَعَلّموا اللّغة العَرَبيّة فكان منهُم جَماعَة من الشُعراء وعُلماء اللغة والأطباء الذين أغنوا اللغة العربية بمؤلفاتهم ، كما أنهم تركوا فيها آثاراً من لُغتهم في عَدَد من الألفاظ المُفردة والتراكيب).
كما أن تأثيرهم الثقافي والفكري والإنساني والإجتماعي إمتد إلى العصر الحديث في العراق فكانت لهم إسهامات وبصمات ثقافية لا يسع الحديث عنها هنا ومثال ذلك أن أول الصحف المطبوعة التي صدرت في النجف الأشرف كانت ثلاث صحف باللغة الفارسية وهي :
1 ـ صحيفة (الغري) ، رئيس تحريرها مُحمّد المحلاتي ، صدرت في ذي الحجة ، سنة 1327 هجـ/1909م ، وصدر منها عددين فقط .
2 ـ صحيفة (درة النجف) ، رئيس تحريرها مُحمّد المحلاتي ، صدرت في 20 ربيع الأول 1328 هجـ/1910م ، وصدرت لمدة سنة كاملة .
3 ـ صحيفة (نجف) ، رئيس تحريرها مُسلم زوين ، صدرت في 11 ربيع الثاني 1328 هجـ/نيسان 1910م ، وصدرت لمدة ثلاث سنوات .
وقد جَرَت مُحاولات بعد إحتلال العراق عام 2003م لذكرهم في الدستور العراقي مع بقية مكوّنات الشّعب ولكن ضغوط وتدخلات الإحتلال الأمريكي وعُملاءه والطائفيين حالت دون ذلك للأسف .
ولا أتردد لحظة عندما أقول بأن السَبَب الرئيسي للعداء مع الفُرس هو بالأصل سَبَب طائفي والأمثلة والشواهد التأريخية كثيرة منها ما تعرض لهُ العراقيين الشيعة من أبناء القومية الكردية الفيلية والذين تعرضوا إلى حملة تسفيرات وتصفيات وإعدامات بشكل فظيع أكثر من غيرهم من الأكراد السنة .
وبسبب هذه السياسات ذات البُعد الطائفي والعُنصري بعد إنقلاب شباط 1963م المشؤوم إضطر الآلاف من العراقيين الفرس مع بدايات تصاعد حملات البعث المسعورة ضد من أسماهم بالـ(التبعية الإيرانية) إلى الإندماج مع عشائر وأسر عربية عراقية وإخفاء أصولهم الفارسية إتقاءً من شرور البعثيين الأرجاس الذين وَصَل بهم الأمر في المراحل الأخيرة إلى تسفير المواطنين من الأصول الفارسية والإيرانية مع مُصادرة أموالهم ونهب أملاكهم ظلماً وعدواناً وأحياناً إعتقالهم وإعدامهم أو زجّهم في غياهب السجون والمقابر السرية .
ولمصطلح (التبعية) قصة تبدأ مع تأريخ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في 23/آب/1921م بتنصيب فيصل الأول ملكاً على العراق ، وكان العراق قبل ذلك خاضع للإحتلال العُثماني ويحمل سكانه الجنسية العثمانية وقسم آخر يحملون الجنسية الإيرانية التي كانت تحكمها الأسرة القاجارية آنذاك .
كان الحصول على الجنسية الإيرانية (القاجارية) بمثابة إمتياز كبير لا يحصل عليه إلا كبار رجال الدين وكبار التجار والميسورين والعوائل الثرية وكانت الأسر ترغب بهذه الجنسية لأنها تعفي حاملها من التجنيد بالجيش العثماني ويحصل بموجبها على نوع من الحصانة والإمتياز .
وعندما سقطت الدولة العثمانية ومع دخول معاهدة لوزان حيّز التنفيذ في 6/آب/1923م كان العراقيين تبعيتين وكلمة (تبعية) حينها كانت تعني (جنسية) تبعية عُثمانية وتبعية فارسية .
ومع تأسيس الدولة العراقية الحديثة صَدَرَ قانون خاص بمنح الجنسية العراقية وهو قانون الجنسية العراقي رقم 42 لسنة 1924م ونص القانون على منح الجنسية العراقية للساكنين في العراق وفي المادة الثانية منه ، عُرّف الساكن في العراق بأنهُ : (كُل من كان محل إقامته المُعتادة في العراق مُنذ يوم الثالث والعشرين من آب سنة 1921) لكنه بنفس الوقت وفي فقرات أخرى أعتبر ضمناً إن حامل التبعية العُثمانية مواطن من الدرجة الأولى وحامل التبعيّة الفارسية مواطن من الدرجة الثانية !!
كانت مئات الأسر من حَمَلَة التبعيّة الفارسيّة يَسكنون العراق مُنذ مئات وعشرات السنين وقسم منهُم كانوا عرب من قبائل عربية لكن للتهرّب من التجنيد في الجيش العُثماني سيء الصيت رغبوا بالحصول على الجنسية الفارسيّة .
تتوزع هذه الأسر في جنوب ووسط وشمال العراق وتتنوع عرقياً ، وفي تمييز عُنصري ومُجحف كانت تحمل شهادات الجنسية لكثير من العراقيين عبارة (تبعية إيرانية) رغم ولادتهم في العراق وَسَكَن عوائلهم في العراق حتى قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة .
وبعد إنقلاب 1963م المشؤوم وصعود القوميين للحُكم صَدَرَ قانون 43 لسنة 1964م والذي يَمنَح وزير الداخلية حق مَنح أو إسقاط الجنسية بحَسَب قناعاته الشّخصيّة !! .
وهكذا إستمرت موجات التهجير خلال حُكم البعثيين بعد إنقلاب 1968م المشؤوم أيضاً وتصاعدت على شكل مراحل ، ومع صعود صدام للحُكم وفي بداية عام 1980 كانت بداية أسوء وأشد موجات التهجير التي شَمَلت أسر كاملة من الفرس والعرب والكُرد الشيعة .
وفي 7/نيسان/1980 تم دعوة 850 تاجر من كبار التجار الشيعة إلى غُرفة تجارة بغداد تحت ذريعة مُناقشة الشؤون التجارية ، فألقي القبض عليهم جميعاً وتم وترحيلهم بملابسهم ورميهم على الحدود العراقية ـ الإيرانية في منطقة مَندلي وتجريدهم من مُمتلكاتهم ومُصادرتها ثم قامت حكومة البعث حينها بترحيل عوائلهم خلفهم .
وفي 5/نيسان/1981م صدر القرار 474 من مجلس قيادة الثورة المُنحل والذي يقضي بمُكافئة العراقي المتزوج من إمرأة تبعية إيرانية حين يقوم بتطليقها !!
بدأت موجات التهجير قبل بدء الحرب العراقية ـ الإيرانية وإستمرت من 1980م إلى 1990م وخلال هذه السنوات تم تهجير أكثر من مليون عراقي عاشوا هُم وآباءهم في العراق أباً عن جد ، فمن وُلد في العراق عام 1921م وهو تأريخ تأسيس الدولة العراقية الحديثة يكون في عام 1981 قد بلغ عُمره 60 عام ومع ذلك أعتبر غير عراقي وَتم تهجيره وَرَميَهُ على الحدود .
كانت تَحمِلُهُم سيارات الحمل والباصات وتلقي بهم على الحدود يواجهون حقول الألغام والبرد ومناطق تشتهر بإنتشار الأفاعي والعقارب . وهُجّرت عوائل كاملة وكانت مفارز الأمن والحزب تقتحم البيوت وتخرج العوائل بالقوة ، وطالما شَهَدَت الأحياء السكنية في بغداد والنجف وكربلاء والبصرة وكركوك وغيرها من المُحافظات مشهد إخراج العوائل بالقوّة وسط صراخ النساء وتجمع الجيران دون أن تعرف العائلة ما ذنبها ، وسعيد الحظ من كان يعرف بأمر ترحيله فيمنح أثاث منزله وأغراضه للجيران والمعارف .
لم يُسمح للعوائل بأخذ شيء معهم سوى ملابسهم التي عليهم وبقيت أموالهم ومُجوهراتهم ومحلاتهم وعقاراتهم وأرصدتهم البنكية كما هي وصادرت الدولة كُل املاكهم .
وبلغت عُنصرية وشوفينية واجرام البعث لدرجة أنهُ صَدَر قرار من مجلس قيادة الثورة المنحل بالرقم 666 وينص على أن (تُنزع الجنسية العراقية عن العراقي الذي لا يثبت ولائه لتربة الوطن وأهداف الثورة) ، فيما مُنحت الجنسية العراقية لمصريين وسوريين وفلسطينيين !!
ولا زال عشرات الآلاف من الشباب العراقي مجهولين المصير بعد فصلهم عن ذويهم أثناء تهجيرهم إلى الحدود . وحصلت مئات حالات الوفيات لكبار السن والمرضى والحوامل والاطفال وعشرات حالات الإجهاض نتيجة رمي العوائل في مناطق حدودية قاحلة وتعرضهم لإنفجارات حقول الألغام والبرد ولدغات الأفاعي والعقارب .
والحكومة العراقية إعترفت بوجود أقلية فارسيّة رسمياً كجُزء من التكوين السُكاني الديني أو الأثني العرقي ضمن التعداد السُكاني للعراق عامي 1947 و1957 ، وقُدّر عَدَدَهُم حَسَب إحصائية 1947 بـ(52000) شخص يَنتَمون للمَذهب الشيعي ، يَتمركزون في مناطق مُتفرقة من النجف وكربلاء والكاظمية ببغداد وديالى ، إلا أن السُلطة البعثية وخلال الأحصاء السُكّاني في العام 1977 قرّرت إلغاء فئة القومية الفارسية كخُطوة أولى للقيام بحملة تطهير عرقي ضد كُل من لهُ جذور وأصول فارسية خلال فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ، حيث جَرَت مُطاردات وإعتقالات للشباب مِمّن لَم تَتَجاوَز أعمارَهُم الأربعين عاماً حيث أعتقلوا بعدها وتم تغييبهم ولم يُعثر على آثارهم أو مَصيرهُم حتى يومنا هذا ، كما لم يَسلَم من تلك المُمارسات حتى أولئك الذين كانوا يَخدمون في الحكومة العراقية أو مَن هُم في الخدمَة العَسكَريّة أو ضِمن صفوف الجيش العراقي وعلى الخطوط الأمامية من جبهات القِتال ضِد إيران إبان الحَرب على إيران عام 1980 حَيث تم تنفيذ الإعدام بهم على الرّغم من أنّهُم لَم يُشكّلوا أي تَهديد للوضع العام ، أما باقي أفراد العوائل من الشيوخ والنساء والأطفال فقد إستدعوا ليلاً إلى دوائر الأمن العراقية بحُجّة إجراء إستفسار لَن يَستَغرق سوى بِضعَة دَقائِق ، لكنّهُم وَجَدوا أنفُسَهُم في باصات وشاحنات مُتّجهَة إلى الحدود الإيرانيّة ليَتِم تَسفيرهُم بصورة قسريّة حيث تُركوا على الحدود الإيرانية ــ العراقية المزروعة بالألغام .
تمت عمليات التهجير بموجب القرار رقم 666 الصادر في شهر آيار 1980 ، وشمل إسقاط الجنسية العراقية عنهُم وتجريدهم من الهوية العراقية وباقي الهويات التي تُثبِت عراقيتهم وَلُقّبوا بـ(الفُرس المجوس) !! ، وَتَمّت مُصادَرَة أملاكهم وأموالِهم المَنقولَة وَغَير المنقولَة ، وأجبِرَ الزّوج أو الزوجة على تطليق زَوجَته أو زَوجها إن كانا من التبعية الإيرانية مُقابل مُكافآت مالية تشجيعيّة من الدولة على الرّغم من تعارُض ذلك مع قواعد الدين الإسلامي الذي تُدين به الدولة ، كما تم تفريق الأولاد والأطفال عن أولياء أمورهم ، هُجّروا قَسراً ولم يُسمَح لَهُم بحَمل أي شيء حتى وإن كانت حفاظة طفل أو قنينة حليب للأطفال ، ليُترَكوا في العراء بين حدود العراق وإيران .
وَقَد قُدّر عَدَد الذين تَمّ تَسفيرهُم في حينها بحوالي 70 ألف فرد عراقي من أصول فارسية مات الكثير منهُم من كبار العُمر والمرضى والشيوخ والنساء الحوامل بسَبَب وعورة الطريق والحيوانات البرية المفترِسَة وَعِصابات السّلب والنّهب . طَلَبوا مِنهُم السّير على الأقدام بإتجاه إيران وَعَدَم العَودَة حَيثُ أنّ ذلِكَ سَيُعَرّضُهُم لنيران أسلِحَة الجّيش العراقي من الخلف .
وللأسف كان هناك تعتيم أعلامي دولي على عمليات التسفير لإعتبارات سياسية أبان الحرب العراقية الايرانية دعماً لنظام صدام آنذاك وضد السيد الخميني "رض" ، ولم يَتِم توثيق تلك الجرائم أو تَسليط الضوء عليها بشكل دقيق إلا لعدد قليل منها ، لكن وثائق الأمم المتحدة والصليب الأحمر والمنظمات الدولية الأخرى أكّدت على أن الضحايا كانوا من الكرد الفيليين ومن العراقيين من أصول فارسية من أتباع المذهب الشيعي وكذلك بعض العوائل العربية .
لقد بلغت حصيلة جرائم نظام صدام جَرّاء عَمَليّات تهجير العراقيين إلى إيران في نيسان 1980 أكثر من نصف مليون مواطن عراقي أُسقِطَت عَنهُم الجنسية العراقية وَتَمّت مُصادَرَة أموالهم المنقولة وَغير المنقولة وتم أحتجاز أكثر من عشرة آلاف من أبنائهم في سجون النظام الدكتاتوري حيث نُفّذَ حُكم الإعدام الجّماعي بحَقّهِم لاحقاً وَمِن ثُم تَغييب جُثَثِهِم كي لا يتم العثور على رفاتهم .
وختاماً لا بُد من التذكير بأن الأمم والشعوب والدول لا يُمكن أن ترتقي وتتطور من دون ثقافة إحترام الرأي والنوع الآخر وحقوق الإنسان والإبتعاد عن جميع أشكال العُقد الطائفية والعرقية والمناطقية وغيرها ، والعراق بلد الحضارات وموطنها الأول ولا يليق به أن تسود فيه ثقافات عنصرية وطائفية أكل الدهر عليها وشرب . ولذا فإنه لا بد من مراجعة واعية وجادة وصادقة وشجاعة بشأن قضية العراقيين الفرس وإقرار حقوقهم القانونية والإنسانية والثقافية بعد الإعتراف بهم بالدستور العراقي بشكل صريح ومنصف كأحد المكونات القومية المتنوعة للشعب العراقي وعدم الإكتراث للثقافة العنصرية والطائفية التي تمارس الشوفينية والعنصرية بأقبح صورها وهو ما يحتاج إلى تصدي العراقيين الفرس أنفسهم أولاً للمطالبة بحقوقهم بالإستفادة من كل الظروف الاعلامية والقانونية والثقافية المتاحة في العراق والإستمرار بالمطالبة والاصرار عليها مهما طالت مدة المطالبة ومهما واجهتهم من صعوبات لأن قضيتهم حق ، والحقوق تحتاج لمن يطالب بها لتسترد .
ــــــــــــ
https://telegram.me/buratha