د. علي المؤمن ||
إن التجديد في علوم الدين، والفقه وأداوته، ومجمل قضايا الفكر الإسلامي أو اكتشاف المفاهيم والنظريات والنظم الإسلامية؛ إنما هي مجالات تخصصية لها أصحابها، الذين وصفهم القرآن الكريم بـ «أهل الذكر» وأمر بالرجوع إليهم: ((فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)). وهم ،كما ظاهر الآية، المتخصصون في الشرع عقيدة وفقهاً.
وتتطلب هذه المجالات الخطيرة؛ فقيهاً مفكراً مثقـفاً، على مستوى عالٍ من التخصص، ليكون قادراً على القيام بثلاث عمليات متوالية:
1 - فهم الأصول فهماً حقيقياً، ويستدعي ذلك معرفة وإحاطة بعلوم الشريعة كافة.
2 - فهم الواقع فهماً صحيحاً، والإحاطة بحقائقه ونظمه وحاجاته. ويستدعي ذلك معرفة تفصيلية بالأفكار السائدة وتطورات العصر، ومتابعة لأحداث الواقع على مختلف الصعد: العلمية والثقافية والسياسية والاقتصادية وغيرها.
3 - استنباط الأحكام والمعارف والنظريات وفقاً للفهمين السابقين، ثم إخضاع حقائق الزمان ونظمه وحاجاته لها، تحقيقاً لمقاصد الشريعة.
ولا شك في أن مهمة بهذه الدرجة من الخطورة والعمق ليس بإمكان فقيه واحد أو مفكر واحد أو اثنين التصدي لها؛ بل هي مهمة شاقة، تستدعي تظافر جهود كبيرة ومنظمة لإنجازها على النحو المطلوب.
وإذا عَدّ البعض أن تخويل أهل الاختصاص في العقيدة والشريعة الإسلامية ليكونوا أوصياء على الفكر الإسلامي، هو نوع من الاحتكار، فهذا تفسير خاطئ؛ لأن ما يسمونه بالوصاية إنما هي - في الحقيقة - مرجعية، وهو مطلب عقلي طبيعي، يكرّس احترام الاختصاصات، ويحول دون الخلط والتهافت في القضايا الفكرية عامة وفي الفكر الإسلامي خاصة.
هذا الأمر يستدعي - بالطبع - مبادرة من أصحاب الاختصاصات الإسلامية؛ ليكونوا بحجم المرحلة، وبمستوى وعي حاجاتها وحاجات الأمة والساحة وما يواجهها من تحدّيات وفي مقدمة ذلك ملء الفراغات التي يمكن للآخرين أن ينفذوا من خلالها. وإذا ظهر أي اختلاف أو شبهة أو خطأ في نظرية أو فكرة إسلامية معيّنة، فإن القرآن الكريم والسنّة الشريفة هما الحكم، وتكون النظرية الصحيحة هي الأقرب إلى النص: ((فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول)). أما تفسير النص، والحكم بانطباق النظرية عليه، فهو شأن «أهل الذكر». بناءً على هذا الاعتبار، فإن لعلماء الدين حق الرقابة والإشراف على حسن وسقم ما يصدر من أفكار تنسب إلى الإسلام: ((ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)).
ويتعيّن على المفكر الإسلامي الذي يسعى لتأسيس نظرية إسلامية أصيلة أو تطويرها؛ التمتع بجميع خصائص التخصص والأصالة؛ التخصص في الفكر والتشريع الإسلاميين، وفي موضوع النظرية والرؤى الأخرى حولها، وفي المنهج العلمي وأساليب الاستنباط، إضافة إلى الأصالة في التفكير والقدرة الفائقة على النقد والمحاكمة؛ ليكون الناتج إسلامياً في المقدمات والمنهج والتفكير والنتائج، وبالتالي فليس كل مفكر أو مثقـف يمكنه الاستنتاج والاستنباط!
وما سبق يستدعي - أيضاً - تحرك الفقه بشكل يتلاءم وحجم الحاجات، خاصة حاجات النظام الاجتماعي أو نظم الدولة، فالمجتهد - الواقعي - هو الذي يرى في الدولة الإسلامية «تجسيداً للفلسفة العملية لتمام الفقه في جميع جوانب الحياة. والحكومة هي انعكاس للبعد العملي للفقه في تعامله مع جميع المعضلات: الاجتماعية والسياسية والفكرية والثقافية. فالفقه هو نظام واقعي متكامل لإدارة الإنسان والمجتمع من المهد إلى اللحد».
ومهمة عظيمة بهذا الحجم تتطلب مجتهداً جامعاً لخصائص الاجتهاد والتجديد، أي يكون عارفاً - بدقة - بموقع الزمان والمكان في حركة الاجتهاد، و«العارف بزمانه لا تهجم عليه اللوابس». يقول الإمام الخميني: «إنّ الإحاطة الدقيقة بالعلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية جعلت الموضوع نفسه في الظاهر موضوعاً جديداً، فيستتبعه قهراً حكم جديد». والسلوك الشرعي، الفردي والجماعي، هو مظهر تطبيق الحكم الشرعي؛ لأن الحكم يحدد طبيعة التكليف. والفهم الجديد لثوابت الدين ينتج عنه حكماً جديداً، وبالتالي تكليفاً جديداً وسلوكاً جديداً.
ـــــــــ
https://telegram.me/buratha