د. علي المؤمن ||
إن موضوع التجديد الفكري الاسلامي خطير جداً، ويحتاج الى اختصاصات دقيقة معمقة. واستسهال مقولة التجديد تؤدي الى ألوان بشعة من الانفلات. وقد أفرزت محاولات التجديد عدة تيّارات تعمل في هذا الاتجاه أو تدعيه. وتنسجم هذه الادعاءات مع المقدمات التي يطرحها كل تيار، والمباني التي يؤسس عليها نظريته. وقد أدى الاختلاف في المباني والمقدمات إلى امتداد الاختلاف والتباين إلى النتائج؛ فتيار التجديد (التقليدي) يستخدم ذات المناهج والأساليب التي درج عليها السابقون، ويقيسها على الحاجات الجديدة. وتيار التجديد (الحداثي) لا يستخدم المناهج والأساليب السلفية، ولا المناهج المستنبطة من الأصول المقدسة، وإنما المناهج الحديثة الوافدة، أو بكلمة أخرى. يستعير عقل الآخر، بمناهجه وصياغاته ومصطلحاته، لمعالجة مشاكل ذاتية فكرية وشرعية. وهناك تيار ثالث، ينطلق من معطيات الحاضر، ويستخدم مناهج وآليات مستنبطة من الأصول، وينتهي إلى أحكام لصيقة بالشريعة والواقع.
وتخوِّل كثير من الشخصيات والجماعات نفسها صياغة أنواع من الفكر، تطلق عليه فكراً إسلامياً أو تجديدياً، في حين أنها لا تمتلك أدنى درجات الاختصاص، وهذه هي الخطوة الأولى باتجاه الانحراف. والاختصاص يتمثّل بامتلاك أدوات المعرفة الإسلامية، والقدرة الكاملة على الوصول إلى عناصرها، بشكل يمكن المتخصص من استنباط الرأي الأصيل والفكرة المسندة إلى الأصول. فمثلاً نرى البعض ممن يحمل اختصاصات أخرى غير الفقه والعقيدة، كأن يكون أديباً أو فيلسوفاً أو عالم اجتماع، ينظّر للفكر الإسلامي ويستنبط الآراء والأفكار وينتقد الموروثات الإسلامية، بل ويخطـىء الفقهاء وعلماء العقيدة.
وهناك فرق بین مفکر إسلامي ومفکر متخصص في الإسلام أو باحث في الفکر الإسلامي، كما أن هناك متخصص في الفقه والأصول وهناك فقيه اسلامي؛ فالمفکر الإسلامي مصادره إسلامیة، ومهمته إنتاج النظریات والنظم الإسلامیة العملية، ويعمل على تفعیل الفكر الإسلامي وتجديده، ودفعه نحو التطبیق، وهو إسلامي في رؤيته للحياة وفي منطلقات عمله ومنهجه، وملتزم فکراً وسلوکاً. هذه الشروط لا حضور لها في شخصیة المفکر المتخصص في الاسلام أو الباحث في الفکر الاسلامي؛ فقد یکون هذا الباحث مستشرقاً أو مارکسیاً أو قومیاً، وقد یکون اسلامیاً في النظرية وليس السلوك، وقد يكون ملتزماً في سلوکه لكنه ليس إسلامیاً في فکره.
والخطير أن المناهج الناقصة في فهم الإسلام، والتي تدّعي الإصلاح الديني والتجديد؛ تُنتج إسلامات مصلحية ومزاجية ومنفلتة وشخصية لا حدّ لها ولا حصر؛ جراء صدور رؤى وأفكار وأحكام وفتاوى تتعارض مع مقاصد الدين وأهداف الإسلام ومنظومته العقدية والشرعية، بل تتعارض ـ أحياناً ـ مع بديهيات الدين ومظاهر التدين؛ الأمر الذي ينتهي الى ظهور إسلام سلوكي، وإسلام روحي، وإسلام داعشي، وإسلام اشتراكي، وإسلام ليبرالي، وإسلام علماني، وإسلام بدون علماء دين، وإسلام مدني، وإسلام بروتستانتي؛ وصولا الى الإسلام الإلحادي.
نعم؛ هناك من بات يطرح ـ بكل جرأة ـ إسلاماً إلحادياً، وليس علمانياً وحسب. فكما أن بعض المناهج التحريفية ينتج عنها إسلامٌ دموي سلطوي طاغوتي؛ فإن مناهج أخرى منفلتة ينتج عنها إسلام إلحادي.
وقد انتهت بعض المحاولات التي أطلقت على نفسها تسميات مختلفة، وتجاوزت مقاييس الأصالة والاستقامة، وهدفت إلى ما أسمته بتجديد الفكر، أو تجديد العقل وإعادة تشكيله وبنائه، أو التغيير الاجتماعي الشامل، أو التحوّل في مسارات المعرفة؛ انتهت هذه المحاولات إلى صياغات ومصطلحات ونظريات بعيدة بنسب معينة عن مرجعية الفكر الإسلامي، وقريبة بنسب معينة من المرجعيات الحضارية الأخرى، فكانت مضامين هذه النظريات إما متغربة، أو صياغات محلية لنظريات استشراقية، أو مخترعات محلية، أو أفكاراً توفيقية. وهو ما نشاهده اليوم حتى في تيّارات تحمل عناوين إسلامية. ((ودّت طائفة من أهل الكتاب لو يضلّونكم وما يضلّون إلّا أنفسهم وما يشعرون)).
وأصحاب بعض هذه المناهج، حتى الذين يعتبرون أنفسهم إسلاميين، بالمعنى الاصطلاحي، يرتكبون عدة أخطاء منهجية، إذا اعتبروا اتجاهاتهم الفكرية تلك تمثل جزءاً من التجديد في الإسلام. فمن أولى تلك الأخطاء أنهم يحاولون فرض مصطلحات وأفكار تحمل مداليل ومفاهيم خاصة، حدّدها أصحابها الأصليون ومؤسسوها، وهي بصياغاتها التي تعارف عليها المتخصصون لا تعد مفاهيم ونظريات محايدة (مشتركاً عاماً)، أو كما يحاول البعض أن يسميها «آليات المفهوم» أو الاستفادة من آلية النظرية، إذ إن الفصل بين النظرية كمذهب فكري من جهة، وآليات تطبيقها من جهة أخرى، يعني تفتيت مفاهيمها ومسخها. ومن ثم يجدر أن لا تبقى على اسمها نفسه؛ لأن الكثير منها - بالأساس - مذاهب متكاملة وتصورات شاملة للحياة والكون.
ومن أمثلة ذلك، استخدام مفاهيم ومصطلحات كالحداثة والعقلانية والليبرالية والديمقراطية والاشتراكية، وتبنّي بعض جوانبها التطبيقية وآلياتها. وكذلك عقد مصالحة أو مزاوجة بين هذه المدارس الفكرية وما يقابلها من مدارس، كالأصالة والمعاصرة، والتراث والحداثة، وحل الإشكاليات العالقة بينها. في حين أنها ثنائيات مستوردة على مستوى المصطلح والمفهوم والإشكالية، ولا يمكن لمقاصدها الأصلية أن تشكّل مشتركاّ عاماّ لاتجاهات الفكر الإنساني أجمع.
ولعلّ من أخطر التيّارات التحريفية التي تشكل خطورة على أصالة الفكر الإسلامي، التيّار الذي يدعو إلى دراسة الأصول الإسلامية بمنهج معرفي (غربي)، متجرداً عن أي التزام وضابط آيديولوجي، بدعوى إعادة تشكيل العقل وتجديد الفكر على أسس علمية دون غيرها، أو بكلمة أخرى، نقد النصوص المقدسة نقداً (ابستمولوجيا) معرفياً، تكون نتيجته الاعتداء على أصالة الفكر الإسلامي بهراوة (الابستمولوجيا) الغربية، بذريعة أصالة المعرفة وأصالة العلم وأصالة العقل وتجرده.
وعموم التيّارات التحريفية، وخاصة التي تحمل عناوين إسلامية؛ تهدف إلى تطويع الإسلام لمسايرة الركب الحضاري الأجنبي، وتقديمه بصورة تلائم شكل الحياة السائدة عالمياً، ليكون مقبولاً في الغرب كدين، أو تكون بعض نظمه الاجتماعية مقبولة وخاضعة - قسراً - لتطورات العصر، وخاصة النظامين السياسي والاقتصادي والقوانين المدنيّة ((ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتّبع ملّتهم)).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha