دراسات

2/ سوسيولوجيا المعرفة, وإنتاج الخطاب الديني


 

د. محمد أبو النواعير ||

 

·        كيف يؤثر الخطاب الديني في تكوّن أنماط المعرفة السوسيولوجية في مجتمعات المذاهب الإسلامية؟!

 

إن الشروط الاجتماعيـة لإنتـاج الخطـاب الدينـي مختلفـة جذريـا عـن البنيـات النسقية المؤطـرة للفعاليـات العلميـة . نتصـور الإبستيمولوجيا باعتبارهـا بحثا عـن المعايير العقلانية للاعتقاد الديني أو الاعتقـاد في الدين ، ليس بهدف الكشـف عـن صـواب أو خطـأ مـا يعتقـد فيـه المـرء ، لـكـن مـن أجـل مسـاءلة الـشروط الموضوعيـة والذاتيـة لبنـاء الاعتقـاد الدينـي ، ورسـم المعـالم الاجتماعيـة الثقافيـة لاختـلاف التدين وأنماطـه بين الأديـان المختلفـة ؛ بـل وداخـل الديـن نفسـه لقـد قذف بالانسـان داخـل هـذا الوجـود بلغـة وجودية ؛ لذلك تسـعى الإنسـانية ( أفـرادا وجماعـات ) إلى تذويـت العـالم ، وتشـكيل الأنسـاق الرمزيـة للحيـاة الاجتماعيـة والثقافيـة من خلال التشبث بالمعتقـد . لا تهـدف سوسيولوجيا المعرفة إلى البحـث عـن القواعـد المعياريـة التـي يجـب احترامهـا في الاعتقـادات ، لكنهـا توجـه اهتمامها إلى توصيـف الإبستيمي الفاضـل مهـما كانـت اعتقاداتـه . فـإذا كانـت أخـلاق الفضيلـة تصـف مـن هـو الأخلاقـي الفاضـل مـهـمـا كانـت أفعالـه فإن إبستيمولوجيا الفضيلـة تهتـم بتوصيـف الإبستيمي الفاضـل مهـما كانـت اعتقاداتـه . تصير الإبستيمولوجيا بهـذا المفهـوم بمثابـة أخـلاق للاعتقـاد .. وموضـوع الإبستيمولوجيا ليـس هـذه المعياريـة الدوكسـاتية بقـدر مـا هـو الموقـف الإبسـتـيـمولوجي الصحيـح للشخصية الإنسانية.

إن الحاجـة إلى سوسيولوجيا المعرفة داخـل المجتمع وداخل الديـن وبـين الأديـان راجعـة إلى كـون العـالم أو العـوالم الدينية تتسم بالتركيـب والانفـلات ، والمعتقـدات الدينيـة لا تحيـل بالضرورة إلى قناعـات -أو رؤى اجتماعيـة- تدافع عنهـا تنظيـمات اجتماعيـة أو أفـراد معينـون فقط ؛ بل تتضمـن رهانات أيديولوجيـة ، سياسية ، اقتصاديـة … وأيضـا إرثـا حضاريا وثقافيـا معينـا .

وقد أصبح سؤال سوسيولوجيا المعرفة الذي شغل الفلاسفة والمفكرين سؤالا أكثر راهنية الآن، لأنه بات يشكل مساحة أكثر إتساعاً، تتجاوز حدود الفلسفة لتتصل بقضايا وتساؤلات تطال مجالات إجتماعية متنوعة وحقول بحثية متعددة التخصص. فقد أصبحت “إقتصاديات المعرفة” و “سياسات المعرفة” وغيرها، مصطلحات كثيفة التداول في ما بات يعرف اليوم بـ “مجتمع المعرفة”.

لماذا يحتاج الانسان إلى المعرفة؟ لسبب بسيط وهو أنه بحاجة ليدرك ويفهم ويفسر ما يجري حوله. فالمعرفة العملية تبدأ مع الانسان بإعتباره فاعل اجتماعي، يحتاج أن يعرف لكي يفهم، ويكون بالتالي لتفاعلاته وممارساته “معنى”، يسمح له بالتوافق مع محيطه. قديماً إعتبرت المعرفة في الفلسفة العربية كنوع من الإدراك للجزئيات، أما “العلم” فكان إدراك بالكليات. حينها إستخدم مفهوم المعرفة في مجال التصورات، في حين أستخدم مفهوم العلم في مجال التصديقات.

لذلك تسعى السوسيولوجيا إلى تحليل الـديـن بوصفه نسقاً كاملاً يمد المؤمنين بحوافز ودوافع مشيدة وأنماط ثقافية لممارسات رمزية ذات معنى ، فتركز على الممارسة السلوكية في الواقع المعيشي وما تعتمد عليه المجموعات البشرية من معتقدات وتفسيرات للنصوص الدينية من منطلق موقع الإنسان والجماعات في البنية الاجتماعية . منطلق السوسيولوجيا وعلم الاجتماع يختلف منهجياً عن منطلق الدراسات الدينية ، فالأول يسعى إلى تحليل السلوك الديني في الحياة اليومية وما يستند إليه من تفسيرات خاصة للنصوص الدينية في السياق الاجتماعي والتاريخي ، ومن منطلق التناقضات والصراعات القائمة داخل المجتمع وفي علاقاته بمجتمعات وحضارات أخرى ، في حين تذهب الدراسات الدينية في اتجاه تقديم تفسيرات خاصة للنصوص والوقائع .

أن دراسة سوسيولوجيا المعرفة ليست عملية أكاديمية بحتة، بقدر ما هي محاولة موضوعية لمقاربة الحقيقة الاجتماعية لمعارفنا على كافة المستويات، بهدف الوصول إلى تفسيرات تطال أكثر القضايا المثيرة للجدل والتي تواجه الناس في حياتهم وتفاعلاتهم وصراعاتهم وتناقضاتهم.

هذه الدينامية تعني أن الانسان بصفته فاعل إجتماعي، هو كائن معرفي وثقافي وبنفس الوقت: يدرك، يعرف، يتفاعل، يفعل. والفعل هو ذروة الافصاح المادي عن الإرادة الانسانية العارفة. ولأن الأمر كذلك لا يمكن إدراك طبيعة المعرفة وديناميتها، دون هذا التلازم الجدلي بين التصور الذهني والفعل العملي. من هنا التمييز بين الثقافة والمعرفة سوسيولوجياً، حيث تحتوي الأولى الثانية، وتنتقل بها إلى حقل الواقع المعاش.

والواقع أن سوسيولوجيا المعرفة، تتعامل مع الدين باعتباره عالماً من المعاني والرموز ، ينتج روابط اجتماعية وثقافية قد تُفسّر أو تُستعمل بطرق مختلفة ، وفي تنظيمات مؤسساتية واجتماعية متعددة ، تتمتع بجاذبية شعبية ظاهرة ، تنتج فعاليتها وتعيد إنتاجها عبر فاعلين يمدون حقل العلاقات المتصلة به بفاعلية قد تتجاوز المكان والزمان ، لكنها تبقى على ارتباط بالواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتاريخي من حيث الممارسة بوصفها فعل تدين للجماعة ، يتطور بتطور هذا الواقع وهو يتصل بدور المؤسسات والبنى الاجتماعية ( كالعائلة والطبقات والمؤسسة السياسية وغيرها ) اتصالاً عضوياً وتفاعلياً ، وهو يقوم بوظائف محددة ويلبي حاجات ظاهرة وخفية ، وقد تكون توظيفاته إيجابية أو سلبية ، وكثيراً ما تكون التأويلات الدينية متنوعة بل متناقضة ، وقد يتحول الدين من طاقة روحية ثورية في مراحل التكوين الأولى ، إلى مؤسسات ونظم وطبقات وطوائف في المراحل التاريخية التالية ، ثم تحصل الانقسامات والتناقضات ، ليس بسبب التنوع في المعتقدات بحد ذاتها ، بل بسبب التناقضات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

في المحصلة أن قضية اكتساب المعرفة سوسيولوجياً، لم تعد مسألة ترف، أو نزوع نحو ترقية فردية أو نخبوية، بقدر ما أصبحت سبيلاً أساسياً للتنمية الانسانية. ما يعني أن ببساطة أنها أصبحت حقاً إنسانياً وجودياً، يزداد أهمية كلما إزداد إرتباط إكتساب المعرفة بالقدرة الانتاجية في المجتمع. ولهذه الأسباب تزداد الحاجة إلى تجاوز التخلف المعرفي وخاصة في المجتمعات النامية التي تعاني من أزمة مركبة في هذا المجال، تتمثل في تخلف منظومة إكتساب المعرفة وإنتاجها، والمعوقات البنيوية التقليدية المعرقلة للتنمية، كغياب الحرية والعدالة، وتفشي الفساد والزبائنية من جهة، والحاجة الملحة لتجاوز هذه المعوقات الداخلية، والتي لا تجد ما يدعمها أو يحفزها على المستوى العالمي المحكوم بآليات العولمة واحتكار مصادر وآليات اكتساب المعرفة من جهة أخرى, والتفاعلات الحاصلة والمصاحبة لها، بفعل التطور الهائل على صعيد تقنيات الاعلام والاتصال والانفوميديا عموماً، والذي إزدادت أهميته مع مطلع هذا القرن الجديد بما لا يقارن مع ما كانت عليه الحال في القرن الماضي، ما يستوجب إعادة تحليل ظاهرة المعرفة، ودراسة كيفية إشتغال العناصر المعرفية وتشكلها وتفاعلها بعضها مع بعض.

*د. محمد أبو النواعير دكتوراه في النظرية السياسية/ المدرسة السلوكية الأمريكية المعاصرة في السياسة

ـــــــــــــــــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك