دراسات

سوسيولوجيا المعرفة..!


 

د. محمد أبو النواعير ||

 

·        كيف يؤثر الخطاب الديني في تكوّن أنماط المعرفة السوسيولوجية في مجتمعات المذاهب الإسلامية؟!

 

هل ان الخطاب مقصود منه نتاجات ومخرجات الدراسات الأصولية الفقهية, ومدى تفاعلها مع سلوك الفرد والمجتمع, وقدرتها على تحقيق عملية بناء اجتماعي نسقي شاخص ينهض بمقوماته؟

أم ان المقصود من الخطاب, هو محاولة توليف الأسس والمرتكزات التي يحملها الدين بذاته, ومحاولة تصديرها للوعي المجتمعي تحت مسمى الدين, لكي تكون قالبا مقبولا, يحمل الناس على تنسيقية بنائهم القيمي, والمؤثر بالنتيجة على مواقف واتجاهاتهم الإجتماعية, وبشكل أكبر على رؤيتهم للوجود وفلسفته.

* هل كان الخطاب الديني الإسلامي التوعوي في بداية الدعوة الإسلامية او بشكل أدق, في بداية نزول الوحي, مشابها لما بعدها, أم ان الخطاب الديني يتأثر أيضا بمعطيات ومؤثرات الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

فإذا أردنا الحديث اليوم عن خطاب ديني اسلامي, يجب علينا أن نأخذ بنظر الإعتبار, كم المخططات والفواعل والمؤثرات (القسرية المقصودة والطبيعية), التي تحاول التدخل في هذا الخطاب والتأثير فيه, في محاولة مرة لحرفه عن أصوله, وفي محاولة مرة لإيقاف امتداداته التوعوية.

هل أن الخطاب الديني هو بذاته عنصر محرك ومتفاعل مع الوجود المجتمعي , مستقل بذاته وبأدواته؟ أم هو آلة يمكن توظيفها في مجالات قد تخرج عن سياقاتها الأصلية؟

فإذا كان ذلك, هل يحق لنا أن ننتقد الخطاب الديني بذاته, كآلة تواصل لغوية معرفية؟ أم ننتقدها لأنها دخلت جوانب وظيفية خاطئة, وأستغلت من أجل خلق ثغرات معرفية وأخلاقية وقيمية وسياسية في المجتمعات.؟

 

*د. محمد أبو النواعير دكتوراه في النظرية السياسية/ المدرسة السلوكية الأمريكية المعاصرة في السياسة

ـــــــــــــــــــــ

سوسيولوجيا المعرفة

 

يعرف علم اجتماع المعرفة على أنه ذلك الفرع من علم الاجتماع الذي يدرس العلاقة بين المعرفة والإطار الاجتماعي. كما عرفته دائرة معارف العلوم الاجتماعية ” بأنه فرع من علم الاجتماع يهتم بدراسة محددات مشاركة الإنسان في الحياة الاجتماعية ، حيث تؤثر هذه المحددات في معرفته وفكرة وثقافته . ويعرفه كارل منهايم : يعتبر علم اجتماع المعرفة فرعاً من أحدث فروع علم الاجتماع يتوخى بوصفه نظرية, تحليل العلاقة القائمة بين المعرفة والوجود، بوصفه منهجاً للبحث الاجتماعي- التاريخي يتعقب جذور الاشكال المختلفة التي حصلت عليها تلك العلاقة خلال مسيرة التطور العقلي الذي قطعته الانسانية .

ويعتبر ( ماكس شيلر ) أول من أطلق مصطلح ( علم اجتماع المعرفة ) . وقد ذكر أن موضوع هذا العلم هو البحث عن العلاقة بين أنماط الحياة الاجتماعية ومختلف أنواع المعرفة . وعلى الرغم من هذا التعريف الذي قدمه ( ماكس شيلر ) لعلم اجتماع المعرفة ، يمكننا القول إن هذا العلم وخلافاً للكثير من فروع علم الاجتماع ليس له تعريف معين ولا دائرة محددة . ويرى بعض الباحثين أن من غير الممكن جعل هذا العلم فرعاً من فروع علم الاجتماع ، بل غاية ما يصل إليه أن يكون أشبه ببرنامج علمي .

فهذا الاصطلاح ينظر إلى الاختلاف الواقع حول العلاقة بين الظروف الاجتماعية, أو بين العوامل غير المادية . فقد تعرضت العديد من الدراسات في علم الاجتماع لهذا المسألة وظهرت نظريات مختلفة في هذا المجال وهي التي يطلق عليها تسمية ( نتائج علم اجتماع المعرفة ).

إنَّ من أهمِّ المواضيع المرتبطة بسوسيولوجيا المعرفة هو (حقيقة المعرفة)، فقد لفت جملة من المفكِّرين إبَّان ظهور علم الاجتماع أو حتّى قبل ذلك إلى تساؤلات حول المعارف البشريَّة وعلاقتها بالظروف والبيئة الاجتماعيَّة الحاكمة، فكانت التساؤلات: ماذا يطرأ عندما تتطوَّر المعرفة البشريَّة؟ وما هي العوامل المقتضية لتنمية الأفكار الإنسانيَّة أو المتسبِّبة في تقهقرها أحياناً وإصابتها بالجمود؟ ما هي العلاقة القائمة بين مجتمع ما والمؤسسة الاجتماعيَّة من جهة وبين أنماط محدَّدة من المعرفة من جهة أُخرى؟ وبشكل عام ما هي العلاقة بين الفكر والتفكير والمجتمع العامل بتلك الأفكار؟ ما العلاقة الموجودة بين المعرفة الإنسانيَّة والظروف الاجتماعيَّة الحاكمة لا سيما ما يتمتَّع به أصحاب تلك المعارف من مكانة اجتماعيَّة؟ وما العلاقة القائمة بين البيئة الاجتماعيَّة والعوامل النفسيَّة؟

ويتبين لنا من خلال ذلك أن سوسيولوجيا المعرفة تمثل العلاقة المحوريَّة بين المعرفة والمجتمع. وقد كان(ماكس شيلر) يعد هذا المجال علماً وموضوعه دراسة العلائق بين أنماط الحياة الاجتماعيَّة وأقسام المعرفة المتعدِّدة .

من جانب آخر, نجد أن (رابرت مارتن) يعرف هذا المجال باعتباره علما, بقوله: «يهتمّ علم اجتماع المعرفة بالعلاقة القائمة بين المعرفة والعوامل الخارجيّة في المجتمع أو الثقافة». في حين يرى (اشتارك) أنَّ وظيفة هذا العلم الأساسية تكمن في دراسة تأثير الشراكة الإنسانيَّة في الحياة الاجتماعيّة على المعرفة والفكر والثقافة وتحديد مداه .

وتمتدّ حدود علم اجتماع المعرفة لمساحاتٍ شاسعةٍ لتشمل نماذج عديدة من الوعي الإنسانيّ، فإنَّ جميع العلوم والمعارف تدخل تحت لوائه.

لقد لعبت المدرسة الفرنسية في تاريخ الفكر الاجتماعي وبزعامة العالم اميل دورکهایم دوراً كبيراً في إثبات أثر العوامل الاجتماعية في اكتساب المعرفة ونشأة العلوم، ولهذا تظهر اسهامات دوركهايم واضحة المعالم في سوسيولوجيا المعرفة ففي كتابة عن “الصور الاولية للحياة الدينية”  قدم دوركهايم تحليلاً عن اشكال او صور الدين والمعرفة الدينية ومصادرها وطبيعتها وآثارها, بنفس المنظور السوسيولوجي الذي التزم به من قبل, وانتهى من تحليلاته الى ان الدين يعتبر شيئاً اجتماعياً قائم على نسق معرفي محدد, بما يفيد او يسلم الى نتيجتين هامتين وهما ، ان الافكار والممارسات الدينية تشير الى وجود جماعة اجتماعية من ناحية ، وأن التجمع هو المصدر أو المنبع الأصلي والسبب النهائي لكل خبرة او معرفة دينية من ناحية أخرى ، إذ يمثل الدين في نظر دوركهايم معرفة قائمة على مجموعة من المعتقدات والممارسات في نسق يحقق القداسة للاشياء المحرمة والمقدسة، كما ان هذه المعتقدات هي التي توحد بين الافراد والجماعات، وذلك بان تخلق مجتمعاً اخلاقيا يعد شرطاً اساسياً لنموه.

وكمثال على علم اجتماع المعرفة, نجد مثلا أن الممارسات الدينية تشير إلى جماعة اجتماعية ، لذا فهي لا يمكن ان تشير إلى بيئة خارجية طبيعة ، ولا إلى طبيعة فردية ، بل تشير فقط إلى واقع أخلاقي للمجتمع ، من هنا كان الوجود الاجتماعي يمثل أصل الدين والتصورات الدينية لأن مصدر موضوع الدين مستمد من الحياة الجمعية ولا شيء غيرها في اعتقاده ، لذا اعتبر دوركايم أن الحقيقة الدينية هي حقيقة اجتماعية وجمعية لا تصدر إلا عن ما هو جمعي ، ولا تتحقق إلا في مجتمع ، كما أن الشعور الديني شعور جمعي وليس شعورا فرديا ، بل ان الوظيفة الاساسية للدين هي خلق وتدعيم التضامن الاجتماعي ولذلك فلن يبقى الدين إلا ببقاء المجتمع, أي أن افكارنا وممارساتنا الدينية ترمز إلى الجماعة الاجتماعية.

لذا نجد أن علم اجتماع المعرفة يقيم أسسه بالدراسة والتحليل للعلاقة بين الوضعيات الاجتماعية والمظاهر المتطابقة معها في صميم النظام الاجتماعي مع الاخذ بنظر الاعتبار تلك التقويمات الصادرة منها, ونجد مثال ذلك واضحا في اسـتثمار المنهـج المقـارن في دراسـة الظاهـرة الدينيـة مـن طـرف العلـوم الاجتماعيـة بهـدف التأكيـد أيـضـا عـلى أنـه لا يمكـن فصـل الدراسـة العلميـة للظاهـرة الدينيـة وإنتـاج المعرفة الدينية في المجتمع, عـن السياق العام لمسلسـل التغير الاجتماعي وتحـول الوظيفـة السوسيو – تاريخية للديـن داخـل المجتمعـات الإنسـانية .

يعكـس تفاعـل العلـوم الاجتماعيـة مـع العلـوم الدينيـة نسقا من المعرفة الإجتماعية المتعلقة بفهم أسس التفكير المجتمعي, وعوامل التأثير على هذه الأسس, إضافة أنها تسهم في فهم حقيقـة التطـور التاريخي للديـن كموضـوع للدراسـة في خضـم اختـلاف منطلقـات كل حقـل معـرفي : تقـارب العلـوم الاجتماعية المعتقـدات الدينيـة مـن منظـور نسبانیتها وارتباطها بوقائع فعلية ليست بالضرورة خياليـة ، لكـن مـن المسـتحيل أو مـن الصعـب البرهنـة عـلى حقيقة وجودهـا بوسائل منطقيـة أو تجريبيـة مقبولـة ؛ لذلـك فمسـألة حقيقـة وجودهـا لا تدخل في صلب اهتمام علماء اجتماع المعرفة .

تذهب المدارس الغربية المختصة بالدراسات السوسيولوجية, إلى أنه ولدراسة الدين كواقعة اجتماعية ، عملت السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا على موضعة المعرفة حـول المجتمع ، حيث لا يتـم فصل الدراسـة العلمية للظاهرة الدينيـة وإنتاج التدين عن السياق العام لمسلسـل التغيـر الاجتماعي وتحول الوظيفة السوسيو ـ تاريخية للدين داخل المجتمعات الإنسـانية . ويعكس هذا التفاعل للعلوم الاجتماعية مع العلـوم الدينية حقيقة التطـور التاريخي للدين كموضوع للدراسة في خضم اختلاف منطلقات كل حقل معرفي : تقارب العلوم الاجتماعية المعتقدات الدينية من منظور نسبانيتها وارتباطها بوقائع فعلية ليست بالضرورة خيالية ، لكن من المستحيل أو من الصعب البرهنة على حقيقة وجودها بوسائل منطقية أو تجريبية مقبولة ، لذلك فمسـألة حقيقـة وجودها لا تدخل في صلب اهتمام علماء الاجتمـاع بل فقط المعتقدين فيها ، في حيـن أن العلوم الدينية تقارب الدين من حيث هو معتقد يحمل حقيقته المطلقة في ذاته ، ويبني قوته من حيث وجود المعتقدين فيه .

 

*د. محمد أبو النواعير دكتوراه في النظرية السياسية/ المدرسة السلوكية الأمريكية المعاصرة في السياسة

ـــــــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك