حسن الربيعي ||
عرّفها في كتابه القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية*، القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلاً من الإرغام أو دفع الأموال. وتنشأ من جاذبية ثقافة بلد ما، ومثله السياسية، وسياساته، فعندما تبدو سياستنا مشروعة في عيون الآخرين، تتسع قوتنا الناعمة. وترتكز هذه القوة على قدرة جذب الآخرين والتحكم بتفصيلاتهم.
يقول ناي هناك طرق عديدة للتأثير في سلوك الآخرين، فمن لم تستطع ارغامهم بالتهديدات تستطيع اغرائهم بدفع الأموال، او ان تجذبهم وتقنعهم بان يريدوا ما تريد. اننا نستطيع أحيانا الحصول على النتائج التي نبتغيها بالتأثير على السلوك دون اصدار الأوامر، فاذا كنت تعتقد بان اهدافي مشروعة فاني سأتمكن من اقناعك بأن تفعل من أجلي شيئا دون ان استخدم التهديدات او الاغراءات، ومن الممكن الحصول على الكثير من النتائج المرغوبة دون ان تكون للمرء قوة ملموسة او كبيرة وواضحة على الآخرين.
والقوة الناعمة توازي مفهوم العولمة الثقافية والغزو الثقافي في تطبيقاتها، ويبدو ان جوزيف ناي قد سار في ظلال مقولة غرامشي التالية في صياغته لمفهوم القوة الناعمة.
ففي ثلاثينات القرن الماضي صاغ الفيلسوف والمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891 – 1937) نظرية (الهيمنة الثقافية) في مؤلفه الفلسفي المهم (دفاتر السجن)، حيث أوضح ان الهيمنة الرأسمالية تكون من خلال مؤسسات كالمدرسة والكنيسة والجرائد، والتي تخلق صورة جيدة لدى العامة من النخب الرأسمالية بهدف السيطرة على عقول هؤلاء وضمان عدم خروجهم عن سياق المجتمع الرأسمالي، وقد كانت فرنسا أول من استخدم هذا المفهوم من خلال التأثير الثقافي على شعوب مستعمراتها عن طريق التعليم لنشر وخلق صورة جيدة عن فرنسا في تلك المستعمرات، وقد روّجت أيضا كل من بريطانيا وأمريكا إلى مبادئ تتماشى مع طبيعة نظامها الاقتصادي، لكي تخدم مصالحها، فالليبرالية والديمقراطية تتماشى الى حد كبير مع الرأسمالية وحرية التجارة(2).
اما صموئيل هنتنغتون فقد أكد على أهمية الثقافة والإيديولوجيا في تفعيل القوة الناعمة التي يسميها (القوة اللينة)، ويقول ان التفوق بالقوة الناعمة يعتمد بشكل كبير على القوتين الاقتصادية والعسكرية لأنهما ينتجان الثقة بالنفس، أما التدهور في هاتين القوتين فيؤدي إلى الشك في الذات، ويخلق أزمة هوية(3).
وبعد دراسة المفهوم واستخداماته، يمكننا تقديم التعريف التالي للقوة الناعمة:
(القدرة على جذب المستهدفين، أو تغيير مساراتهم، بغية التحكّم بالسلوك، والتأثير في القيم، إقناعاً أو إيهاماً، ولا تتضمن العنف، والإرغام).
وعلى الرغم من انّ مصطلح القوة الناعمة ظهر في تسعينيات القرن الماضي، إلا أنّ البعض يعد هذا النوع من القوة ملازما للتاريخ الإنساني، وهو يظهر في كتابات الفلاسفة أمثال سقراط وكونفوشيوس وغيرهم، ولم تخلُ حضارة أو ديانة من تطبيقاتها. فقد زخرت مسيرة الأنبياء والمرسلين ومن سار على الخط الإلهي بانتهاج اللين كأسلوب للدعوة والتأثير في المجتمع، وأوضح مثال على ذلك هو رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، في دعوته للدين الإسلامي الحنيف، بأسلوب اللين والتودد، واستطاع أن يقنع عددا كبيرا من الناس فجذبهم ودخلوا الإسلام بعد أن كان بعضهم عدوا أو خصما أو من المعاندين، وهذا الأسلوب ذكره القرآن الكريم (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) آل عمران ١٥٩، كانت دعوة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لمصلحة الناس ومنفعتهم في الدنيا والآخرة. لذلك كان اسلوبه هو قوة ناعمة، نافعة ومفيدة لهداية الناس، ونشر الخير والمحبة والسلام. وهكذا كان أئمة الهدى عليهم السلام ينتهجون الأساليب الناعمة لنشر علومهم ومحاولتهم للإصلاح الديني والمجتمعي، وبرز دور سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء في محاولتها عليها السلام لتصحيح المسارات المنحرفة التي نشأت في صفوف المسلمين بعد استشهاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد استثمرت منزلتها عند المسلمين لتدافع عن حق الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في الخلافة، واستخدمت أساليب متعددة لإقناع الآخرين بضرورة رفض القيادات غير الشرعية، وأهم تلك الأساليب تمثل بخطبتها في المسجد النبوي الشريف. فالزهراء عليها السلام عالمة بمدى تأثير الخطابة في التعبئة الجماهيرية؛ لذا كانت اول الأساليب التي مارستها للدفاع عن الإمامة، وأثارت مشاعر المسلمين بأسلوب البرهان والاحتجاج بآيات القران الكريم والتذكير بأحاديث الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، لإثبات حق الامام علي عليه السلام وطلب النصرة له والقاء الحجة على المسلمين، وكذلك مطالبتها بحقها في فدك، وبيان اعتراضها وعدم رضاها على مغتصبي الحقوق والمحرّفين لمسار الدين. وبذلك نجحت في إيصال صوتها ليس لمن عاصرها فحسب، بل لجميع المسلمين عبر العصور(4).
كما تمثل ظاهرة الاحتفاء بالمناسبات التاريخية التي تتعلق بأهل البيت (عليهم السلام) أهمية خاصة عند الشيعة الإمامية، فهي عندهم لا تعني الاحتفال بحدث تاريخي، وإنما استلهام الدروس والعبر من صاحب الذكرى كما أنها تربط الناس بتلك الحقبة الزمنية ومراجعة أحداث التاريخ وبيان فضائل أهل البيت ومظلوميتهم. وأبرز تلك المناسبات هي عاشوراء، وزيارة الأربعينية، وكذا الاحتفال بعيد الغدير، ومجالس الذكر بمناسبة استشهاد الزهراء (عليها السلام)، بالإضافة لولادات المعصومين(عليهم السلام) ووفياتهم، وقد استثمرت هذه المناسبات لجذب المحبين وتعبأتهم بالوعظ والإرشاد واستذكار الأحداث التاريخية في تلك الأزمنة وبيان كيفية الاستفادة منها كدروس لحاضرنا ومستقبلنا، وفي بث علوم أهل البيت عليهم السلام. وهذا مثال حي للقوة الناعمة الفاعلة والمؤثرة في ملايين الناس في بقاع الأرض.
ومن الأمثلة النافعة الأخرى في استخدام القوة الناعمة هي عملية التسويق التي تقوم بها الشركات التجارية عند ترويجها لبضاعتها وجذبها للزبائن والعملاء.
أما مثال الاستخدام السيئ والشرير للقوة الناعمة هو ما تقوم به أمريكا في غزوها للعالم، ومحاولة الهيمنة والسيطرة على الشعوب واستعبادهم ونهب خيراتهم وثرواتهم والسيطرة على مقدراتهم، بشتى الوسائل والسبل، ولعل استراتيجية العولمة التي تسير بها أمريكا وتطبقها على العالم خصوصا العولمة الثقافية شاهد على ذلك، فقد ذهب العديد من الكتاب الى أن العولمة تعني تعميم النموذج الأمريكي على العالم، ويعرّف الدكتور محمد عابد الجابري العولمة بقوله هي العمل على تعميم نمط حضاري يخص بلداً بعينه هو الولايات المتحدة الأمريكية بالذات على بلدان العالم أجمع، وهي أيديولوجياً تعبر بصورة مباشرة عن إرادة الهيمنة على العالم وأمركته(5).
ولعلنا لا نجافي الحقيقة اذا قلنا إن القوة الناعمة الأمريكية تستمد جزءا كبيراً من مضمونها الفكري من العولمة، وبشكل أكثر تحديداً من العولمة الثقافية. التي تهدف إلى تحويل المحلي إلى عالمي، والجزئي المحدد بجغرافية معينة إلى كلي شامل لكل العالم، بعبارة أخرى، تحويل الأنموذج الأمريكي من سياقه المحلي إلى سياق كوني بشكل مقصود ومتعمد ليكون مثالاً على جميع دول وشعوب العالم أن تتأسى به وتقلده، فالأمركة أدق توصيفٍ لظاهرة العولمة التي تجتاح العالم منذ عقود. فقد تم تسويق هذا الأنموذج بالاستفادة من التطورات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والسياسية وغيرها، ونشر النموذج الأمريكي بكل أنساقه وقيّمه في العالم، وتوظيف التطورات التكنولوجية في عملية النشر هذه، وبشكل ناعم/ تدرجي إلى نقل هذه القيم، من طريقة تفكير، وأكل وملبس، وعادات وتقاليد، وطباع وممارسات، وفنون وآداب، إلى شعوب العالم بطريقة ناعمة خفية، وقد لعبت هوليوود دوراً بارزاً في هذه العملية الخطيرة، فالأفلام السينمائية والإعلانات وثقافة تقليد المشاهير، بالإضافة إلى المحورية التي تمتعت بها وسائل التواصل الاجتماعي في تغيير القناعات والسلوكيات عبر التأثيرات الثقافية.
وإذا كانت القوة الناعمة تقوم على الجذب والإقناع وتغيير سلوك الطرف المقابل، فان العولمة الثقافية تلعب الدور نفسه بشكل أكثف وأوسع وأسبق، وهذا يؤكد فكرة أن العولمة الثقافية شكلت وتشكل مرجعية فكرية تستقي منها القوة الناعمة الأمريكية استراتيجيتها ومضامينها إلى حد كبير وبعيد.
ولقوة التأثير السلبي والتدمير والضرر الذي تسببه أمريكا لشعوب العالم، أُطلق على فعلها هذا بالحرب الناعمة، وأبرز من أشار إلى ذلك قائد الثورة الإسلامية سماحة السيد علي الخامنئي رعاه الله.
فلابد من التفريق بين مفهومي القوة الناعمة والحرب الناعمة، لأن المفهوم الأول يمكن استخدامه لصالح المجتمع إذا ما أحسنت النخب والمؤسسات الرسمية التعامل مع مصادرها المحلية، كما يمكن أن يستخدم ضده إذا تراجع الاهتمام المحلي ونشط الاستهداف من قبل الخصوم، بينما يشير مفهوم الحرب الناعمة(*)إلى استخدام القوة الناعمة للإضرار بالمجتمع المستهدف، والهيمنة عليه.
https://telegram.me/buratha