الشيخ الدكتور باسم دخيل العابدي ||
سلسلة: من وحي الحسين عليه السلام. الحلقة(6):
العشائرية واحدة من مفاصل التركيبة الاجتماعية لدى الامم والشعوب لاسيما المجتمع العربي القديم بل والحديث ايضا وقد شكلت في كثير من المواقع والبلدان قوة ضاغطة سياسيا واجتماعيا وعسكريا ومنها خوضها الملاحم الكبرى في الدفاع عن العقيدة والاوطان على ضوء فتوى الفقهاء وخلف راية العلماء والمراجع ومن ذلك مواقف العشائر وجهادها في ثورة العشرين ضد الانكليز وتفاعلها الشديد مع فتوى الامام السيستاني ضد يزيدية القرن الحادي والعشرين بما يدل على ان حراك العشائر حراك ديني يندرج تحت مصطلح الجهاد بما يحمل المصطلح من دلالة دينية لاغير.
قد تضعف العشائر بحسب الزمان والمكان والظروف والاحوال الا انها لم تغب تماما عن الحضور في الاحداث حيث يكون حضورها الجمعي مرددا في الوقائع بين القوة والضعف دون ان يكون معدوما على وجه التمام الا في واقعة الطف فقد غاب دور العشائر بعنوانها التنظيمي تحت مسمى العشيرة فقد اختفت رايات العشائر في كربلاء ولعل هذا السبب هو الذي دعا الامام الحسين للتغافل عن هذه القضية ولم يرد على لسانه مخاطبة العشائر باسمائها في خطاباته ليلة العاشر من محرم وفي يومها وما قبلها وخاطب بعض الاشخاص الذين ارسلوا له خطابات الدعوة للقدوم الى العراق باسمائهم الشخصية دون قبائلهم ومنهم حجار بن ابجر وشبث بن ربعي.
اما لماذا غابت العشائر بصبغتها العشائرية المنظومية عن القدوم الى كربلاء ونصرة الامام الحسين عليه السلام؟ هذا مما يحتاج الى دراسة منفصلة ومفصلة سنعرض لها في وقت لاحق باذن الله تعالى.
والمستفاد مما مر ان الذين انضموا من العشائر للقتال الى جانب الامام الحسين او اولئك الذين انضموا الى جيش عبيد الله بن زياد لم يقدموا الى كربلاء تمثيلا لعشائرهم او جاؤوا يقاتلون باسمائها وانهم لم يأتوا الى كربلاء بأمر من شيخ العشيرة ,وان ورد في كتب التاريخ والمقاتل ذكر نسبتهم الى هذه العشيرة او تلك الا ان الذين اختاروا القتال الى جانب الامام الحسين كانوا من النخبة الموالية والمؤمنة وكان قرارهم بالانضمام الى الامام عليه السلام قرارا شخصيا فرديا لم يحصل بسبب توصية شيخ العشيرة التي ينتمون لها وليس تمثيلا له ليضعوا بذلك اصول الانتماء ومعياريته التي تقوم على ان الانتماء للاسلام مقدم على الانتماء للعشيرة او رئيس العشيرة وان مصلحة الاسلام فوق مصلحة العشائر والقبائل ورموزها وشيوخها وان طاعة هؤلاء الشيوخ تنتهي بحدود مخالفة الدين والمذهب لذلك حصل الافتراق بين بعض رؤساء القبائل وبين ابناء قبيلتهم حين انضم الشيخ الى جانب عبيد الله بن زياد طمعا في المال والسلطة واختار خزي الدنيا والاخرة فيما التحق بعض افراد قبيلته بالامام الحسين عليه السلام واختار كرامة الدنيا والاخرة .
ولهذا السبب- الاختيار الشخصي النخبوي- نجد حبيب بن مظاهر وحرملة بن كاهل يفترقان في محل الانتماء فاحدهما انتمى الى معسكر الامام الحسين والاخر حل في معسكر عمر بن سعد مع اتحادهما في العشيرة ولهذا السبب ايضا لم يرد في تاريخ العشائر مؤاخذة بني اسد مثلا على فعل حرملة بن كاهل الاسدي ذابح عبد الله الرضيع.
ومن هنا فان الرسالة التي بعثتها واقعة كربلاء في مسالة العشائرية واضحة وفحواها ان الدين هو معيار الاختيار وان اهل البيت عليهم السلام هم ميزان الانتماء وان حدود الالتزام مع العشيرة بمقدار التزامها بالدين واهله.
وهذا المعنى ورد في النصوص القرانية والروائية ومنها قضية النبي نوح عليه السلام مع ابنه المتمرد على دين الله فلما التمس له نوح عليه السلام العفو في قوله تعالى :{ وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي } جاءه الرفض الدال على حقيقة الانتماء في قوله تعالى: { قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } فهو وان كان ابننوح عليه السلام ومن صلبه الا انه ليس من دينه ولاينتمي اليه لذلك لاينبغي ان ينظم الى سفينة الخلاص والنجاة.
كما بين القران الكريم مرة اخرى حقيقة الانتماء في قوله تعالى: { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }وهنا يؤكد ان ملاك الحب والبغض والولاء والبراء والتاييد والرفض والقبول وعدمه لايتبع الاخوة والعمومة والعشيرة ابدا فيما لو كان الاخ وكانت العشيرة بعيدة عن مسالك الحق وطرائق الهدى.
وفي الاية الاتية دلالة صريحة على وجوب مفارقة الاباء والاخوان في مقابل الالتزام بالدين ونصرته يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } فاذا كان عدم اتخاذ الاباء والاخوة أولياء على حساب الدين والمذهب -وهم الاقرب الى الانسان من عشيرته - فالاولى عدم تقديم العشيرة على الدين والمذهب.
وجاءت الروايات لتعزز الايات القرانية في هذا المعنى ومنها قول المعصوم عليه السلام: (لا يجد أحدكم طعم الايمان حتى يحب في الله ويبغض في الله).
اما التطبيقات المعاصرة للمعيارية التي عرضها القران والرواية في الولاء والبراء فنجدها في هذه الامثلة:
• في الانتخابات اذا اعطيت صوتك لمرشح العشيرة على الرغم من عدم كفاءته وتدينه ولم تعطه للكفوء الملتزم من عشيرة اخرى.
• في المشكلات الاجتماعية اذا بنيت مواقفك على العصبية العشائرية وليس على مباني الدين والموضوعية والعلمية.
• في الصراعات السياسية ان كنت توالي وتعادي على ضوء الحزبية والعشائرية وليس على وفق الشرع وحدوده.
• عند تعارض الديني مع الوطني والقومي وتفضيل الاخير حتى وان كان صدام حسين او علي كيمياوي.
• عند التزاحم بين طاعة العلماء أو طاعة السلاطين فترجح طاعة الحاكم وان كان ظالما لانه من اقربائك او من افراد عشيرتك.
ـــــــــ
https://telegram.me/buratha