د.محمد العبادي ||
تميزت مواقف علماء الشيعة بالاعتدال والاتزان إنطلاقاً من الأحاديث التي تأمر بأن يسلك الانسان سبيلاً وسطاً للخروج من فكي الافراط والتفريط .
وفي العصر العباسي الأخير كان الشيعة عرضة لحملات طائفية يقودها بعض الطائفيين ضدهم، ولم يكتف أولئك المتطرفون بما يجري على الشيعة، بل استهدفوا علماءهم ورموزهم الدينية والسياسية، حيث سيقت ضدهم تهماً باطلة وفي جميع الاتجاهات، وممن استهدف آنذاك الوزير ابن العلقمي، والخواجة نصير الدين الطوسي وغيرهما ، حيث قام الطائفيون وبمساندة العوام بحملات مسعورة ضد الشيعة ، ومما يبعث على الأسف زالأسى أن بعض المؤرخين عرضوا الأحداث التاريخية بلهجة مذهبية متعصبة، وتغافلوا عن أقوال المؤرخين الذين لا يؤيدون ذهنيتهم المذهبية بسبب تضارب الأقوال بشأن ذلك العصر ورموزه مما جعل الحقيقة يكتنفها الغموض.
من أجل هذا سوف نسلط الضوء على بعض الأحداث التي حصلت في نهاية العصر العباسي لتتبيّن لنا جلية الأمر في طبيعة التهم الملصقة بالشيعة وعلمائهم ، وقبل بيان مواقف ابن العلقمي نتوقف قليلاً للتعرف على شخصيته وملامحها الاجتماعية والعلمية والسياسية وهي:
ابن العلقمي 593 - 656 هـ
هو محمد بن أحمد بن علي، أبو طالب، أبو طالب، مؤيد الدين الأسدي البغدادي المعروف بابن العلقمي، وزير المستعصم العباسي.(1)
ومن حيث النسب واللقب «هو أسدي أصلهم من النّيل، وقيل لجدّه العلقميّ لانه حفر النّهر المسمّى بالعلقمي»(2).
وهو من أهالي الحلّة السيفية، حيث قضى فجر حياته الأولى فيها.(3)
وله من الأبناء ولدان أحدهما: شرف الدين أبو القاسم علي بن محمد بن العلقمي والذي تولى منصب الوزارة بعد وفاة أبيه(4) والآخر أبو الفضل محمد بن محمد بن العلقمي وقد كان عالماً وشاعراً وقد ترك أشعاراً منسوبة له.(5) وتوفي ابن العلقمي في سنة 656 هـ في جمادى الاولى سنة 656 هـ ، ودفن في مشهد موسى بن جعفر الكاظم ببغداد(6).
نشأته العلمية
بدأ ابن العلقمي رحلته العلمية في الحلّة، فقد ذكر الصفدي أن ابن العلقمي في أثناء صباه «اشتغل بالحلّة على عميد الرؤساء أيوب»(7)، وكان قد فاق أقرانه في الأدب فقد أورد ابن الطقطقي ذلك قائلاً «اشتغل في صباه بالأدب ففاق فيه، وكتب خطاً مليحاً، وترسّل ترسّلاً فصيحاً، وضبط ضبطاً صحيحاً»(8) وبعد ذلك ذهب الى بغداد ليدرس علم الحديث عند أبي البقاء عبد الله بن حسين العكبري والذي يعد أحد كبار المشايخ آنذاك فسمع الحديث عنده.(9)
لقد كان ابن العلقمي فرداً في إنشاء الرسائل، وذلك ما يستشف من عبارة الزركلي حيث قال أنه كان «كاتباً فصيح الإنشاء»(10). وفي أثناء ذهابه إلى بغداد وطلبه العلم كان مقيماً عند خاله عضد الدين ابي نصر المبارك بن الضحاك والذي كان يشغل منصب استاذ الدار.(11)
ونظراً لسابقته العلمية وفضله في علم الأدب والنحو والحديث فقد «اشتهر ابن العلقمي بعلمه واستقامته وجودة خطة، وكان من هواة جمع الكتب، كما كان نصيراً للعلم»(12).
وذكر ابن الطقطقي ان ابن العلقمي «كان يحبّ أهل الأدب ويقرّب أهل العلم، اقتنى كتباً كثيرة نفيسة.
حدَّثني ولده شرف الدين أبو القاسم عليّ، رحمه الله، قال: اشتملتْ خزانةُ والدي على عشرة آلاف مجلّد من نفائس الكتب. وصنف له الكتب، فممن صنّف له الصاغاني اللغوي، صنّف له العُباب وهو كتاب عظيم كبير في لغة العرب؛ وصنّف له عزّ الدين عبد الحميد بن أبي الحديد كتاب شرح نهج البلاغة، يشتمل على عشرين مجلداً، فأثابهما وأحسن جائزتهما. وكان ممدّحاً، مدحه الشعراء، وانتجعه الفضلاء»(13).
ومن هنا نلاحظ أن ابن العلقمي كان رجلاً عالماً فاضلاً له صلات بأهل العلم والفضل كما هو في علاقته بالسيد رضي الدين بن طاوس حيث كان عشيراً ورفيقاً له، وقد أشار إلى ذلك العزاوي(14).
تجدر الإشارة إلى أن ابن العلقمي كان يعتنق المذهب الشيعي الاثنى عشري ولهذا وسَمَه كثير من المؤرخين بالرافضي بغضاً لمذهبه.
ابن العلقمي والانتقال إلى الحياة الساسية
دخل ابن العلقمي ميدان السياسة عن طريق خاله عضد الدين ابن الضحاك، حيث كلّفه بكتابة الرسائل في الديوان ،ثم تدرج في سلم المسؤولية الإدارية ،وقد ذكر ذلك الغساني بقوله «ثم انظم إلى خاله استاذ دار الخلافة عضد الدين أبي نصير المبارك ابن الضحاك، وكان شيخ الدولة فضلاً وعلماً ورئاسة وتجربة، فتخلق بأخلاقه وتأدَّب بآدابه، واستنابه في ديوان الأبنية، وشغله بعلم الإنشاء إلى أن توفي خاله، فانقطع ولزم داره، فاستدعى مؤيد الدين إلى دار التشريفات وأمره بالتردد إليها في كل يوم، ومشاركة النواب بها، فلما نقل استاذ الدار أحمد بن الناقد(15) إلى الوزارة نقل مؤيد الدين إلى استاذية الدار»(16) . وبعد أن توفي ابن الناقد نصّب ابن العلقمي وزيراً مكانه «وارتقى إلى رتبة الوزارة (سنة 642) فوليها أربعة عشر عاماً. ووثق به «المستعصم» فألقى إليه زمام أموره، وكان حازماً خبيراً بسياسة الملك»(17).
وقد وصف ابن طباطبا كفاءته السياسية وسلوكه الاداري بقوله كان: «وقوراً محبّاً للرياسة كثير التجمّل، رئيساً متمسكاً بقوانين الرياسة خبيراً بأدوات السياسة لبيق الأعطاف بآلات الوزارة»(18). كما أن الغساني هو الآخر وصف أهلية ابن العلقمي السياسية قائلاً عنه «كريم الطباع، خير النفس كارهاً للظلم خبيراً بتدبير الملك، لم يباشر قلع بيت ولا استيصال مال»(19).
ومما سبق يتضح ان ابن العلقمي تدرّج في مناصب إدارية مختلفة في مدة تزيد على ثلاث عقود زمنية.
الوزير ابن العلقمي رجل الوسطية والاعتدال في زمن التعصب
كتب صاحب الفخري: أن ابن العلقمي كان رجلاً فاضلاً كاملاً لبيباً كريماً وقوراً.(20) فهو يؤدي وظائفه الإدارية والدينية بشكل جيد، وبعيد عن التعصب لمذهبه، ويحضر في محافل أهل السنّة ومساجدهم ويستمع إلى خطبهم في جامع القصر.(21)
وكان يدعو الأساتذة من المذاهب الإسلامية إلى إلتزام الاعتدال والابتعاد عن الأساليب التي تثير حساسية الناس، وتهدد وحدتهم ففي سنة 645 هـ «أحضر مدرسو المستنصرية إلى دار الوزير وتقدّم إليهم أن لا يذكروا شيئاً من تصانيفهم، ولا يلزموا الفقهاء بحفظ شيء منها، بل يذكروا كلام المشايخ تأدباً معهم وتبركاً بهم، وأجاب جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي مدرس الحنابلة بالسمع والطاعة، ثم مدرس المالكية سراج الدين عبد الله الشرمساحي، وقال «ليس لأصحابنا تعليقة، فأما النقط من مسائل الخلاف فمما أرتبه» فبان بذلك عذره، وأما شهاب الدين الزنجاني مدرس الشافعية وأقضى القضاة عبد الرحمن بن اللمغاني مدرس الحنفية، فأنهما قالا ما معناه «أن المشايخ كانوا رجالاً ونحن رجال» ونحو ذلك من إيهام المساواة فأنهيت صورة الحال، فتقدم الخليفة أن يلزموا بذكر كلام المشايخ واحترامهم، فأجابوه بالسمع والطاعة»(22) إن الوزير كان يمارس دور التهدئة، انطلاقاً من موقعه في الدولة، ويحاول أن يجعل الخطاب الديني أكثر قبولاً.
وكان ابن العلقمي يتعامل حتى مع غير المذاهب الإسلامية بروح العدالة والإنصاف، كما هو في شكوى اليهودي ضد نسيبه وقريبه.(23)
سطوة الطائفية ضد الشيعة في العصر العباسي الأخير
تمّت مصادرة حقوق الشيعة الحياتية والاجتماعية والثقافية من قبل الخلفاء الأُمويين وأكثر الخلفاء العباسيين، وأيضاً نبذوا وهُجروا من الناحية السياسية.
وقد تعرضوا للقتل والسبي وانتهاك أعراضهم لا لشيء سوى أنهم يوالون الرسول وأهل بيته (عليهم السلام)؛ وإليك بعض نماذج تلك السطوة وكيفية بدايتها بمنع الشعراء إلى أن تطورت، وذلك من خلال الحملات التي قام بها عوام الناس ضد الشيعة. فقد كان متعارفاً حينذاك أن يأتي الشعراء في أيام عاشوراء إلى الوزير ويقرأون قصائدهم في رثاء الحسين وأهل بيته إلا أنه في سنة 647 هـ لم يحضروا عند الوزير ما عدا نفر واحد.
ففي أول المحرم سنة 647 هـ لم يحضر أحد من شعراء الديوان إلا ابن أبي الحديد فأورد قصيدة(24). وتم تبرير وتوجيه عدم مجيء الشعراء بفيضان دجلة!!
وفي سنة 648 هـ منع أهل الكرخ والمختارة في بغداد من النياحة والإنشاد وقراءة مقتل الحسين عليه السلام؛ خوفاً من تجاوز ذلك إلى وقوع فتنة!.(25)
وفي سنة 650 هـ تجدد منع الشيعة من ممارسة شعائرهم الدينية، وبنفس الذريعة فمنعوا من قراءة المقتل في يوم عاشوراء خوفاً من وقوع الفتنة!!.
وفي سنة 653 هـ قام أولئك الذين يطففون في موازينهم المذهبية بالهجوم على الشيعة في عقر دارهم بهجومين: الأول في المحرم، والهجوم الثاني في ذي القعدة، وقد ذكر ابن الفوطي ذلك فقال: «في محرم حدثت فتنة بين أهل الكرخ وباب البصرة، قتل فيها عدة كثيرة من الفريقين، ودام الشر بينهم، فأرسل الديوان طائفة من الجند نزلوا بين المحلتين لمنع الفتنة فمالوا على أهل الكرخ، ونهبوا الدور المتطرفة منها، ثم أخذوا خطوط المشايخ (26) من أهل المحلتين بكف الجهال عن الشر، ونصبت أخشاب على أبواب المحلتين لصلب من يثير الفتنة، فكفوا أنفسهم، ثم عادوا الى ذلك في ذي القعدة فخرج العسكر لكفهم عن ذلك فلم يمتنعوا وقتل بينهم خلق كثير، ثم اصطلحوا ظاهراً، فعاد العسكر عنهم، وتجدد بسبب ذلك بين محال أهل بغداد فتن من أجل المذهب فكفهم الديوان ومنعهم»(27).
وفي سنة 654 هـ قام الطائفيون بحملة مسعورة أُخرى ضد الشيعة وذلك في «ذي الحجة، قتل أهل الكرخ رجلاً من أهل قطفتا فحمله أهله إلى باب النوبي، فدخل جماعة من الخدام إلى الخليفة، وعرفوه وعظموا ذلك ونسبوا إلى أهل الكرخ كل فساد، فأمر بردعهم فركب الجند إليهم، وتبعهم العوام ونهبوا محلّة الكرخ، وأحرقوا عدة مواضع، وسبوا كثيراً من النساء والعلويات والخفرات، وسفكوا الدماء، وعملوا كل منكر، وكان الجند والعوام يتغلّبون على من قد نهب شيئاً فيأخذونه منه، وعظمت الحال في ذلك فخوطب الخليفة في أمرهم بالكف عنهم ونودي بالأمان، فدخل جماعة من الكرخ إلى منازلهم وقد تخلّف بها قوم من العوام وغيرهم فقتلوهم ثم تقدم الخليفة إلى الجند وغيرهم باحضار ما نهبوه إلى باب النوبي فأحضروا شيئاً كثيراً، فرد على من عرف ماله ما وجده وكان شيئاً لا يحصى كثرة، ونودي بحمل النساء والأسرى إلى دار الرقيق فحملوا وأعيدوا إلى أربابهم ثم حصل الذي كانت الفتنة بسببه، وقتل وصلب قاتل القطفتي بباب الكرخ»(28).
إن قاتل الشخص القطفتي قد قتل وصلب، أما قتلة الشيعة ومنتهكوا أعراضهم فاعفوا من ذلك. إن هذه الاجراءات وغيرها تشير إلى أن الشيعة هم عبارة عن مواطنين من الدرجة الثالثة أو الرابعة، فقاتلوهم لا يقاصّون، وبائعوهم في أسواق الرقيق لا يحاسبون!!
وفي سنة 655 هـ «ثارت فتنة مهولة ببغداد بين السنّة والرافضة(29) أدت إلى نهب عظيم وخراب وقتل عدّة من الرافضة»(30). وقريب من هذه القصة يوردها الذهبي في تأريخه.(31)
ومما هو جدير بالذكر أن كلمة (الفتنة) التي اتفقت عليها كلمة المؤرخين السنة ما هي إلا لتضليل القارئ في أن الشيعة وباقي المذاهب كانوا على حد سواء في إذكائها وإدامة نيرانها، في حين أن الواقع التاريخي يثبت أن الشيعة كانوا ضحية لاولئك النواصب، وهم يقومون برد فعل ليس إلاّ، كما أن هذه الهجمات المحمومة كانت متزامنة مع إحياء المناسبات الدينية عند الشيعة في شهر ذي الحجة ،ومحرم، وصفر، وهو مايشير الى ضيق أفق الآخرين وغليان مرجل الطائفية في صدورهم ؛ فهم لايستطيعون أن يشاهدوا الشيعة في محافلهم ومراسمهم مجتمعون.
إن هذه الأوضاع المتوترة وفي عاصمة الخلافة العباسية تشير الى أن الجبهة الداخلية كانت هشة جداً ، وقد كان العامل الطائفي يقبع خلف كل هذا التفكك . إنه يشير الى وجود علماء يحركون في الناس غرائزهم وعواطفهم عندما تأتي مناسبات الشيعة ،ولذا كان الشيعة ضحايا تلك الهجمات التي غالباً ما تصدر من الطائفيين .
كل هذا التشرذم والتشتت والضياع ،وهم لاهون عن الخطر الخارجي المتمثل بالمغول الذين كانوا يتقدمون بإضطراد في قضم وإحتلال الأراضي الإسلامية شرقاً منذ حوالي أربعة عقود ، وقد أصبحوا على مرمى حجر من عاصمة الخلافة العباسية !.
الجيش في العصر العباسي الأخير
كان المستنصر العباسي قد استكثر من الجند حتى بلغ مائة ألف، ولم يستفد هذا الخليفة من هذه القدرة العسكرية في الدفاع عن حياض الوطن الإسلامي الكبير، كما أن الخليفة المستعصم العباسي هو الآخر لم يستفد من الجيش بل إنه قام بتسريح الجيش وتفكيك قواه العسكرية.
فقد ذكر الذهبي في تأريخه أن «الخليفة أهمل حال الجند وتعثّروا، وافتقروا، وقُطعت أخبارهم، ونُظِم الشّعر في ذلك»(32).
وذكر ابن شاكر الكتبي «أن الخليفة قد أهمل حال الجند ومنعهم أرزاقهم، فآلت أحوالهم إلى سؤال الناس، وبذل وجوههم في الطلب في الأسواق والجوامع»(33).
فالخليفة هو المسؤول الأول والأخير عن اضعاف قدرة الجيش ولا حاجة إلى إلقاء تبعة سوء التدبير في عهدة الوزير ابن العلقمي
لقد كان الجيش يعاني من المشكلة المالية قبل أن يأتي الوزير ابن العلقمي للوزارة، أي في زمن الوزير ابن الناقد، ففي شعبان من سنة 640 هـ حصلت وقعة الأتراك حيث حضر جماعة من المماليك الظاهرية والمستنصرية عند شرف الدين اقبال الشرابي وطلبوا الزيادة في معايشهم وبالغوا في القول، والجد في الطلب فرد عليهم، وقال: ما نزيدكم بمجرد قولكم، بل نزيد منكم من نزيد إذا أظهر خدمة يستحق بها، فنفروا من فورهم إلى ظاهر السور وتحالفوا وتعاضدوا، وطالت المسألة إلى أن حسمت وحلت برجوعهم واعتذارهم.(34)
وكانت المشكلة الاقتصادية التي تعاني منها الخلافة، مضافاً إلى حالة البخل التي يتصف بها الخليفة وعدم خبرته في ادارة الموارد المالية هما السبب في انحلال الجيش، ولو كان الوزير ابن العلقمي هو السبب لثاروا عليه، وقد ذكر الذهبي أن الجند ثاروا، ولم ينحوا باللائمة على الوزير. ففي سنة 648 هـ «ثارت طائفة من الجُند ببغداد ومنعوا يوم الجمعة الخطيب من الخطبة، واستغاثوا لأجل قطع أرزاقهم»(35).
وفي سنة 651 هـ «نزح خلْقٌ من الجند من بغداد إلى الشام لقطع أرزاقهم»(36).
لقد كان الطائفيون يمارسون نوعاً من الإسقاط فالتعاون مع المغول كان من قبل الأمراء والملوك من المنتسبين للمذاهب الأخرى في حين أنزلوا التهمة على الوزير الشيعي ابن العلقمي (رمتني بدائها وانسلت)! إن المغول بقيادة هولاكو تحركوا باتجاه الغرب وقدّم لهم أُمراء تركستان وما وراء النهر فروض الطاعة(37)، وتوجه الملك الكامل محمد بن شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين إلى خدمة هولاكو فأكرمه وأمّنه(38)، وآخرون قدّموا طاعتهم لهولاكو وزادوا بأن طلبوا نجدة من هولاكو للتخلص من المماليك، كما فعل ذلك الملك الناصر صاحب دمشق.
وقد أمر هولاكو بإرسال عشرين ألف فارس معه ضد المماليك(39). وغيرهم أيضاً تعاونوا مع المغول.
وقد أصاب الدكتور القزاز بقوله عند تحميله جزءاً من المسؤولية على الاُمراء بسبب انقساماتهم وصراعاتهم من دون أن يقدّروا المرحلة الخطيرة التي يعيشها العالم الإسلامي.(40)
أما بشأن المراسلات والكتب التي نسبها البعض فيما بين ابن العلقمي والمغول، فهي محض إفتراء ،وجهل بالأحداث التأريخية وتجاوز لنصوصها.
فقد كان من الأعراف السائدة في ذلك الزمان عندما يرسل مبعوثاً من أحد الأمصار أو من بلد معين أن يكون هناك استقبال رسمي له في سور البلد خارج بغداد ويقوم باستقباله أستاذ الدار ومعه جماعة من الجند، وبعد ذلك يأتي إلى الوزير ليعرض ما عنده ،وكمثال على ذلك في سنة 643 هـ وصل إلى بغداد رسول من المغول وتم استقباله من قبل رجال الدولة، وتم استقباله من قبل الوزير.(41) إلا أن هناك بعض الأخبار المغرضة تحاول التشكيك في نزاهة الوزير ابن العلقمي (ففي سنة 644 هـ قدم رسولان من التتر واجتمعا بالوزير وتعمّت(42) على الناس بواطن الأمور.)(43) ويصور لنا بعضهم الحادثة وكأن الوزير يجري مفاوضات سرية مع المغول، والناس خفي عليهم ما يدور خلف الكواليس. في حين أن الخليفة وأركان دولته بما فيهم الوزير كانوا لا يذيعون ما دار بينهم وبين المغول إلى الناس، فضلاً عن أنهم لا يشركون أحداً في أمورهم.
وكيف للخليفة أن يبقي الوزير في منصبه إلى سنة 656 هـ ويعلم أنه يجتمع بالمغول ويتآمر عليه؟. وقد كان الوزير ابن العلقمي في سنة 644 هـ تربطه بأكثر أرباب الدولة علاقات وثيقة فكيف يتآمر عليهم.
كما أن المقريزي هو الآخر لمز ابن العلقمي في قضية تردد الرسل إليه فقال: في سنة 654 ? جاءت رسل المغول وقد اجتمعوا وتحدّثوا مع الوزير ابن العلقمي.(44)
وهناك مؤرخين قالوا وبشكل واضح حقيقة ما بعث به هولاكو إلى ابن العلقمي، ولم يحاولوا أن يعرضوا الخبر على أنه خيانة قام بها ابن العلقمي في مجيء الرسل إليه فقد ذكر ابن العبري: أن هولاكو أثناء حصاره لقلاع الملاحدة بعث إلى الخليفة يطلب نجدة فأراد أن يسير جيشاً إليه، فلم يقدر، ولم يمكنه الوزراء والامراء.(45)
كان ذلك في 654 هـ . فإذن هولاكو بعث بالرسل إلى الخليفة لأجل هذا الغرض وهو تزويده بجيش أو نجدة يساعدونه في حصاره لقلاع الاسماعيلية في منطقة الألموت.
كما أن هولاكو عندما أراد التوجه إلى بغداد في سنة 655 هـ أرسل رسولاً آخر إلى الخليفة وعاتبه على إهماله تسيير هؤلاء الرسل عندما يأتون يستقبلهم الديوان، ويبعث بهم إلى الوزير، ومن ثم يأتون إلى الخليفة.
إنّ بعض المؤرخين وبدوافع طائفية ساق الأخبار التاريخية على غير وجهتها من أجل تعليق كل مايجري في العالم الإسلامي بعامل واحد وهو شخص ابن العلقمي .
من المفارقات ان صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ كان قد تعاون مع المغول وأرسل لهم الإمدادات من السلاح والميرة وأكثر من ذلك فإن صاحب الموصل قد أرسل ولده الملك الصالح ركن الدين وهيأ لهم الولائم والإقامات ثم بعد كل هذا التعاون من صاحب الموصل يتعامى بعض المؤرخين عن مجريات الأحداث التاريخية ويقولون أن الوزير ابن العلقمي قد منع وصول رسائل صاحب الموصول بدر الدين لؤلؤ الى الخليفة وحجبها عنه لكي لايعرف الخليفة عن المغول شيء وحجبها ابن العلقمي إن صاحب الموصل كان قد تعاون مع هولاكو، وأرسل مدداً من الموصل برفقة ولده الملك الصالح ركن الدين، وكان لؤلؤ قد هيأ لهم الإقامات والسلاح.(46)
فأي رسائل لصاحب الموصل كان الوزير يخفيها عن الخليفة؟ وما مدى أهمية تلك المعلومات التي يقدّمها والمغول منذ أربعة عقود يتحركون ويقتلون في بلاد المسلمين؟! وهل تستحق أن يأخذ بها الوزير؟!.
الوزير ابن العلقمي أبدى النصح للخليفة
المعلومات عن احتلال بغداد كانت بيّنة، وقد أوضحتها المصادر التاريخية بوضوح، إلا أن بعض الاقلام عرضتها وكأنها جميعاً حصلت في ساعة واحدة، أو كأنّها كلّها حدثت في أثناء حصار بغداد.
إن الوزير ابن العلقمي عرف أن هولاكو رجل يستطيع الخليفة أن يمدّه بهدية ومال ويثنيه عن القدوم الى بغداد، لذلك عرض نصيحته بأن يقدم له هدية علناً أمام الملأ، إلا أن أعداءه حتى في تلك اللحظات كانوا حانقين عليه فاتهموه بأنه يدبر أمر نفسه، وقالوا ان لدينا القدرة على مواجهة المغول!!
ولكننا نتساءل ونقول: أيهما أحق أن يتبع دفع المال إلى هولاكو وإقناعه بذلك أم مواجهته بجيش ضعيف واختار الخليفة رأي الوزير، إلا أن الدويدار(47) وجنده آثروا مخالفة الوزير مهما كانت النتائج واتهامه بالضعف، وجرّبوا خيار الدويدار فسقطت بغداد وقتل أهلها.
وقد قالوا إن ابن العلقمي خرج إلى هولاكو فتوثق منه لنفسه وأجرى مع هولاكو اتصالاً(48).
وهذه الحقيقة بعكس ما ورد في النصوص الصريحة وغير القابلة للتأويل فقد كان خروج الوزير بطلب من الخليفة وقدّر الوزير أن ذهابه إلى هولاكو فيه مخاطر، والبلد تحتاج إلى تدبير، فخرج الوزير إلى الخليفة «وقال: يا مولانا إذا خرجتُ فمن يُدبّر البلد ومن يتولّى المهامّ؟ فقال له الخليفة: لا بدّ أن تخرج. فقال: السمع والطاعة»(49). إن خروج الآخرين لملاقاة هولاكو كابن الجوزي وسليمان شاه وغيرهم لا يثير ريبة(50) في حين خروج الوزير وبطلب من الخليفة يثير الشكوك!! ما لكم كيف تحكمون؟!
وهناك ملاحظة جديرة بالاهتمام، وهي أن الوزير كان على طاعة الخليفة إلى اللحظات الأخيرة، وهو ما ذكر في النص، ولو كان قد خامر وتخابر مع المغول أو تعاون معهم، فإنه سيتنمّر على الخليفة والدويدار وأركان الدولة عندما وصلت جيوش المغول بغداد، غير أن أياً من ذلك لم يحصل.
أما القصة المفتعلة في العرض الذي قدّمه الوزير للإيقاع بالخليفة في زواج ابنه من ابنة هولاكو، فهي قصة عجيبة، ولا ندري كيف استساغ بعض المؤرخين تصديق مثل هذه القصة التي لا يرتضيها من له بقية من عقل، وقد قبلها بعض المؤرخين تحت سطوة التعصب المقيت!!
إذ كيف يعقل ان هولاكو يريد تزويج ابنته من ابن الخليفة وهو على أبواب بغداد، وفي قبضته وقد قطع طريقاً طويلاً مع جيشه العرمرم الذي كان يأتي القرى فيهلك أهلها، ويستبيح حرماتها؟! وإليك ما أورده ابن العبري حيث ذكر انه بعد الاستيلاء على أسوار بغداد وتسللهم من برج العجمي «أمر هولاكو أن يخرج إليه الدويدار وسليمانشاه، وأما الخليفة ان اختار الخروج فليخرج وإلا فليلزم مكانه. فخرج الدويدار وسليمانشاه ومعهما جماعة من الأكابر، ثم عاد الدويدار من الطريق بحجة أنه يرجع ويمنع المقاتلين الكامنين بالدروب والأزقَّة لئلا يقتلوا أحداً من المغول، فرجع وخرج من الغد وقُتل. وعامة أهل بغداد أرسلوا شرف الدين المراغي وشهاب الدين الزنكاني ليأخذ لهم الأمان. ولما رأى الخليفة أن لا بد من الخروج أراد أو لم يرد استأذن هولاكو أن ينـزلوه بباب كلواذي وشرع العساكر في نهب بغداد، ودخل بنفسه إلى بغداد ليشاهد دار الخليفة وتقدّم باحضار الخليفة فأحضروه، ومثل بين يديه وقدّم جواهر نفيسة ولآلئ ودرراً معبَّاة في أطباق ففرَّق هولاكو جميعها على الأُمراء...»(51).
لقد قدّم الخليفة العباسي الهدايا النفيسة الى هولاكو بعد أن قضي الأمر واستوت على الجودي ، وفي حالة واضحة للإنهزام ذهب عدد من الوجوه السياسية والإجتماعية والدينية في بغداد الى هولاكو يطلبون منه الأمان !!!، ولو كان لإبن العلقمي وجاهة عند هولاكو أو تعاون معه لذهب الناس له تحت ضغط عوامل الخوف والفزع ليتوسل لهم عنده أن يستبقيهم ، وأن لاينزل عليهم سيفه ، لكن لم يحدث شيئاً من ذلك .!
ولو كان الشيعة متواطئين مع المغول لما ركبهم السيف، ولو كان الوزير قد تواطأ معهم لشاهدناه مرشداً واضحاً للمغول في تلك الأحداث الجسام ، لكنه كان مسلوب الإرادة والقوة أمام تلك السطوة للمغول وتخاذل الناس .
ثم ان الوزير له تاريخ حسن ضد المغول، فهو الذي كان يدير العمليات العسكرية ضد المغول في سنة 643 هـ، وألحقوا بالمغول الهزيمة، وكان قائدهم آنذاك بجكتاي (52) ولو كان ابن العلقمي قد تعاون مع المغول لما وبخه هولاكو، ولما قتله شر قتلة في أول سنة سبع وخمسين وستمائة، وذلك ما ذكره صاحب تاريخ الخميس(53)، أو على الأقل أنه توفي بعد الغزو المغولي بثلاثة أشهر وفي ظروف غامضة، ولو كان المغول أكرموه لكان بعض المؤرخين قد أثبت التهمة الموجهة إليه بأنه ساعدهم وأكرموه إلاّ أنّ المغول كانوا يرون فيه عدواً لهم، ولذا «ذاق من التتار الذّل والهوان، ولم تطل أيامه»(54).
وقد كتب المؤرخون عن بعض أولئك الأمراء الذين خدموا المغول، فلم يكتبوا لنا أنهم قد ذاقوا الهوان منهم، إلا أن بعض المؤرخين جرى وراء تعصبه في اصدار الأحكام جزافاً.
تجدر الإشارة إلى أن الوزير ابن العلقمي هو من بني أسد ولد في الحلة ولم يكن فارسياً، ولا عيب في أن ينحدر الإنسان من قومية معينة ، إنما العيب أن يسخر مسلم من قومية معينة.(55)
وعليه يظهر أن الوزير مؤيد الدين بن العلقمي كان خبيراً بأمور الملك ، وكان يرى أن البلد بحاجة الى الإستقرار والوحدة والتلاحم وقد أوصى العلماء بنبذ الخلاف والفرقة ، ولم يتخابر أو يتعاون مع المغول ، على عكس أولئك الملوك والأمراء الذين بذلوا مودتهم وأبدوا تعاونهم مع المغول .
...............
مصادر البحث
ــــــــــــــــــــــ
1ـ الأعلام: الزركلي ،ج5 ص321.
2 ـ الفخري في الآداب السلطانية: ابن الطقطقي، ج1 ص241.
3 ـ انظر: فوات الوفيات، ابن شاكر الكتبي ،ج1 ص186.
4ـ جامع التواريخ: رشيد الدين فضل الله الهمداني، ج3 ص62.
5ـ انظر العسجد المسبوك: الأشرف الغساني،ص574 و582 و594، ونحوه في أنوار المشعشعين: الشيخ محمد علي بن الحسين النائيني ج3 ص397.
6ـ الأعلام: الزركلي ،ج5، ص321.
7ـ الوافي بالوفيات:الصفدي، ج1 ص186.
8ـ الفخري في الآداب السلطانية:ابن الطقطقي، ص337.
9ـ الوافي بالوفيات: الصفدي ،ج1 ص186.
10ـ الأعلام:الزركلي، ج5 ص321.
11ـ صاحب الديوان عند الخليفة الناصر لدين الله.
12ـ دائرة المعارف الاسلامية: مجموعة من المستشرقين، ج1 ص241.
13ـ الفخري في الآداب السلطانية: ابن الطقطقي،ص337.
14ـ تاريخ العراق بين احتلالين: عباس العزاوي، ج1 ص262.
15ـ كان ابتداء أمره وكيل للخليفة المستنصر، فمكث مدة في الخلافة، ثم انتقل منها إلى استاذية الدار، ثم منها إلى الوزارة. انظر: الفخري في الآداب السلطانية: ابن الطقطقي،ص331.
16ـ العسجد المسبوك:الأشرف الغساني، ص640.
17ـ الأعلام: الزركلي ،ج5 ص321.
18ـ الفخري في الآداب السلطانية:ابن الطقطقي، ص337.
19ـ العسجد المسبوك:الأشرف الغساني، ص640.
20ـ الفخري في الآداب السلطانية:ابن الطقطقي، ص337.
21ـ العسجد المسبوك: الأشرف الغساني،ج2، ص563.
22ـ الحوادث الجامعة: ابن الفوطي،ص108.
23ـ المصدر نفسه: ص122.
24ـ العسجد المسبوك: الاشرف الغساني، ج2 ص571.
25ـ الحوادث الجامعة: ابن الفوطي ، ص122.
26ـ خطوط المشايخ: أخذوا تعهداً من المشايخ من كلا الطائفتين «الشيعة والسنة» بكف الناس ونصحهم عن تبادل التهم فيما بينهم.
27ـ الحوادث الجامعة ، ابن الفوطي، ص135.
28ـ الحوادث الجامعة: ابن الفوطي ،ص152.
29ـ من المحتمل أن تكون هذه الحادثة هي نفسها حصلت سنة 654 هـ، واختصرها صاحب تاريخ الخميس، وذكرها في حوادث سنة 655 هـ .
30ـ تاريخ الخميس: الديار بكري، ج2 ص276.
31ـ تاريخ الاسلام: الذهبي، ج48 ص29.
32ـ تاريخ الاسلام: الذهبي، ج48 ص42.
33ـ عيون التواريخ: ابن شاكر الكتبي، ج20 ص129.
34ـ الحوادث الجامعة: ابن الفوطي،ص86.
35ـ تاريخ الاسلام: الذهبي،ج47 ص63.
36ـ المصدر نفسه: ج48 ص8.
37ـ تاريخ الاسلام: الدكتور حسن ابراهيم حسن، ج4 ص154.
38ـ تاريخ الاسلام: الذهبي، ج48 ص25.
39ـ السلوك لمعرفة دول الملوك: المقريزي،ج1 ص500.
40ـ الحياة السياسية في العراق في العصر العباسي الأخير: محمد صالح داود القزاز،ص323.
41ـ الحوادث الجامعة: ابن الفوطي، ص141.
42ـ خفيت.
43ـ تاريخ الاسلام: الذهبي، ج47 ص29.
44ـ السلوك لمعرفة دول الملوك: المقريزي،ج1 ص491.
45ـ تاريخ مختصر الدول: ابن العبري،ص269.
46ـ تاريخ الاسلام: الذهبي: ج48 ص35.
47ـ قائد الجند.
48ـ تاريخ ابن الوردي:ابن الوردي، ج2 ص281.
49ـ الفخري في الآداب السلطانية:ابن الطقطقي ،ص338.
50ـ انظر: تاريخ مختصر الدول: ابن العبري،ص270 - 271.
51ـ المصدر نفسه : ص271.
52ـ شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد المعتزلي، ج8 ص239 .
53ـ تاريخ الخميس: الديار بكري، ج2 ص377.
54ـ تاريخ الخلفاء: جلال الدين السيوطي، ص556 .
55ـ الأعلام: الزركلي، ج5 ص321 .
https://telegram.me/buratha