اعداد د.فراس العتابي وحسن الربيعي ||
الباحثين في مركز تاج الحضارة الثقافي
شدَّني ذات مرة وأنا داخل إلى الجامعة مع بعض الزملاء منظر طلابنا وهم يصطفون في أحد محال الحلاقة المقابلة للحرم الجامعي وقد عمل المصفف من شعر رؤوسهم أهراما عالية فبادر بعض الزملاء بلغة ساخرة إن شعرهم قد تكهرب وقال آخر بل اقشعرت الرؤوس، هذه الحكاية كانت المدخل لاقتراح الأستاذ حسن الربيعي أن نتشارك هذه المقالة في الأمر الذي اصطف الطلاب من أجله ورأوه سمة جمالية بينما نظر إليه الأساتذة بأنه ليس كذلك، فتوافقنا على إنها مابعد الحداثة التي تعطي للهامش قيمة ومقدارا؛ فبعد أن كان المركز هو أعلى الرأس، والهوامش هي جوانبه، وكان الشعر يصفف من مركزه متجها صوب جوانبه، تمردت هذه الجوانب في مابعد الحداثة وقالت إن البداية منِّي، والنهاية في مركز الرأس، ففي الحداثة كان الجمال ذا قيمة صارمة، ومركزية متحكمة حتى أعلنت مابعد الحداثة إنَّ الهوامش لها القدرة على الفعل ازاء المتن، كما أعلنت إزالة الحدود، وتلاشيها، وتداخلها، كما إن الزمن فيها زمن سائل، ورخو حدَّ الميوعة في الأشياء، واختلاطها؛ فما كان لباساً للذكور تلبسه الإناث، وما كان ملبوسا أنثويا واصفا، وكاشفا؛ صار موضة للذكور، وما كان مرعيا بحسن الخياطة، والكي؛ صار ممزقا، ومجعدا إنه زمن (المابعد) الذي غزا أجساد شبابنا دون أن تلتفت أذهانهم إلى أبعاده الفكرية، أو إلى سبب نزوح الغربيين صوبه، وإليكم بعض ملامحه علَّها ترشدنا إلى ترجيحٍ نكون فيه مع الشباب، وموضتهم، أو مع الأساتذة، وتذمرهم، أو نترك لك أيها القارئ الحصيف أن تدلو بدلوك في خيار ربما لم نلتفت إليه.
لقد برزت ملامح مابعد الحداثة بوصفها حركة مناهضة لما كان سائدا في عصر النهضة، وردة فعل على المرتكزات الأساسية في الحداثة منذ خمسينيات القرن العشرين، وقد تسيّدت المشهد الفكري إلّا أن هناك من لازال رافضا تسميتها هذه، وقائلا إننا مازلنا في زمن الحداثة، ومن أبرز دعاة هذا القول الألماني (يورغن هابرماس) الذي رأى إن مصطلح (المابعد) يمثل مأزقا ثقافيا، ولا ينم عن أي جانب معرفي، كما إن من المفكرين من طرح مصطلحا موازيا لمصطلح مابعد الحداثة، وهو مصطلح (المابين)، وهو الفيلسوف الأمريكي (دوغلاس كيلنر)، والذي سنمر على رأيه هذا لاحقا في مقالنا عن أميركا، وهل هي حداثية أم مابعد حداثية؟، ولكننا الآن نوجه سؤالنا لمابعد الحداثة:
لماذا الثورة ضد الثالوث الحداثي (العقل)، و(والانسان)، و(العلم)؟
وما الإشكالية في أن يكون العقل مركزا؟
وما الإشكالية في أن يكون الانسان مركزا؟
وما الإشكالية في أن يكون العلم مركزا؟
- الجواب/ يرد في تنظيرات أبرز رواد هذه المدرسة مثل الألماني (مارتن هيدجر)، والفرنسيين ( ميشال فوكو )، و(جيل دولوز)، و(جاك دريدا)، الذين قالوا: إن السمة الأساسية في مابعد الحداثة هي تحطيم، وتفكيك جميع المرجعيات الثابتة، فبما إن الحداثة عدَّت العقل، والانسان، والعلم مرجعيات ثابتة لذلك ركز منظرو مابعد الحداثة على تحطيم هذه المرجعيات، وأما المعين الأكبر الذي اغترف منه منظرو مابعد الحداثة معظم أفكارهم؛ فهو (فريدريك نيتشه) هذا الفيلسوف الذي حطم جميع المرجعيات الثابتة، فقد نقد الانسان، و اللغة، والاخلاق، والعقل وعدَّها أصناما في دعوة منه لتحطيمها في كتابه (أفول الأصنام، أو كيف تتفلسف بمطرقة)، وبالفعل ضُرِبَ الثالوث الحداثي بمطرقة مابعد الحداثة، فجاءت أولى الدعوات لتحطيم مركزية العقل، والقول بلا مركزيته، وليس معنى ذلك تحطيم التفكير بل المعنى تحطيم العقل بوصفه مرجعية ثابتة في معرفة الحقائق، فمابعد الحداثة ترى أن العقل لا توجد فيه حقيقة مطلقة كما ادعى ذلك (ديكارت) في الحداثة بل كل ما في الأمر ان هنالك مجموعة من التأويلات وكل يرى العالم بتأويله، فمقابل مركزية العقل الحداثية تأتي التأويلية في مابعد الحداثة محطمة هذه المركزية؛ لذلك دعا (هيدجر) إلى الهرمينيوطيقا (التأويلية).
وأما الدعوة الثانية لمابعد الحداثة فتمثلت بلا مركزية الانسان في ضربة قاصمة للحداثة التي دعت إلى مركزيته بعد أن نقلته من كائن ميتافيزيقي تقيده الكنيسة إلى كائن اجتماعي حر، وأما بعد الحداثة فقد قالت بعدم وجود طبيعة إنسانية ثابتة، ونادت بتفكيك هذا الإنسان، أو موته، فقد تحول في نظرها إلى سلطة، والى مركزية، وبالتالي فكل الحروب التي نشبت هي بسبب هذا الإنسان، ومركزيته، وتعنته؛ لذلك دعا (فوكو) إلى موته لأنه وجد ان الأخلاق ليست لها مرجعية ثابتة، وسقوط الأخلاق الثابتة يعني سقوط الإنسان، وبالتالي يجب أن يفكك الإنسان، ولذلك يقول (فوكو): أنا لا أؤمن بالطبيعة الإنسانية بمعنى إنه لا يوجد انسان له طبيعة ثابتة بل هو متغير بحسب الظروف والمصالح، مثله مثل (نيتشه) الذي رأى أن لا مرجعيات ثابتة للإنسان بل عليه هو -أي الإنسان- أن يخلق قيمه الخاصة فهو مرجعية نفسه.
وأما ضربة مابعد الحداثة الثالثة فتمثلت بنقدها للعلم كما نظّر له الحداثيون، وأبرز من مارس هذا النقد (مارتن هيدجر) في كتابه (إشكالية الوجود والتقنية) والذي رأى فيه ان العلم الذي نظّر له الحداثيون تحول الى سلطة، وإلى ايديولوجيا، وإن هذه الايديولوجيا أفرزت مرضا خطيرا، وهو التقنية التي تريد أن تحول جميع البشر إلى قطيع، وتمسخ التنوع الثقافي، والتنوع الحضاري؛ أي تدخل جميع البشر في حظيرة واحدة، وكذلك كان رأي (هيدجر) فالعلم بدل أن يفسر الطبيعة تحول إلى ايديولوجيا من اجل فهم الطبيعة، والايديولوجيا لا تسمح لأي مغاير لها بالتفكير إلَّا وفق اشتراطاتها هي فقط؛ فأصبح العلم في جوهره لا علميا؛ بمعنى عدم حريته، وعبوديته لمعتقد فكري قار، ولذلك نادت مابعد الحداثة بلا مركزية العلم، والدعوة للرجوع إلى الفلاسفة الذين سبقوا سقراط، والذين كانوا يتعاملون مع فهم الطبيعة بالتأمل، والتفكر، والتدبر.
وهنا نتساءل: لماذا نقبل انتفاض الغربيين على أنفسهم، ونتداول أفكارهم في حين أن سياقنا سياق مغاير لظروفهم، وتحدياتهم فإن فشلت حداثتهم في تحدياتها فعملوا على تهشيمها، وتحطيم بناها الأساسية، فإن وعودنا القرآنية صالحة باعتقادنا لكل زمان، ومكان؛ فهي تحمل الثابت، والمتغير، وتراعي الركائز، والمتحركات في الطبيعة البشرية ثم لماذا نقبل دعوتهم في العودة إلى ما قبل سقراط في البعد الفلسفي في حركة رجعية لا مبرر لها غير نظرية حداثية قالوا بفشلها، ويصبح الأمر فكريا، ولا نقبل الالتجاء إلى المبتنيات القرآنية، ويعد هذا اللجوء في نظر الحداثيين، ومابعدهم تخلفا؛ في حين أن عودتهم ليست كذلك، في احتكار صارم منهم للحقيقة حتى وهم ينادون بشعار مابعد الحقيقة، وهنا سأعرج على الحقيقة، وهي تسير على سكة الفلسفة الغربية؛ فقد مرَّت بمراحل متعددة، ففي البداية كانت تعني المطابقة؛ فهي حقيقة إن طابقت الواقع بأسبابه الموضوعية، وتجاوزت الأسباب الظاهرية مثل انكسار الملعقة في قدح الماء؛ فهي تتجاوز هذا الانكسار الظاهري، وتقول بحقيقة استواء الملعقة، وعدم انكسارها من الناحية الموضوعية للمطابقة الواقعية، ثم مرَّت الحقيقة بمحطة ثانية، وهي المحطة البراجماتية (النفعية)؛ التي ترى الأفضلية، والأسبقية في إدراك صدقية الأشياء من خلال تطابقها مع أفكار اختبارية (تجريبية) تسعى نحو تحقيق (منفعة) تطبيقية، ثم عَدَت إلى محطة التماسك المنطقي؛ فالأقدر على إشاعة معلومته، والإقناع بها؛ هو صاحب الحقيقة، وهذا ما نراه الآن في وسائل الإعلام التي تصبح رواياتها حقيقية كلما كانت أقدر على الترويج، والإقناع لمتلقيها، ثم وصلنا إلى محطة مقالنا هذا، محطة (المابعد)، والتي يصف فيها (ليوتار) الحقيقة بأنها ذات طابع ذاتي، وليس موضوعيا، وهي عبارة عن تجربة وجدانية يمر بها الإنسان لتكوين، وبناء نظرته للوجود، أي إنه لم ينفِ وجود الحقيقة، ولكنه جعلها تجربة وجدانية للإنسان، وهذا القول يقترب من النظرة الصوفية، والعرفانية في الإسلام إذ ترى هذه النظرة إن إحدى طرق الوصول للحقيقة تكون بوساطة التفكر، والتدبر في الذات، والطبيعة، والوجود بعيدا عن أي قيود عقلية، أو منطقية تحدد هذه النظرة، وإن النتائج التي يصل إليها العارف هي حجة عليه؛ لا على غيره، وعلى سكة الحقيقة (المابعدية) هذه يقف القطار الفلسفي الأمريكي عند منعطف خطير، وهو منعطف ما بعد الحقيقة؛ ((فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ))، وعليه فإننا نعتقد ان الرصاصة التي تهاوت على إثرها الحداثة تمثلت في إصابة الحقيقة المطلقة، وموتها، فقد كانت الحقيقة في الحداثة بمثابة الرأس الذي حين أصيب تهاوى الجسد الحداثي، وظهرت فلسفة المابعد بمرتكزاتها كلها، والتي هي التقويض، والتفكيك، والتشكيك، والتأويل، والتي سنمر عليها بعد قليل، ولكننا نريد هنا نفرق بين مصطلحين وهما (الحق) و(الحقيقة)، فالحق وفق تصورنا هو المرتكز الثابت، وغير المتغير مهما تبدلت الظروف، وتعددت السياقات، وأما الحقيقة فهي متعددة، ومتغيرة بتعدد السياقات والظروف، والقارئين، وللتمثيل على رؤيتنا هذه نقدم مثلين قرآنيين، الأول تمثيل للحقيقة، وكيف إنها ظنية، وتصورية كما في قوله تعالى حكاية عن يوسف وأبيه عليهما السلام ((إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ))، وهنا الحقيقة ظنية تصورية، أما حين تحولت من كونها (حقيقة) إلى (حق) فقد جاءت في قول يوسف لأبيه: (( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا))، وهذا هو الحق في تصورنا، وظننا؛ في محاولة متواضعة تلوذ تحت عنوان الحقيقة لا الحق.
وفي الحقيقة إن مابعد الحداثة التي لم تكتف أن تحطَّ على رؤوس شبابنا، وثيابهم؛ بل حطَّت على أفكار بعض مثقفينا حتى رأوها بيضاء، ومن غير عيوب؛ في حين ان عيوبها على واقعنا الإسلامي، ومخاطرها تنبعث من حيث مرتكزاتها المتمثلة بالتشكيك؛ بمعنى التشكيك في نظرية المعرفة وإعادة تقويمها، والتفكيك الذي يعني تفكيك بنية الخطاب والنص بوصفه غير منسجم ولا متلائم، والتقويض الذي يذهب إلى تقويض السرديات الكبرى أو المرجعيات الكبرى كالعقل، واللغة، والأخلاق، أما المرتكز الأخير فهو التأويل الذي ربما يكون قول نيتشه في إنه: ليس هنالك من حقائق بل كل ما في الأمر تأويلات؛ هو الإيضاح الأبرز له.
ومن المرتكزات الخطيرة كذلك لما بعد الحداثة ما يسمى باللانظام، واللاانسجام، وتفكيك المقولات المركزية الكبرى، والانفتاح غير المقنن، وغير المرتب قبالة الانغلاق الذي مارسته البنيوية، وهذا الانفتاح العشوائي أفضى إلى مشاكل كثيرة، ومتعددة أبرزها الفوضى التي عمَّدتها السياسة الأمريكية فغدت تسمى خلَّاقة، وكيف للفوضى أن تخلق إلَّا كيانات ممسوخة، ومشوّهة، ومن مشاكل مابعد الحداثة ومخاطرها التي تتصل بالدين مرتكز قوة التحرر، فهذه الفلسفة أرادت أن تحرر الانسان حسب ما تدّعي من أوهام الأيديولوجيا، والميثولوجيا البيضاء، وإبدال فلسفة المركز بفلسفة الهامش، والعرضي واليومي، والشعبي، والاهتمام بالمدنّس، والمقموع على حساب الشريف، وغير المدنس، والسوي، والنظيف، كما شكلت الدلالات العائمة مرتكزا خطيرا من مرتكزات مابعد الحداثة إذ يؤمنون بأن النص ليس ذا دلالة محددة، وثابتة، وليس هنالك مدلولا واحدا للنص؛ بل هي متنوعة الدلالة، ومتناقضة، ومتضادة، ومشتتة في الوقت نفسه، وربما يكون المرتكز الأخطر لمابعد الحداثة والذي يتصل بالدين، والحياة هو مرتكز ما فوق الحقيقة، أو ما بعدها كما بينا سابقا إذ إنها تنكر وجود حقيقة يقينية ثابتة فـ (بودريار) ينكر الحقيقة ويعدها وهما، وخداعا كما آمن اسلافه الفكريون (هيدجر) و(نيتشة) بذلك، ومن أخطارها انها تلغي المعيارية في العلاقات بين الناس، وهذا يعد نكوصا غريبا في المسيرة المدنية للإنسانية، ويجرها نحو منزلقات خطيرة، كما إن من مخاطر مابعد الحداثة اختباءها خلف مفاهيم رنانة، ومعتبرة، مثل مفهوم الحرية، والتعددية، وحقوق الهوامش، هذه العنوانات التي تُسرِّع من تلقيها دون التفات إلى مخاطرها الثقافية، والفكرية، والعقدية مثلها مثل سابقتها في النيل منَّا، فمرة نالت منَّا حداثتهم لصالح لونهم، وعرقهم، وعقلهم، ومرة أخرى تنال مابعد حداثتهم من معتقداتنا بمعول التحطيم، والتقويض، والتفكيك، والتأويل؛ في رغبة منها لخلق فرانكشتاين ممسوخ من جذاذات متناقضة لا تفوح منه إلَّا رائحة النشاز، والتضاد، ومصيبتنا فيهم وفي مروجي دعواتهم كالمثل العراقي القائل (يَم حسين جنتي بوحدة وصرتي بثنين).
https://telegram.me/buratha